رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 15 ديسمبر، 2017 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف- الحقُّ لا يُعرف ولا يُوزن بالرجال اعرف الحقَّ تعرفْ أهله

ما زلنا نتكلم في هذه السلسلة المباركة عن ضوابط الرد على المخالف، وذكرنا في الحلقة الماضية عن التعارض بين الأدلة، وذكرنا أنه لا يمكن على الإطلاق أن يتعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح، واليوم نتكلم عن أن الحق لا يُعرف، ولا يُقاس، ولا يُوزن بالرجال، بل اعرف الحقَّ، تعرفْ أهله.

     وهذه كلمة ربانية عظيمة النفع، جليلة القدر، أُثرت عن الخليفة الراشد علي رضي الله عنه ، وتلقاها عنه الأئمة والعلماء بالقبول والعمل. انظر: الإحياء (1/53)، وصيد الخاطر (36)، فيض القدير (1/17)؛ وذلك لما رأى علي رضي الله عنه الفتنه قد حصلت بين المسلمين، واختلفت الآراء والمذاهب والرجال، قال: إنّ الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله.

     فالواجب على المسلم اتباع الحق الذي جاءت به النصوص المُحكمة من الكتاب العزيز، والسنة النبوية، كما أمر الله -تعالى-، لأنها معصومة عن الخطأ والنقص والزلل، قال -سبحانه-: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} آل عمران: 103، والقرآن العظيم هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، الذي أمرنا بالتمسك به، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، مَن قال به صدق، ومَن حَكَم به عدل، ومَن دَعا إليه، هُدي إلى صراطٍ مستقيم.

     قال الحافظ ابن كثير: «وقد ضُمنت لهم العصمة، عند اتفاقهم، من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا، وخيف عليهم الافتراق، والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة، فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه».

      وهكذا السنة النبوية الشريفة؛ فإنها معصومة عن الخطأ أيضا؛ لأنها وحيٌ من الله -تعالى- إلى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم - كالقرآن، كما قال الله -عز وجل-: {وما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وًحيٌ يُوحى} النجم: 3-4.

الحق مقصور على الوحيين

     فالحق -إذاً- محصورٌ ومقصورٌ في الوحيين، وفي فهم الصحابة الكرام لهما، ومَن تبعهم بإحسان، وفي اتباع نصوص الكتاب والسنة، وليس مقصوراً ولا محصوراً في كلام فلان من البشر، وهذا في غير الأنبياء؛ فإن الأنبياء، معصومون في تبليغ الوحي والرسالة، فليس هناك خطأ أبداً، والعصمة للأنبياء فيما يبلغونه من الوحي متفق عليها بين المسلمين.

      وأما المشايخ وأهل العلم والحديث والتفسير والفقه والمعلمون وغيرهم، فإنهم يُصيبون ويُخطئون، ولا يصح أبداً أنْ يقال: إن فلانا لا يتكلم إلا بالحق! فهذا يعني العصمة من الخطأ، وهي منتفية عن بني آدم بالأصل، كما قال -تعالى- في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم». رواه مسلم. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخطَّائينَ التوَّابونَ». وهو حديث حسن، رواه أحمد والترمذي (2629) وابن ماجة (3447) وحسنه الألباني.

العبد لابد أن يخطيء

      وهذا حق؛ فلابد للعبد أنْ يخطئ؛ فالله -سبحانه وتعالى- يحق الحق بكلماته، لكن كلما كان الرجل أعلم، كان خطؤه أقل، وصوابه أكثر، وكلما كان جاهلاُ كان خطؤه أكثر، وصوابه أقل، والعلماء الربانيون عامة أقوالهم صواب؛ ولذلك فمرجعيتنا إليهم؛ لأن أكثر ما يقولونه صواب، لا لأن كل ما يقولونه صواب، لكن لأن الصواب في أقوالهم أكثر؛ فوجب الرجوع إليهم.

الحق لا يوزن بالرجال

      فالحق -إذاً- لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق، بل كل قول يُحْتَجُّ له ولا يُحتجُ به، خلا قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحتج به؛ فالإنسان مهما كانت منزلته فهو بشرٌ معرض للخطأ، وقد يكون صاحب دين وورع، لكنه ليس صاحب فهم قوي، وقد يكون صاحب فهم قوي لكنه ليس بصاحب علم، فعض على هذا الأصل بالنواجذ، واحذر أن يلتبس عليك الأمر؛ ولذا قال القرطبي -رحمه الله- عند تفسيره لقوله -تعالى-: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة: 42، قال: «قوله -تعالى- {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} اللَّبس: الخلط، لبست عليه الأمر ألبسه؛ إذا مزجت بَيِّنه بمشكله، وحقّه بباطله، قال الله -تعالى-: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} الأنعام، وفي الأمر لبسة، أي: ليس بواضح، ومن هذا المعنى قول علي -رضي الله عنه - للحارث بن حوط: يا حارث، إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.

ذم التعصب للرجال

     والناظر في كلام العلماء، يجدهم يستشهدون بهذه الكلمة في معرض ذمِّهم للتعصب للرجال، والتحذير منه، وذم التقليد الأعمى، فمتى ظهر للإنسان الحق، فلا يجوز له الالتفات بعد ذلك إلى غيره، بدعوى صدوره من عالم أو إمامٍ كبير، أو معظّم في النفوس!

      قال الحافظ ابن الجوزي -رحمه الله-: «اعلم أنَّ المقلّد على غير ثقة فيما قلّد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أُعطي شمعة يستضيء بها أنْ يُطفئها ويمشي في الظلمة!

      واعلم أنّ عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص، فيتبعون قوله من غير تدبرٍ! قال وهذا عين الضلال، لأن النظر ينبغي أنْ يكون إلى القول لا إلى القائل، كما قال علي - رضي الله عنه - لحارث بن حوط، وقد قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: يا حارث إنه ملبوس عليك، إنّ الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله». اهـ منتقى تلبيس إبليس (77ص)، وانظر صيد الخاطر (36-37). وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «.. فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس، وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، يبلغونهم ما قاله، ويفهمونهم مراده، بحسب اجتهادهم واستطاعتهم». الفتاوى (20/224).

      وقال الشاطبي -رحمه الله-: «إذا ثبت أنَّ الحق هو المعتبر دون الرجال؛ فالحق أيضا لا يُعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه». الاعتصام، وانظر إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد» للصنعاني -رحمه الله- (105) وكتاب (الروح) لابن القيم (357).

       وقال الغزالي -رحمه الله-: «فاعلم أن مَنٍ عَرف الحق بالرجال، حار في متاهات الضلال، فاعرف الحق تعرف أهله، إن كنت سالكا طريق الحق، وإنْ قنعت بالتقليد، والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بين الناس، فلا تغفل الصحابة، وعلو منصبهم». الإحياء (1/29).

اختيار الأقوال

      ولذلك: من الأخطاء التي يراها المرء في حياة كثير منا في هذا المجال، أن ترى اختيار الأقوال ليس مبنيا على الدليل والاستدلال، وإنما بمجرد أن القائل بهذا القول هو شيخ مشهور وإمام كبير، أو لأن القائل بهذا القول أكثر علما ممن قال بسواه، أو هو قول الأكثرين، أو لأن المقبل عليه من الناس أكثر، أو لأنه المشهور، أو نحو ذلك مما يدل على أن السالك لهذا الدرب، حاله كحال العوام الذين يعتبرون الصناعة بالصانع، كما قال المناوي -رحمه الله-: «ودأبهم - أي العوام - أن يعتبروا الصناعة بالصانع، خلاف قول علي - رضي الله عنه -: الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله». فيض القدير (1/17).

     وقد مرَّ زمن يقول فيه القائل: ما قال شيخنا فهو الحق، وما قال شيخكم ليس كذلك، حتى صار بعض الناس يعتقد بأنّ كل ما يقوله أبو حنيفة حق! ويقول الآخر: كل ما يقوله مالك حق! وآخر يقول: كل ما يقوله الشافعي حق! وآخر يقول: كل ما يقوله أحمد حق!

      وانتشر التعصب المذهبي، وصار هناك تقاتل بينهم، وتباغض وتدابر خلاف ما أمر الله -تعالى- به، وكان في وقت من الأوقات هناك أربعة محاريب في المسجد الواحد، لا يصلي هؤلاء وراء هؤلاء، ولا هؤلاء وراء هؤلاء؛ لأنهم خرجوا عن هذه القاعدة، ومشوا على شيء باطل، وهو أن: كل ما يقوله فلان هو الحق، والله -تعالى- لم يحصر الحق في رجل، إلا محمداً - صلى الله عليه وسلم -.

قصة وعبرة

      وإليكم هذه القصة: يقول القاضي ابن العربي -رحمه الله-: إن شيخه الإمام أبا بكر الطُّرطوشي -رحمه الله- دخل المسجد، وصلى ورفع يديه عند الركوع، وهناك بعض المتعصبة لمذهب الأحناف، وليس عندهم في مذهبهم رفع اليد إلا في تكبيرة الإحرام فقط، فلما رأوا هذا الإمام يرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس عند الركوع، يقول ابن العربي: سمعتُ بعضهم يقول لبعض: ألا ترون إلى هذا المشرقي، كيف دخل مسجدنا ويرفع يديه عند الرفع منه؟، قوموا إليه فاقتلوه، وارموا به في البحر، ولا يراكم أحد! يقول ابن العربي -رحمه الله-: فطار قلبي من بين جوانحي، وقلت: سبحان الله ! هذا الطرطوشي فقيه الوقت، هذا من أكبر علماء الزمان، وذهب إليهم، وقال: اتقوا الله، فقالوا لي: ولماذا يرفع يديه؟، قلت: كذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يفعل، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه.

      قال: فجعلتُ أسكّنهم، وأسكتهم، حتى فرغ من صلاته، وقمتُ معه إلى المسكن، فرأى تغير وجهي وانزعاجي، فسألني، فأخبرته، فضحك، ثم قال: ومن أين لي أن أُقتل على سُنُّة؟. انظر: الاعتصام للشاطبي ص: (464). هكذا قالوا بكل تعصب واستهتار واستهانة بحق المسلم: اقتلوه، وارموه في البحر، ولا أحد يدرى، ولا أحد يسمع ! لأجل مسألة فقهية فرعية!

مسألة مهمة

      وهاهنا مسألة مهمة: وهي: أن بعض الناس يقول: بما أنك تقول الآن: إن الحق لا يُعرف بالرجال، فإذاً أنا غير ملزم بقول أي عالم، بل نحن والعلماء شيءٌ واحد، ما دامت المسألة أن الحق لا يعرف بالرجال، فأنا غير ملزم بكلام فلان وفلان من العلماء!.

      وفي ذلك نقول: لقد أبعدت النجْعة، وخالفت الحق؛ فنحن عندما نقول: العلماء غير معصومين، ليس معناه إلغاء وظيفة العلماء، ولا النيل من مكانتهم، ولا معناه: أن تستفتي نفسك وأنت جاهل، ولا أن تأخذ دينك من القرآن والسنة مباشرة، وأنت لم تدرس الشرع وعلومه.

      كيف نلغي كلام فلان وفلان والله -تعالى- يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} النحل: 43؟ ويقول -سبحانه-: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} آل عمران: 7.

لابد من الرجوع لأهل العلم والفقه

      فإذًا لابد من الرجوع لأهل العلم والفقه، وكون العالم غير معصوم، لا يلغي مكانته ولا عمله المهم في المسلمين، وتبليغه للدين، ولا يلغي الرجوع إليه، وسؤاله وطلب العلم على يديه، بل يجب الرجوع لأهل العلم فيما ينزل بك من النوازل، وهذا العالم إذا أفتاك، وكان اجتهاده صحيحاً، فإنه يؤجر أجرين: أجر الإصابة، وأجر الاجتهاد، وإذا كان مخطأ فهو مأجور أجراً واحداً على اجتهاده؛ لأنه بشر، فأنت فعلت ما أُمرتَ بالاستفتاء، وهو فعل ما يجب عليه بالاجتهاد، إذا كان مؤهلاً لذلك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك