رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 10 ديسمبر، 2017 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف- النقل الصحيح لا تعارض مع العقل الصريح

تكلمنا في المقال السابق عن الدليل القطعي وأنه هو المقدم على الأدلة كافة، واليوم نتكلم عن التعارض بين الأدلة، والتعارض في اللغة من فعل «عرض»، كضرب، يقال: عرض عارض، أي: حال حائل، ومنع مانع، ومنه يقال: لا تعرض لفلان، أي: لا تعرض له بمنعك باعتراضك أنْ يقصد مراده ويذهب مذهبه. والعارضة: جمع عوارض، وهو ما يستقبلك من الشيء، ومنه سميت العوارض: موانع. انظر: ابن منظور، لسان العرب: 9/27-40. والفيروزابادي: القاموس المحيط: 2/333-334، ومرتضى الزبيدي: تاج العروس: 5/46-47، هذه المعاني تبين أنّ التعارض يحمل مدلول: المواجهة والمقابلة والممانعة، بشكل يحول دون الشيء والشيء.

     وفي الاصطلاح، فقد اختلف العلماء في تعريف التعارض؛ فالغزالي ينص على «أن التعارض هو التناقض». المستصفى من علم الأصول: 2/395، وفي صحة جواز إطلاق التناقض على التعارض نظر، وقال الرازي في المحصول: التعارض يُطلق على التعادل، وهو ما قاله الشوكاني: «أما التعادل: فالتساوي، وفي الشرع: هو استواء الأمارتين». إرشاد الفحول، ص: 273.

     وزاد البزدوي ( تـ 482 هـ) – من الحنفية -: «وركن المعارضة: تقابل الحجتين على السواء، لا مزية لأحدهما، في حكمين متضادين». أصول فخر الإسلام: 3/77. أما إذا كان لأحدهما مزية على الآخر، فلا تساوي بينهما.

مدى إمكانية وقوع التعارض بين النصوص

سنقتصر من ذلك على معرفة مسألتين: الأولى التعارض بين منقولين، والثانية: التعارض بين منقول ومعقول، دون غيرهما.

أما الأولى: وهي التعارض بين منقولين: وفيه أقوال:

القول الأول: يرى جواز وقوع التعارض بين الأدلة بصفة مطلقة، سواء كانت قطعية أم ظنية، نقلية أم عقلية، بدليل وقوع الخلاف بين الصحابة.

القول الثاني: القول بجواز التعارض بين الأمارتين، وعدم جوازه بين الأدلة القطعية.

القول الثالث: يمنع جواز وقوع التعارض بين الأدلة الشرعية في الواقع الأمر نفسه؛ لأنّ وقوعه يدل على نقصان الكمال في حق من صدر منه، وهو الله -سبحانه وتعالى-، والله -سبحانه- منزه عن ذلك، ثم لو جاز حدوثه، لكان المكلف مطالبا بالشيء ونقيضه في الوقت نفسه؟! وهذا محال؛ ولأنه يؤدي إلى تعطيل الشريعة، ولا يقول بهذا أحد! وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه؛ فإنه يستحيل وقوع التعارض في نصوص الشريعة الإسلامية، بل القول بخلافه هو باب من أبواب الملاحدة والزنادقة الموجهة للشرع المبين، ذلك أنها تستهدف زعزعة إيمان ضعفاء الإيمان في هذه الأمة، وتشكيكهم في القرآن العظيم وكماله وحفظه، والسنة النبوية الشريفة؛ من حيث الثبوت والحفظ، ومن حيث انسجام أحكامها وتوافقها، ولا من القول ببطلان هذا الأصل الفاسد، الذي هو ذريعة إلى الإلحاد والكفر.

استحالة وقوع التعارض

و     قد أشار إلى استحالة وقوع التعارض: الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله- عندما نصّ على أنه إذا وقع الخلاف، فإما أنْ يكون السبب وقوع خطأ من أحد الرواة – مع ثقته – أو لنسخ، أو لسوء فهم السامع، وأما حديثان صحيحان، متناقضان من كل وجه، ليس أحدهما ناسخاً للآخر، فهذا لا يوجد أصلاً، ومعاذ الله أنْ يوجد في كلام الصادق المصدوق، الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق، والآفة من التقصير في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القصور في فهم مراده - صلى الله عليه وسلم -، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معا». زاد المعاد ( 3/112).

      وكذا الحافظ ابن حزم، فإنه يردُّ بشدة دعوى التعارض بين النصوص، سواء كان ذلك بين الأحاديث، أم بينها وبين ما ورد في القرآن؛ إذْ هما – بالنسبة له – في مرتبة واحدة من حيث الثبوت، فإذا كان الحديث صحيحاً، فهو عنده يفيد اليقين لا الظن، وقد وضع فصلا: «فيما ادعاه قومٌ من تعارض النصوص»، وهو في هذا، ينطلق من قوله -سبحانه وتعالى-: {وما ينطقُ عن الهوى - إنْ هو إلا وحيٌ يوحى} النجم: وقوله -عز وجل-: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} الأحزاب: وقوله -سبحانه- أيضا: {ولو كان مِنْ عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} النساء:.

     فبناء على هذه الآيات الكريمة وغيرها، يقرر ابن حزم وغيره أنه لا خلاف بين القرآن والحديث الصحيح في الرتبة، كما أن الحديث موافق لمراد الله -تعالى- لترغيبه -عز وجل- في الائتساء بالرسول، وأنه لا خلاف بين النصوص؛ فهي متفقة ضرورة لصدورها عن الخالق سبحانه. الأحكام (2/35)، وإلى هذا يميل القاضي ابن العربي المالكي.

أسباب دعوى التعارض

إذا كان لا يتصور وقوع التعارض بين الأدلة في الأمر نفسه، فما أسباب دعوى التعارض؟ يمكن لنا إجمال ذلك في الأسباب الآتية:

أحد الدليلين ناسخ

- أولا – أن يكون أحد الدليلين ناسخاً، والآخر منسوخا، وفي مثل هذه الحالة، لا يوجد أدنى تعارض بين الأدلة، والمعول إنما هو على الناسخ؛ لأن المنسوخ قد رُفع حكمه، وبطل العمل به.

قصور عقل المكلف

- ثانيا – قصور عقل المكلف عن فهم الدليلين: فقد يعجز الناظر في الدليلين عن فهمهما، فيعتقد تعارضهما، وليس لأمر كذلك، والمتفحص يجد وجها للجمع بينهما، والأنواع في هذا الصدد كثيرة، نذكر منها ما يلي:

أ – أن يتعلق دليلان بحالتين مختلفتين، فيختلف الحُكم بسبب ذلك.

ب – أن يكون أحد الدليلين عاماً، والآخر خاصاً؛ فلا اختلاف بينهما في الحكم، وقد حكى ابن العربي اتفاق المتقدمين والمتأخرين على أنهما يتوافقان، وأن الخاص يفيد تجديد تأكيد في الحكم المبين به، فيقضي هذا على عمومه، وذاك على خصوصه. عارضة الأحوذي ( 3/10).

ج – أن يكون الدليل ظني الدلالة، أي أنه يحتمل أكثر من معنى، بخلاف قطعي الدلالة، فإنه لا يحتمل إلا وجها واحدا، فيقدم الدليل القطعي على الظني، ولا تعارض.

د – أن يتوهم وقوع التضاد بين العقل والشرع، وسيأتي الكلام عليه.

وقوع الاختلاف بين دليل قطعي وآخر ظني

- ثالثا – أن يقع الاختلاف بين دليل قطعي الثبوت، وآخر ظني الثبوت، وهذا لا يعد تعارضاً، لأنه يشترط في ذلك تساوي الدليلين، أما وقد اختلفا، فلا تعارض، ويكون الاعتماد على الدليل القطعي.

حال نقل الراوي

- رابعا – أن يرجع التعارض إلى حال نقل الراوي للخبر:

أ - فقد يتوهم المرء وقوع الخلاف بين الخبرين، بحد لا يُمْكن تصور وقوعه، وهو إذا كان يتعلق بفعلٍ واحدٍ صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كالاختلاف الواقع في الروايات المتعلقة بحجة الوداع، مثل الخلاف في كيفية حجه، هل كان بالإفراد أو القران أو التمتع؟

فيقال: إنَّ الكل نقل ما سمع وشاهد، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم - يتلفظ بنيته، حتى نزل عليه الوحي، فبين له كيفية الحج.

ب - قد يرد خبر يحصر مسألة في قضايا محددة، ثم يأتي خبر آخر يزيد عليه أموراً أخرى، فيظن مَن لا علم له أن في ذلك تعارضاً، غافلا عن كون الشريعة لم تأت جُملة، وإنما جاءت آحادا وفصولا تتوالى، واحدة بعد أخرى، حتى أكمل الله الدين بإتمامها.

ج - قد يقع الناقل الثقة في الوهم، فلا تعارض في مثل هذه الحال.

     فقد رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ «رواه البخاري (1837) ومسلم (1410)»، وفقد ذَهبَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُحْرِمَيْنِ. والصحيح أن هذا وهمٌ من ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فروى أبو داود (1843) عن يزِيدَ بنِ الْأَصَمِّ: عن مَيْمُونَةَ -رضي الله عنها- قَالت: «تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ»، ورواه مسلم (1411): عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ. قَال: وَكَانَتْ خالَتِي وخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وروى أحمد (26656) عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا، وَبَنَى بِهَا حَلَالًا، وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا. وصححه ابن القيم في (الزاد) (3/373)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا». (مجموع الفتاوى) (18 /73).

المسألة الثانية: التعارض بين منقول ومعقول

     أصل المسألة في الكلام على مكانة كل من العقل والنقل: هل هما في رتبة واحدة؟! بحيث يعد كل واحد منهما أصلا مستقلا بنفسه، فيترتب على ذلك أن ما حكم عليه أحدهما بالوجوب أو الحرمة، بالجواز أو البطلان، بالحسن أو القبح، يعد ذلك حكما لازما؟ أم أن العقل يقدّم على النقل؛ بحيث يكفي لوحده في الحكم على الأشياء، كما هو قول المعتزلة والعقلانيين؟ أم أن النقل هو الذي يقدّم على العقل؛ إذْ هو النبراس الذي به يستنير العقل ويهتدي، مثل قول أهل السنة والجماعة؟

     والمتأمل في الكتاب والسنة، يجد الحاجة الماسة إلى النص، وأنّ العقول لا تستقل بإدراك العلوم الشرعية وأحكامها وعللها، فلا بد من مرشدٍ ودليل، نعم، للعقل مجاله الخاص الذي لا يتطاول فيه على النقل، أما ما يبدو من تعارض بينهما، فإنما ذلك يرجع إلى سوء فهم الناظر، وقصور إدراكه.

- قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: «كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافقٌ لصريح المعقول، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً من الناس يغلطون إما في هذا، وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به، كان عارفاً بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول».

- وقال أيضاً: «العقل الصريح لا يُعارض النقل الصحيح، بل يشهد له ويؤيده؛ لأن المصدر واحد؛ فالذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل، ومن المحال أن يُرسل إليه ما يُفسده، والعقل الصريح هو الواضح، والذي لا يختلف عليه اثنان، والنقل الصحيح يتمثل في القرآن الكريم، وما صحَّ عن نبينا عليه الصلاة والسلام. ومعنى قوله: «يشهد له ويؤيده» أنّ العقل يشهد لصحة النقل ويؤيده.

     وإذا تأملت هذه العبارة ستجد أنها صحيحة جداً؛ فالعقل خلقه الله -سبحانه وتعالى-، وهو العليم بكيفية هذا العقل؛ لأنه تابع للروح، والإنسان لا يعلم كيفية عقله، ولا يعلم كيفية روحه التي بين جنبيه؛ فالعقل والروح في داخل الإنسان وذاته، وهذا يعجز عن التعرف على كيفية روحه وكيفية عقله؛ فالذي خلق الإنسان وسوَّاه وصنعه هو الذي وضع هذا العقل فيه، وهو الذي أنزل إليه كتاباً وأحكاما ونظاماً يسير عليه؛ فمن المحال أن الذي يصنع صنعة، يُرسل إليها منهجاً يُفسدها أو يضادها ويخالفها!

     والإنسان لا يقبل ذلك على نفسه، مع ضعفه وعجزه، فمثلاً الصانع الذي يصنع شيئا، يعلم ما يصلحه مما يفسده أو يتلفه، والشركات التي تصنع الأجهزة، تضع معها دليل التشغيل، وهو عبارة عن نظام منقول ممن صنع هذا الجهاز يقول لك فيه: عليك أن تلتزم بنظام التشغيل حتى لا تفسد الصنعة، ونضمن لك سلامة الجهاز؛ ولذلك نقول: لا يمكن على الإطلاق أن يتعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك