رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 31 يناير، 2018 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف – شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأتِ دليل على ردّه أو بُطلانه أو نسخه

اختلف أهل العلم في الاحتجاج بشرع من قبلنا، فذهب بعض الأصوليين إلى أنه ليس بحجة، مستدلين بقول الله -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: «.. وكان النبي يُبْعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة». رواه مسلم، وذهب الجمهور إلى أنه حُجة بشروط، واستدلوا على ذلك بأدلة عدة، مما ورد في القرآن والسنة من شرائع الأنبياء على وجه المدح والتقرير والسكوت عليها، منها: قول الله -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)، وقول الله -تعالى-: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (النحل: 123)، ففيه الأمر باتباع شريعة إبراهيم عليه السلام.

     وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والأنبياء إخوة لعَلاَّت، أمهاتهم شتَّى، ودينهم واحد». رواه البخاري (3259) ومسلم (2365)، ومعنى الحديث: أن دين الأنبياء واحد، وهو توحيد الله -تعالى- وإفراده بالعبادة، وإن تفرقت شرائعهم، كمثل الإخوة الذين لهم أب واحد وأمهات شتى وهم الإخوة لعَلاّت.

     وبما في صحيح البخاري وغيره: أنّ الرُّبيّع بنت النضر كَسَرت ثنية امرأة، فطلبوا الأرْش،وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بالقصاص فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟ لا، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم وعفوا.. الحديث.

     والذي في كتاب الله -تعالى-: هو ما كتبه الله تعالى في التوراة على أهل الكتاب من قبلنا في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} المائدة: 45، فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم بشرائع الأنبياء السابقين.

صيام داود -عليه السلام- وقيامه

     ما جاء في الصحيحين: أنّ صيام داود -عليه السلام- أباحه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، بل مدحه وحث عليه: فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أفضل الصيام صيام داود: كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً».

     كذلك ما جاء في قيامه -عليه السلام-: فروى البخاري (1131) ومسلم (1159) عنه أيضاً: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال له: «أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ: صلاةُ دَاوُدَ عليه السَّلاَمُ، وأَحَبُّ الصِّيامِ إِلى اللَّهِ: صيامُ دَاوُدَ، وكانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، ويَقُومُ ثُلُثَهُ، ويَنَامُ سُدُسَهُ، ويَصُومُ يَومًا ويُفْطِرُ يَوْمًا».

ومعنى الحديث: أن أفضل صلاة الليل صلاة نبي الله داود -عليه السلام-؛ حيث كان ينام نصف الليل أولاً، ثم يقوم بعد ذلك للصلاة، فيصلي ثلث الليل، ثم ينام سدسه إلى الفجر.

     والحكمة في تقسمه لليل: لئلا تصيب النفس السآمة، وليقوم لصلاة الفجر وما يتلوها من أذكار الصباح نشيطا غير كسلان، وليبدأ عمله اليومي كذلك، فيستطيع أن يقوم بتأدية ما عليه من الحقوق تجاه أهله وولده والناس وتجاه عمله الذي يزاوله، فلا يذهب إلى العمل والنوم يغالبه، إلى غير ذلك من الفوائد والمصالح.

شرع من قبلنا شرع لنا بشروط

الصحيح أن شَرْع مَنْ قَبْلنا شرعٌ لنا، بشروط فيه:

- أولاً - أنْ يكون شرع من قبلنا ثابتاً بما ذكره الله -جل وعلا- في كتابه الكريم، أو رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح عنه؛ فلا حجة في الأحاديث الضعيفة والواهية، ولا حجة في الإسرائيليات وأخبار أهل الكتاب.

- ثانياً - ألا يأتي في سياق يدل على ردّه وفساده أو كذبه.

- ثالثاً - ألا يأتي في شرعنا ما يُخالفه، ويمنع منه.

كلام جامع

     وللعلامة الشاطبي -رحمه الله- كلامٌ جامع في هذا الدليل وأنواعه؛ حيث يقول: «كل حكايةٍ وقعت في القرآن فلا يخلو أنْ يقع قبلها أو بعدها - وهو الأكثر - ردٌّ لها، أو لا، فإنْ وقع ردٌّ؛ فلا إشكال في بُطلان ذلك المَحْكي وكذبه، وإنْ لم يقع معها ردٌّ، فذلك دليل صحة المَحْكي وصدقه.

- أما الأول: فظاهر، ولا يحتاج إلى بُرهان، ومن أمثلة ذلك قوله -تعالى-: {إذْ قالوا ما أنزلَ الله على بشر من شيء} الأنعام: 91، فأعقب بقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى}. (الأنعام: 91).

     وقال -تعالى-: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا} (الأنعام: 136)، فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله: {بزعمهم}. (الأنعام: 138)، وبقوله: {ساء ما يحكمون} الأنعام: 136، ثم قال: {وقالوا هذه أنعام وحَرثٌ حجر}(الأنعام: 138) إلى تمامه، ورد بقوله: {سيجزيهم بما كانوا يفترون} (الأنعام: 138)، ثم قال: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة} (الأنعام: 139)، فنبّه على فساده بقوله: {سيجزيهم وصفهم}(الأنعام: 139)، زيادة على ذلك.

      وقال -تعالى-: {وقالَ الذين كفروا إنْ هذا إلا إفكٌ افْتَراه وأَعَانه عليه قومٌ آخرون}(الفرقان: 4)، فرد عليهم بقوله: {فقد جاءوا ظلما وزورا} الفرقان: 4، ثم قال: {وقالوا أساطير الأولين} (الفرقان: 5)؛ فرد بقوله: {قل أنزله الذي يعلم السر} الآية، الفرقان: 6، ثم قال: {وقال الظالمون إنْ تَتّبعون إلا رجلاً مَسْحورا} (الفرقان: 8)، ثم قال -تعالى-: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا} (الفرقان: 9)، وقال -تعالى-: {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلهاً واحداً} إلى قوله: {أأُنزل عليه الذكر من بيننا} (ص: 4- 8)، ثم ردَّ عليهم بقوله: {بل هم في شك من ذكري} (ص: 8) إلى آخر ما هنالك.

     وقال -تعالى-: {وقالوا اتخذَ الله ولداً} (البقرة: 116)، وغيرها، ثم ردَّ عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن كقوله: {بل عباد مكرمون} (الأنبياء: 26). وقوله: {بل له ما في السماوات والأرض} (البقرة: 116). وقوله: {سبحانه هو الغني}(يونس: 68).

وقوله: {تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشق الأرض} (مريم: 90)، إلى آخره، وأشباه ذلك. ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه، عَرَف هذا بيسر.

- وأما الثاني: فظاهر أيضا، ولكن الدليل على صحته من الحكاية نفسها وإقْرارها؛ فإنَّ القرآن سُمّي: فُرقاناً، وهدى، وبرهاناً، وبياناً، وتبياناً لكلِّ شيء، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل، والإطلاق والعموم، وهذا المعنى يأبى أنْ يُحْكَى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه!

شرائع الأولين وأحكامهم

     وأيضا: فإنّ جميع ما يُحْكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم، ولم يُنبه على إفسادهم وافترائهم فيه فهو حقٌ، يجعل عمدة عند طائفة في شريعتنا، ويمنعه قومٌ، لا من جهة قدحٍ فيه، ولكن من جهة أمرٍ خارج عن ذلك؛فقد اتفقوا على أنه حقٌ وصدق كشريعتنا، ولا يفترق ما بينهما إلا بحُكم النسخ فقط، ولو نبه على أمرٍ فيه، لكان في حكم التنبيه على الأول؛كقوله -تعالى-: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه} الآية، البقرة: 75، وقوله -تعالى-: {يُحرّفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إنْ أُوتيتم هذا فخذُوه} الآية، المائدة: 41.

وكذلك قوله -تعالى-: {مِن الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمعْ غير مسمعٍ وراعنا لياً بألسنتهم وطعنا في الدين} النساء: 46. فصار هذا من النمط الأول.

     ومن أمثلة هذا القسم: جميع ما حُكي عن المتقدمين من الأمم السالفة، مما كان حقاً كحكايته عن الأنبياء والأولياء، ومنه قصة ذي القرنين، وقصة الخَضِر مع موسى -عليهما السلام- وقصة أصحاب الكهف، وأشباه ذلك». انتهـى من الموافقات (4/ 159 – 161) باختصار.

قلت: وكذلك الحال في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فما قصّه علينا، وأخبرنا به عن حال مَن قبلنا، ولم يأت ما يرده أو يبطله أو ينسخه، فهو حقٌ وشرعٌ لنا!

- والخلاصة: أن شرع من قبلنا الذي أخبرنا الله -جل وعلا- به في كتابه، أو أخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يأتِ ما يدل على ردّه، أو بُطلانه وذمّه، أو نسخه، فإنَّ تقرير الله -جل وعلا- وتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم دليل شرعيته لنا.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك