رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 25 نوفمبر، 2017 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف – الفرائض والمحارم والحدود- ألفاظ ترسم لنا المنهج الصحيح للمسلم في حياته

تكلمنا في المقال السابق عن القاعدة الجليلة من ضوابط الرد على المخالف وهي السُّكوت عما سكتَ الله -تعالى- عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم لى الله ، وذكرنا أن كل مسألة من مسائل الشريعة – ولاسيما مسائل الاعتقاد – لا يُحكم فيها، نفياً أو إثباتاً إلا بدليل، فما ورد الدليل بإثباته أثبتناه، وما ورد بنفيه نفيناه، وما لم يرد بإثباته ولا بنفيه دليلٌ توقَّفنا، ولم نحكم فيه بشيء، لا إثباتاً ولا نفياً، ولا يعني هذا أنّ المسألة خلية عن الدليل، بل قد يكون عليها دليل، لكن لا نعلمه، فالواجب علينا التوقف، إما مطلقاً، أو لحين وجود الدليل واليوم نكمل الحديث عن هذه القاعدة.

     عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى فَرضَ فرائض فلا تضيّعوها، وحدَّ حُدوداً فلا تعْتدوها، وحرّم أشياءَ فلا تنتهكوها، وسَكتَ عن أشياءَ - رَحمةً لكم غير نسيانٍ - فلا تَبْحثوا عنها»، رواه الدارقطني (4/183) والطبراني (22/589) والحاكم، والبيهقي (10/12-13) وهو حديث حسن، حسّنه النووي كما في الأذكار (505)، والحافظ أبو بكر بن السمعاني في (أماليه)، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (1/221) وابن كثير في تفسيره (1/405)، وقال الألباني في تحقيق الإيمان لابن تيمية (43): حسن بشاهده.

     ونحوه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلالٌ، وما حرّم فهو حرامٌ، وما سكتَ عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإنّ الله لم يكنْ لينسى شيئاً، ثم تلا هذه الآية: {وما كان ربُّك نسيا} مريم: 64»، وقد أخرجه البزار في مسنده (123) وقال: إسناده صالح. والحاكم (2/375) وقال: صحيح الإسناد، والألباني في السلسلة الصحيحة (2256).

     ونحوه عن أبي عثمان عن سلمان رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلمعن السمن والجبن والفراء، فقال: «الحلال ما أحلَّ اللهُ في كتابه، والحرامُ ما حرَّم الله في كتابه، وما سكتَ عنه فهو مما عفا عنه»، خرّجه الترمذي وابن ماجة، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي (1726) وقال في المشكاة (4156): صحيح موقوفا، يمكن تحسينه بشاهده مرفوعا.

استيعاب لأحكام الشريعة الإسلامية

      فهذا الحديث الشريف من الأحاديث النبوية الجامعة؛ ففيه استيعاب لأحكام الشريعة الإسلامية، وتوضيحٍ لهذا الدين وحقيقته؛ ولأجل ذلك أولى العلماء هذا الحديث اهتماما بالغا، بدراسته واستخراج معانيه.

      قال أبو بكر السمعاني: «هذا الحديث أصلٌ كبير من أصول الدين، وحكي عن بعضهم أنه قال: ليس في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلمحديثٌ واحد أجمع بانفراده لأصول العلم وفروعه، من حديث أبي ثعلبة. قال: وحكي عن أبي واثلة المزني أنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلمالدين في أربع كلمات، ثم ذكر حديث أبي ثعلبة.

      ثم قال: فمن عمل بهذا الحديث، فقد حاز الثواب، وأمن العقاب؛ لأنّ من أدّى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه، فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدّين، لأنّ الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث» انتهى.

معالم هذا الدين

      وصدق -رحمه الله-؛ فإننا إذا نظرنا إلى هذا الحديث، وجدنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد حدّد لنا معالم هذا الدين، فعبّر عن شرع الله -تعالى- بألفاظ أربعة: الفرائض، والمحارم، والحدود، والمسكوت عنه، وهذه الألفاظ ترسم لنا التصوّر الصحيح للمنهج الذي ينبغي أنْ يسير عليه المسلم في حياته.

موقف المكلّف من الفرائض

     فأول أمرٍ يتناوله الحديث: بيان موقف المكلّف من الفرائض، بالمحافظة عليها وعدم التفريط في أدائها، فقال: «إنّ الله -تعالى- فرض فرائض فلا تضيّعوها، «والفرائض: هي الواجبات الشرعية التي أوجبها الله على عباده، وألزمهم بها في الكتاب والسنة، ومنها ما يكون واجبا على كل أفراد الأمة، وهو ما يسمّى: بالفرائض العينيّة، ومنها ما هو واجب على الكفاية، أي: إذا قام به من يكفي؛ سقط الإثم عن الباقين».

      فهذه الفرائض - بنوعيها - واجبة على كل مكلّف مادام مستطيعا، فإذا ورد الأمر من الله -تعالى- أو من رسوله [ فلا يجوز ردّه أو عدم الاستجابة له؛ لأن هذا هو مقتضى إيمان العبد بالله ورسوله، كما قال الله -تعالى- في كتابه: {وأطيعوا الله ورسوله إنْ كنتم مؤمنين} الأنفال:1، فهذه الطاعة هي عنوان العبودية والتسليم لحكم الله وشرعه.

ترك المعاصي بأنواعها جميعا

      والثاني: قوله «وحرّم أشياء فلا تنتهكوها»، وهذا فيما يتعلّق بالمحرّمات؛ فقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تركها فقال: «فلا تنتهكوها»، فدعا إلى ترك المعاصي بجميع أنواعها، وإنما عبّر هنا بلفظ الانتهاك؛ ليبيّن حال من يقارف المعاصي من تعدٍّ وعدوان على أحكام الله عزوجل، فأتى بهذه اللفظة للتنفير عن كل ما نهى الله عنه.

فعل المأمور وترك المحذور

      ولما كان مدار التكليف كله على فعل المأمور وترك المحذور، والتقيد بأحكام الشريعة، والالتزام بما ورد فيها، والوقوف عند حدودها، وعدم تجاوزها، أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «وحدّ حدوداً فلا تعتدوه» ، وهي الأمر الثالث.

      والحدود لفظة وردت في مواضع كثيرة من الكتاب والُّسنة، ولها مدلولات كثيرة بحسب ما تتعلق به، ففي الأوامر: يكون الوقوف عند حدود الله، بعدم الخروج عن دائرة المأذون به إلى دائرة غير المأذون، وأما فيما يتعلّق بالنواهي، فيحرم مجرّد الاقتراب منها؛ لأن الله -تعالى- إذا حرّم شيئاً، حرّم كلَّ ما يؤدي إليه، وتلك هي خطوات الشيطان التي جاء التحذير منها في قوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } النور: 21.

ما ورد بيانه في الشريعة

      أما الأمر الرابع: وهو موضع الشاهد من الحديث، فهو قوله: «وسكت عن أشياء - رحمة لكم غير نسيان - فلا تبحثوا عنها «فإذا كان هذا هو موقف المسلم تجاه ما ورد بيانه في الشريعة، فما موقفه تجاه ما سكت عنه الشرع ولم يوضح حكمه؟ وللجواب عن هذا نقول: إذا لم يرد نصّ في حكم مسألة ما، فإننا نبقى على الأصل، وهو الإباحة.

الابتداع ليس مسكوتا عنه

      وهذا هو السكوت المقصود في قوله: «وسكت عن أشياء - رحمة لكم غير نسيان - فلا تبحثوا عنها»، فهو سكوت عن إظهار حُكْمه، ومقتضاه أن يكون باقيا على أصل إباحته، وليس معنى هذا جواز الابتداع في الدين والزيادة فيه؛ بحجة أنه مسكوت عنه؛ فإنَّ الابتداع ليس مسكوتا عنه، بل هو محرّم كما دلّت الأدلّة على ذلك.

      وخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتابه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل، فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما} الأنعام: 145، الآية، وهذا موقوف.

      ومما سبق: يتبين لنا معاني تلك الألفاظ الأربعة، التي ترشدنا إلى القيام بحقوق الله ولزوم شريعته، مع العفو عما سُكت عنه، فدخل الدين كله في تلك الكلمات القليلة الجامعة المانعة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك