رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 18 نوفمبر، 2017 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف- السكوت عما سكت الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم


ذكرنا فيما سبق النهي عن مخالطة أهل الكفر والبدع والضلال! ومجالستهم والسماع لهم، وقراءة مؤلفاتهم، بحجة أننا نريد أنْ نأخذ منهم الحق؛ فالأصل تجنب ذلك؛ لأن الله -تعالى- نهانا عن مخالطة أهل الباطل، واللغو والزور، في كتابه الكريم، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته المكرمة، واليوم نكمل ضوابط الرد على المخالف بهذه القاعدة الجليلة ألا وهي السُّكوت عما سكتَ الله -تعالى- عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم .

     فكل مسألة من مسائل الشريعة -ولاسيما مسائل الاعتقاد- لا يُحكم فيها ، نفياً أو إثباتاً إلا بدليل؛ فما ورد الدليل بإثباته أثبتناه، وما ورد بنفيه نفيناه، وما لم يرد بإثباته ولا بنفيه دليلٌ توقَّفنا، ولم نحكم فيه بشيء، لا إثباتاً ولا نفياً ، ولا يعني هذا أنّ المسألة خلية عن الدليل، بل قد يكون عليها دليل، لكن لا نعلمه؛ فالواجب علينا التوقف: إما مطلقاً، أو لحين وجدان الدليل .

الكفّ عما لم يرد في الشرع

      وقد وردت نصوصٌ كثيرة من  الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، وأئمة السلف وأهل السنة، بالأمر بالكفّ عما لم يرد في الشرع ، والسكوت عما سكت عنه الله ورسوله، وأمسك عنه السلف، وترك الخوض فيما لا علم للإنسان به من دليل أو أثر. (انظر الموسوعة العقدية) .

      فمن الكتاب العزيز: قال الله -تعالى-: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(الإسراء: 36)، وقوله: {وَلاَ تَقْفُ} القَفْوُ: مصدر قولك: قفا يَقْفُو، وهو أنْ يتّبع شيئاً، وقَفَوْتُه أَقْفُوه قَفْواً، وتَقَفَّيْتُه، أي: اتبعته، وقوله (كل أولئك) أي: هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد، وقوله: (كان عنه مسؤولا) أي : سيسأل العبد عنها يوم القيامة ، ويسأل عما عمل فيها.

الله سائلك

     روى الطبري: عن قتادة قال: لا تقل رأيتُ ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم؛ فإنّ الله سائلك عن ذلك كله، وقال الأخفش في قوله: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علمٌ} أي: لا تتَّبع ما لا تَعلم.

      ومعنى الآية: لا تكن تابعاً لما ليس لك به علم ، من الآراء أو الأفكار، أو المذاهب، أو الأشخاص، أو الرُّؤى، لا تكن تابعاً لشيء منها دون بصيرة وتعقل؛ فينهى الله -تعالى- عن اتباع ما لا علم للإنسان به، وهي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقاداً وعملاً، فلا تعتقد ما لا علم لك به، ولا تقلْ ما لا علم لك به، ولا تفعلْ ما لا علم لك به.

لا تتبع ما ليس لك به علم

      قال الشيخ السعدي: «ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبَّت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا؛ فحقيقٌ بالعبد الذي يَعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أنْ يُعدَّ للسؤال جواباً، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله، وإخلاص الدِّين له، وكفّها عما يكرهه الله -تعالى-» انتهى.

      وقال -تعالى-: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(البقرة: 168-  169)، قال ابن كثير: وقوله: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} أي: إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة، كالزنا ونحوه، وأغلظُ من ذلك، وهو القول على اللّه بلا علم؛ فيدخل في هذا كل كافر، وكل مبتدع أيضاً».

       وقال الطبري: وأَمَّا قَوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ}؛ فهو ما كَانوا يُحَرِّمُونَ مِنْ الْبَحَائِر وَالسَّوَائِب والْوَصَائِل والْحَوَامِي, ويَزعمُون أَنَّ اللَّه حَرَّمَ ذَلك}؛ فَقَال -تعالى- ذِكْره لهم: {مَا جَعَلَ اللَّه مِنْ بَحِيرَة وَلَا سَائِبَة وَلَا وَصِيلَة وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب وأَكْثَرهمْ لَا يَعْقِلُونَ}(المائدة: 103). وأَخْبرهُمْ -تعالى- ذِكْره في هذه الْآيَة: أَنَّ قَيْلهمْ إنَّ اللَّه حَرَّمَ هذا!! مِنْ الْكذب الَّذي يَأْمُرهُمْ بِه الشَّيْطَان, وأَنَّهُ قَدْ أَحَلَّهُ لَهُمْ وطَيَّبَهُ, ولمْ يُحَرِّم أَكْله علَيهم, ولَكِنَّهم يقُولُون على اللَّه ما لا يَعْلَمُونَ حَقِيقَته طَاعَة مِنْهُمْ لِلشَّيْطَانِ, واتِّبَاعًا مِنْهُمْ خُطُوَاته, واقْتِفَاء مِنْهُمْ آثَار أَسْلَافهمْ الضُّلَّالِ وَآبَائِهِمْ الْجُهَّال, الَّذِينَ كَانُوا بِاَللَّهِ وبما أُنْزِلَ علَى رسوله جُهَّالًا, وَعَنْ الْحَقّ وَمِنْهَاجه ضُلَّالًا، وَإِسْرَافًا مِنْهُمْ, كَمَا أَنْزَلَ اللَّه فِي كِتَابه عَلَى رَسُوله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال -تعالَى- ذِكْره: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه قَالُوا بَلْ نَتَّبِع مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.

القول على الله -تعالى- بغير علم

      وقال -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(الأعراف: 33)؛ فجعل القول على الله -تعالى- بغير علم، فوق هذه المحرمات كلها، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: فرتب المحرمات أربع مراتب:

      وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منه ، وهو الإثم والظلم، ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها، وهو الشرك به -سبحانه- ثم ربَّع ما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه -سبحانه- بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه.

من كبائر الإثم

      ومما يدل أيضًا على أنه من كبائر الإثم قول الله -تعالى-: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النحل:116-117).

      فتقدم إليهم -سبحانه- بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرامٌ؛ ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه -سبحانه- أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما عَلِم أنَّ الله -سبحانه وتعالى- أحلّه وحرّمه. انتهى . (إعلام الموقعين : 1/38).

خبر من الله جل ذكره

      وقالت الملائكة - وهم الملائكة - عند ربها: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(البقرة: 32)، وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته، بالأوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له ، وتبرِّيهم من أنْ يعلموا أو يعلم أحدٌ شيئًا إلا ما علّمه تعالى ذكره. ( الطبري) .

     فقوله -تعالى-: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} (سبحانك): أي : تنزيهاً لك عن أن يعلم الغيب أحدٌ سواك، وهذا جوابهم عن قوله: {أنبئوني بأسماء هؤلاء}؛ فأجابوا: أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به، ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا، و «ما» في (إلا ما علمتنا) بمعنى «الذي» أي: إلا الذي علمتنا، ويجوز أنْ تكون مصدرية ، بمعنى: إلا تعليمك إيانا .

     وقوله: {إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي: العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك، وفي تعليمك من تشاء، ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل التام، وفيه: أنَّ الواجب على من سئل عن علم لا يعلمه أن يقول: الله أعلم، أو لا أعلم أو أدري اقتداء بالملائكة الكرام، وبالأنبياء، والفضلاء من العلماء .

لا تقولوا الكذب

      وقوله -تعالى-: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون}(النحل: 116)، أي: ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم، بقولكم هذا حلال وهذا حرام ، واللام في (لتفتروا على الله الكذب) هي لام العاقبة، أي: فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم، وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه .

سنة النبي صلى الله عليه وسلم 

وأما ما ورد من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية:

      فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذَروني ما تركتكم؛ فإنما هَلَك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» . متفق عليه، قال النووي -رحمه الله-: هذا الحديث من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدخل فيما لا يحصى من الأحكام.

     أما سبب الحديث: فقد روى مسلم في صحيحه : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا»، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو قلت: نعم، لوجبت؛ ولما استطعتم»، ثم قال: «ذَرُوني ما تركتكم ؛ فإنما هلَك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فَأْتُوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».

     فقوله: (ما نهيتكم) أي: منعتكم، والنهي: هو طلب الكف عن فعل الشيء، (وما أمرتكم) أي: ما طلبت منكم أن تفعلوه، والأمر: هو طلب فعل الشيء. (فأتوا) أي : افعلوا منه ما استطعتم ، وما قدرتم عليه دون مشقة وعسر. وفيه: سهولة هذا الدين؛ حيث لم يوجب على الإنسان إلا ما يستطيعه .

(إنما هلك) وفي رواية (أهلك) أي: أوجب العقوبة لهم في الدنيا والآخرة، كثرة مسائلهم: أي أسئلتهم الكثيرة .

     وقوله: «واختلافهم على أنبيائهم» أي: عصيانهم لهم، ومخالفتهم أمرهم، فبين النبي أن من أسباب هلاك الأمم السابقة: كثرةُ أسالتهم التي بغير حاجة ولا ضرورة، واختلافُهم على أنبيائهم، أي: اختلافًا يُؤدّي إلى كفر أو بدعة؛ إذْ الاختلاف يؤدي إلى التفرّق، ومقصود الشارع عكسه.

أي البقاع خير ؟

     وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : يا رسول الله، أي البقاع خير؟ قال: لا أدري؛ فقال: أي البقاع شر؟ قال : لا أدري؛ فأتاه جبريل -عليه السلام- فقال له: يا جبريل أي البقاع خير؟ قال: لا أدري، قال: أي البقاع شر ؟ قال: لا أدري ، قال: سلْ ربك ، قال : فانتفض جبريل -عليه السلام- انتفاضة، كاد يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: ما أسأله عن شيء؛ فقال الله -جل وعلا- لجبريل: سألك محمد، أي البقاع خير؟ فقلتَ: لا أدري، وسألك: أي البقاع شر؟ فقلتَ: لا أدري؛ فأخبره أنّ خير البقاع المساجد، وأن شر البقاع الأسواق. رواه الطبراني وابن حبان والبيهقي، وصححه الألباني .

      ففي هذا الحديث: توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن الجواب بغير علم، وكذلك توقف معلِّمه جبريل -عليه السلام- عن الجواب بغير علم ، حتى سأل الله -تعالى- عن ذلك، وفي هذا تأديب للمؤمنين بذلك، ألا يقولوا شيئاً بغير علم .

 

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك