رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 7 مايو، 2018 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف – الرَّدُّ على المخالفِ بينَ الغلاةِ والجفاةِ

لم يمنع الإسلام من المجادلة التي يتوصل بها إلى  بيان الحق وتجليته كما قال -تعالى-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل: 125)؛ ولذلك تأتي هذه الحلقات في آداب وضوابط الرد على المخالف ومناظرته، واليوم نختم هذا البحث، بكلام يجمع ما تقدم؛ فنقول: هذا الواجبَ -وهو الرَّدُّ على المخالفِ- كغيرهِ منَ الواجباتِ الشرعيةِ والفرائض، جنحَ به النَّاسُ: إمَّا إلى جانبِ الغلوِ والتنطع والإفراط، وأما إلى جانبِ التساهل والتفريط، وقليلٌ مِمَّنْ رَحمَ الله، هم المتمسِّكونَ بالوسطِ والاعتدالِ في هذا الواجبِ، كما في غيرهِ .

     يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -رحمهُ اللهُ- في بيانِ هذه الحقيقةِ -: قَدْ يَبْغِي بَعْضُ الْمُسْتَنَّةِ إمَّا على بعضِهِم، وإمَّا على نوعٍ مِنْ الْمُبْتَدِعةِ بزيادةٍ على ما أَمَرَ اللهُ به، وهو الْإِسْرافُ الْمَذْكورُ في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}(آل عمران: 147)، وبِإِزَاءِ هذا الْعُدْوَانِ تَقْصِيرُ آخَرِينَ فيما أُمِرُوا به مِنْ الْحَقِّ، أَوْ فِيما أُمِرُوا به مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعروفِ والنَّهْيِ عن الْمُنْكرِ في هذه الْأُمُورِ كُلِّهَا.

     فما أَحْسَنَ ما قَال بعضُ السَّلَفِ: ما أَمَرَ اللهُ بِأَمْرِ، إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ -لا يُبَالِي بِأَيِّهِما ظَفَرَ- غُلُوٍّ أَوْ تَقْصِير، وفعِلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وزِيادَةٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا بِإِزَائِهِ تَارِكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبَعْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ، واَللهُ يَهْدِينا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللهِ.مجموع الفتاوى (14/483).

الساحة الدعوية

     واليوم تَشهدُ السَّاحةُ العلميةُ الدَّعويةُ -ومع الأسفِ الشَّديد- اضطراباً واختلافاً في الموقفِ منْ هذا الواجبِ الشَّرعيِّ؛ ولذلك كانَ منَ الأهميةِ بمكانٍ، أنْ يُسلَّطَ الضَّوءُ على موضوعِ (الرَّدِّ على المخالفِ) تأصيلاً له، وبياناً لأهميتهِ، وكشفاً لموقفِ الغلاةِ والجفاةِ منهُ، مع إبرازِ الموقفِ الشرعيِّ الصحيحِ منهُ، ونقول في ختام هذا البحث الذي فصلنا فيه القول: إن الناس انقسموا فيه إلى قسمين اثْنين :

- القسم الأوَّلُ: الغلاةِ في الرَّدِّ على المخالفِ .

- القسم الثاني: الجفاةِ في الرَّدِّ على المخالفِ.

موقف الغلاة

- أما القسم الأول: وهو مَوقفُ الغلاةِ مِنَ الرَّدِّ على المخالفِ: فيتمثَّلُ موقفُ الغلاةِ مِنَ الرَّدِّ على المخالفِ ، في أخطاء شرعية ودعوية، ومظاهرَ سلوكية، وممارساتٍ عمليةٍ، لعلَّ أهَمَّها:

1- التَّسرُّعُ في الرَّدِّ على المخالفِ، ودونَ تثبتٍ ولا تأكد، ودونَ مراعاةٍ للضَّوابطِ العلميةِ، والشُّروطِ الشَّرعيةِ المرعية، التي سبق الكلام عنها.

2- عَقْدُ مجالسِ الجرحِ والتَّعديلِ مِنْ بعضِ الأفرادِ الذين لا يملكون أهلِيَّةٍ علمية شرعيّة! وكأنَّ أحدَهم يَحسَبُ نفسَهُ الإمام أحمدَ بنَ حنبلٍ، أو يحيى بنَ معينٍ، أو علي بن المديني -رحمهم اللهُ.

3- أنْ يكونَ الباعثُ على الرَّدِّ هو الحسدَ والحقد والتَّشفِّيَ، أو حُبَّ الظهورِ والشُّهرةَ بنقد المشاهير، أو الرِّياءَ والسُّمعة، وليس الإخلاص، وحبُّ الانتصار للحق وأهله، وأنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا، وبيان الدِّين الصحيح.

4- البعدُ التَّامُّ عنْ الحِكمةِ وأُسسها، التي أمر الله -سبحانه- بها في كتابه، والتَّجافِيُ عَنِ النَّظرِ في قضايا المصالحِ والمفاسدِ .

5- الظُّلمُ والبغيُ والعدوانُ، وذلك بمجاوزةِ الحدِّ الشَّرعيِّ في الرَّدِّ على المخالفِ، والتجريح بما لا داعي لذكره من الجرح.

6- ومن صوره: التَّقوُّلُ عليه بكلامٍ لَمْ يَقُلْه، أو الزيادة على كلامه بما يُغيّر المعنى!

7- ومن صوره: السّعي لإسقاطُ المخالفِ وتجريحُهُ وإخراجه من دائرة أهل السّنة والجماعة في المسائلِ الاجتهاديةِ، التي يَسوغُ فيها الخلافُ بينَ أهلِ السُّنَّةِ، التي ينبغي أنْ يَعذُرَ المرءُ فيها أخاهُ، ولا يشنع عليه .

- وقد ثبتَ عن الإمامِ أحمدَ -رحمهُ اللهُ- أَنَّهُ قال: «إِخْراجُ النَّاسِ مِنَ السُّنَّةِ شَديدٌ». أخرجه الخلال في السُّنَّة (رقم513).

المخالف لهذه الأصول

     ويقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -رحمهُ الله-: «ولهذا كان أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ على تَبْدِيعِ مَنْ خالَفَ في مِثْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ، بخلَافِ مَنْ نازعَ في مسائلِ الِاجْتِهَادِ، الَّتي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي تَوَاتُرِ السُّنَنِ عنه، كَالتَّنَازُعِ بينَهُم في الْحُكْمِ بِشاهِدِ ويَمِينٍ، وفي القُسَامَةِ والْقُرْعَةِ، وغير ذلِك مِنْ الْأُمُورِ الَّتي لَمْ تَبْلُغْ هذا الْمَبْلَغَ». مجموع الفتاوى (4/425).

أهل التوحيد

     ويقولُ أيضاً -رحمهُ اللهُ- في شأنِ أهلِ التَّوحيد: «وإنْ حَصلَ بينهم تنازعٌ في شيءٍ مِمَّا يَسوغُ فيه الاجتهادُ، لم يُوجِبْ ذَلكَ تَفَرُّقاً ولا اختلافاً، بلْ هم يَعلمونَ أنَّ المصيبَ منهم له أجرانِ، وأنَّ المجتهدَ المخطئَ له أجرٌ على اجتهاده، وخطؤه مغفورٌ له». اقتضاء الصراط المستقيم (1/457).

     وقال الحافظُ الذَّهبيُّ -رحمهُ اللهُ-: «ولو أَنَّا كلَّمَا أَخْطَأَ إِمَامٌ فِي اجْتِهَادِهِ فِي آحَادِ المسائِل، خطَأً مَغْفُوراً لَه، قُمْنَا علَيه وبدَّعْنَاهُ وهجَرْنَاهُ؛ لَمَا سَلِمَ معنا لا ابنَ نَصْرٍ، ولاَ ابْنَ مَنْدَةَ، ولاَ مَنْ هو أَكْبَرُ منهما، واللهُ هو هادِي الخَلْقِ إِلى الحَقِّ، وهُو أَرحمُ الرَّاحمِينَ؛ فَنَعُوذُ بِاللهِ منَ الهوَى والفظَاظَةِ». سير أعلام النبلاء (27/38).

الولاء والبراء

8 – ومن الغلو في الرد على المخالف: عَقْدُ الولاءِ والبراءِ في مجالِ - الرَّدِّ على المخالفِ - على قولِ واحدٍ مِنْ أهل العلمِ، أَوْ طُلابهِم، فإذا خالفَ هذا القولَ أَحدٌ مِنَ النَّاسِ ضَلَّلَهُ أولئكَ الغلاةُ، أو بَدَّعُوهُ، وشَهَّروا به في الآفاقِ، واستباحوا عِرضَهُ بأسوأِ العباراتِ، وأقذعِ الكلماتِ، ولو كانَتْ مخالفتُهُ هذه مستندةً على قولٍ آخرَ لبعضِ أهلِ العلمِ الثِّقاتِ، ولا ريبَ أنَّ هذا المسلكَ المشينَ، هو عينُ الحزبيةِ الذَّميمةِ  والطائفية المقيتةِ والعصبيةِ البغيضةِ .

منهجية متينة

     يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -رحمهُ اللهُ- ورفعَ قدرهُ في المهديينَ في كلمةٍ تأصيليةٍ منهجيةٍ متينة: فأَئمَّةُ الدِّينِ؛ هُمْ على مِنْهَاجِ الصَّحابةِ -رِضوانُ اللهِ علَيهِم أَجمعِين- والصَّحابةُ كَانوا مُؤْتَلِفِينَ مُتَّفِقِينَ، وإِنْ تَنَازَعُوا فِي بعضِ فُرُوعِ الشَّرِيعَة في الطَّهارةِ، أَوْ الصَّلاة، أَوْ الْحجِّ، أَوْ الطَّلَاقِ، أَوْ الْفَرَائِضِ، أَوْ غيرِ ذلِك؛ فَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ .

     ومَنْ تَعَصَّبَ لواحدِ بِعَيْنِه مِنْ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْباقِينَ فهو بِمنزِلَةِ مَنْ تَعَصَّبَ لواحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الصَّحابَة دُونَ الْبَاقِينَ، كالخارِجِيِّ الَّذي يَقْدَحُ في عُثْمَانَ وعَلِيٍّ -رضِيَ اللهُ عنهما-؛ فهذه طرائقُ أَهلِ الْبِدَعِ والْأَهْواء، الَّذِين ثَبَتَ بِالْكِتَابِ والسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ خَارِجُونَ عَنْ الشَّرِيعَةِ والْمِنْهَاجِ الَّذي بَعَثَ اللهُ بِه رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم .

     فَمَنْ تَعَصَّبَ لِواحدِ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِعَيْنه؛ فَفِيه شَبَهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، سوَاءٌ تَعَصَّبَ لمالِكٍ أَو الشَّافعِيِّ أَو أَبِي حَنِيفَةَ أَو أَحْمَد أَوْ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ غَايَةُ الْمُتَعَصِّبِ لِوَاحِدٍ منهم أَنْ يكُونَ جاهِلًا بِقَدْرِهِ في الْعِلْمِ والدِّينِ، وبِقَدْرِ الْآخَرِينَ؛ فَيَكُونُ جاهلًا ظَالِمًا، واَللهُ يَأْمُرُ بِالعلْمِ والْعَدْلِ، ويَنْهى عن الْجهلِ والظُّلْمِ، قال -تعالَى-: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(الأحزاب : 72 ).

مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ

فَالْواجبُ على كُلِّ مُؤْمِنٍ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وعلَماءِ الْمُؤْمِنِينَ، وأَنْ يَقْصِدَ الْحَقَّ وَيَتَّبِعَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ، ويَعْلَمَ أَنَّ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْهُمْ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَان، ومَنْ اجْتَهَدَ مِنْهُمْ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ لِاجْتِهَادِهِ ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ .

وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَّخِذَ قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ شِعَارًا يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ وَيَنْهَى عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ “ . مجموع الفتاوى  (22/252).

التنقيبُ عَنِ الأخطاءِ

9- ومن الغلو في الردّ: التنقيبُ عَنِ الأخطاءِ، والتصيُّدُ للهفواتِ، والفرحُ بالزَّلاتِ، والدُّخولُ في المقاصدِ والنِّيَّاتِ، وتحميلُ الكلامِ أسوأ الاحتمالاتِ.

     يقول الإمامُ ابنُ قيم الجوزية -رحمهُ اللهُ-: «ومِنَ النَّاسِ مَنْ طَبْعهُ طبعُ خِنزيرٍ، يَمُرُّ بالطيباتِ فلا يَلْوي عليها، فَإِذا قامَ الإنسانْ عنْ رَجيعهِ قَمَّهُ، وهكَذا كثيرٌ منَ النَّاسِ يَسمعُ مِنكَ، ويَرى منَ المحاسنِ أضعافَ أضعافِ المساوىء؛ فَلا يحفظُها، ولا يَنْقُلُها، ولا تُناسِبُه؛ فَإذا رَأى سَقطةً، أَوْ كَلمةً عوراءَ : وَجَدَ بُغيتَهُ وما يُناسِبُها؛ فَجَعلها فَاكهتَهُ ونُقْلَه». مدارج السالكين (1/403).

الآثار السيئة

وقد كانَ لهذا الموقفِ السَّلبيِّ الَّذي اتَّخذهُ الغلاةُ منهجاً لهم في الرَّدِّ على المخالفِ آثارٌ سيئةٌ، وعواقبُ وخيمةٌ على الدعوة والدعاة، وطلب العلم والفقه في الدّين، منها :

1- صَرْفُ طَاقاتِ الشبابِ وأوقاتِهم، عَنْ طلبِ العلمِ والرُّسوخِ فيهِ، والاشتغال عنِ الدَّعوةِ إلى اللهِ -تعالى- وإهدارُ الأوقات الجليلة في أمورٍ هم ليسوا أهلاً لها.

2- إشعالُ نارِ الفتنِ بينَ أهلِ العلمِ وطلابهِ، نتيجةً لكثرةِ القيلِ والقالِ والتجريح، ومجاوزةِ الحدِّ الشَّرعيِّ في نَشْرِ الكلامِ ونَقْلهِ .

3- تمزيقُ لُحمةِ أهلِ السُّنةِ، وتشتيتُ الصَّفِّ السلفيِّ القائمِ على منهاجِ النبوةِ، وحصول التفرّق المذموم .

4- بروزُ ظاهرةِ التعالمِ، وشيوعُ حُبِّ الظُّهورِ الَّذي منْ شأنهِ أن يَقصمَ الظُّهورَ.

5- انفصامُ عُرى الأخوةِ الإسلاميةِ، وتقطُّعُ أوصالِ المحبةِ الإيمانيةِ، والتوادّ بين طلاب العلم.

6- انحسارُ مَدِّ أهلِ السُّنةِ، وتقوي أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ بعضهم ببعضٍ، وفتح المجال لدعوات أهل البدع بالانتشار والتمدُّد.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك