رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 أبريل، 2018 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف- الجَمْعُ بين المُتَماثلات والتفريق بين المختلفات

 

لم يمنع الإسلام من المجادلة التي يتوصل بها إلى  بيان الحق وتجليته، كما قال -تعالى-: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل: 125)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»، وقد أخذ منه جماعة من أهل العلم وجوب المناظرة والمجادلة، ولا يخفى أنها قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، وقد تحرم، ومن هذا الأب ما قاله طائفة من السلف: «ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خُصموا، وإن جحدوا فقد كفروا»؛ ولذلك تأتي هذه الحلقات في آداب الرد على المخالف وضوابطه ومناظرته، واليوم نتكلم عن القاعدة العاشرة من قواعد الرد على المخالف وآدابه وهي: الجَمْعُ بين المُتَماثلات ، والتفريق بين المختلفات.

     الشريعة جاءت بالعدل، وهو أصلٌ عظيم من أصولها، ومن العدل: التسوية بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، وهذا ظاهر ظهوراً جلياً لكل من تأمل القرآن الكريم، والسنة النبوية، بلا شك، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وهو -سبحانه- كما يُنْكر التسوية بين المختلفات؛ فهو يسوي بين المتماثلات، كقوله -سبحانه وتعالى-: {أكفاركم خيرٌ مِنْ أولئكم أم لكم براءَة في الزُّبر}. منهاج السنة (3/89).

أصلٌ عظيم

     وهذا الأصل العظيم بني عليه أمور جليلة؛ فقد بُني عليه القياس؛ حيث إنه قائم على إلحاق المثل بمثيله، وبنيت عليه القواعد الفقهية؛ حيث إنها قائمة على تقعيد قاعدة تجمع تحتها فروعا عديدة متماثلة في الجانب المعتبر منها. هذه المسألة بكلام نفيس لابن القيم -رحمه الله-؛ حيث قال : «وإذا تأملت أسْرار هذه الشريعة الكاملة وجدتها في غاية الحكمة، ورعاية المصالح لا تفرق بين متماثلين البتة، ولا تسوى بين مختلفين ، ولا تحرم شيئا لمفسدة، وتبيح ما مفسدته مساوية لما حرمته، أو راجحة عليه ، ولا تبيح شيئا لمصلحة وتحرم ما مصلحته مساوية لما أباحته البتة ، ولا يوجد فيما جاء به الرسول شيء من ذلك البتة “ . بدائع الفوائد : (3/1072). ومن ظنَّ أن الشريعة تفرق بين المتماثلات، أو ربما تفرق بينها فإنّ هذا الفرق - المظنون عنده - لا يخلو من حالين :

أ) إما أنْ يكون هذا الفرقُ وصفا غير مؤثر في الحُكم ، وعليه فلا يُناط به .

ب) وإما أنْ يكونَ هذا الفرق، فرقا متوهّما عنده ، لا حقيقة له .

عليها قامت أحكام الشرع

     هذه المسألة وهي الجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، هي خاصة العقل الصحيح, وصفة الفطرة السليمة، وعليها قامت أحكام الشرع الحكيم؛ فالشيء يُعْطى حُكم نظيره، وينفى عنه حُكم مخالفه، ولا يجوز العكس بحال؛ وهو أنْ يفرق بين متماثلين، أو يجمع بين مختلفين؛ ولذلك أدلة كثيرة في القرآن الكريم :

      ففي جانب التفريق بين المتماثلات، قال الله -تعالى- في ذمّ اليهود : {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}(البقرة: 85)، وذلك أنهم أغفلوا حكم التوراة في سفك الدماء، وإخراج أنفسهم من ديارهم ، وأقاموه -أي حكم التوراة - في مفاداة الأسرى، وكان الواجب عليهم إقامته في شأنهم كله.

     وقال -تعالى-: في شأنهم -أيضاً- : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}(البقرة : 91)؛ فكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مع ما فيها من التصديق لما معهم من التوراة والإنجيل، والجميع يخرج من مشكاة واحدة؛ فكان الكفر ببعض ذلك كفراً بالجميع! وجحداً له! أما في جانب الجمع بين المختلفات فقد قاس اليهودُ - قبّحهم الله - الربَّ العظيم القدير جل جلاله، على المخلوق الضعيف العاجز الفقير! فوصفوه -سبحانه وتعالى- بصفات المخلوقين! ومن ذلك :

قولهم : {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}(المائدة : 64). وفيه: وَصْف الرب -سبحانه- بالبخل وإمساك اليد.

وقولهم : {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}(آل عمران: 181). وفيه: وصف الله -تعالى- بالفقر والحاجة .

وقولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ}(التوبة: 30)، وفيه: إثبات الصاحبة (الزوجة) والولد، وهي من صفات المخلوقات، ووافقهم في ذلك النصارى القائلون: {المَسِيحُ ابْنُ اللهِ}(التوبة : 30).

صور من التناقض والاضطراب

فكل مَنْ فرّق بين متماثلين, أو جمع بين مختلفين، من أهل الأهواء، ومبتدعة المسلمين؛ بأنواعهم وفرقهم، يكون فيه شبهٌ من اليهود أو النصارى، وهم إمامه وسَلَفُه في ذلك، أعاذنا الله من هذا المسلك الردي .

     فنفاة الصفات - بعضها أو جميعها - أو نفاة الصفات دون الأسماء، أو الصفات والأسماء جميعاً فرَّقوا بين المتماثلات, في القول في صفات الله -سبحانه-؛ فإنَّ القول في بعض الصفات، كالقول في البعض الآخر نفياً وإثباتاً، وكذلك القول في الصفات كالقول في الأسماء، وكذلك القول في الصفات والأسماء، فرعٌ عن القول في الذات .

وهم -أيضاً- قد جمعوا بين المختلفات؛ لأنهم لم يعتقدوا التعطيل، إلا بعد أنْ قامت عندهم شُبهة التشبيه؛ ولهذا كان كل معطل مشبهاً.

      وكذلك نفاة القدر فرقوا بين المتشابهات والمتماثلات من وجه؛ حيث اعتمدوا النصوص التي تُثبت قُدرة العبد ومشيئته، وأنكروا النصوص التي تثبت قدرة الخالق -سبحانه- ومشيئته وخلقه, وسابق علمه، وجمعوا بين المختلفات من وجه ؛ حيث قاسوا المخلوق بالخالق, وجعلوهما سواء فيما يجوز, ويجب, ويمتنع .

     قال ابن قتيبة -رحمه الله-:  «ألا تَرى أنَّ أهل القدر حين نظروا في قدر الله -الذي هو سرّه - بآرائهم , وحملوه على مقاييسهم، أرتهم أنفسهم قياساً على ما جُعل في تركيب المخلوق من معرفة العدل من الخلق على الخلق ، أنْ يجعلوا ذلك حكماً بين الله وبين العبد؛ فقالوا بالتَّخْلية والإهْمال، وجعلوا العبادَ فاعلين لما لا يشاء، وقادرين على ما لا يريد، كأنهم لم يسمعوا بإجماع الناس على ما يشاء الله كان، وما لا يشأ لا يكون».

وكذلك الوعيدية من الخوارج والمعتزلة؛ فإنهم فرّقوا بين نصوص الوعيد، فآمنوا بها، وبين نصوص الوعد والرجاء فكفروا بها! والجميع خرج من مشكاة واحدة.

وفي مقابلهم: المرجئة، الذين آمنوا بنصوص الوَعد والرجاء, وكفروا بنصوص الوعيد .

وكذلك من فرقوا بين الصحابة -رضوان الله عليهم-؛ فتولوا آل البيت منهم، وعادوا غيرهم من الصحابة! والواجب موالاتهم جميعاً، ومحبتهم والترضي عنهم .

وأيضاً ممن خالف في هذه القاعدة، مَنْ فرَّق بين الكتاب والسنة النبوية؛ فاعتمد الكتاب دون السنة!

وكذلك من فرق بين نصوص الأحكام فاعتمدها، وبين نصوص العقائد فأعرض عنها، إما بتأويل أو تفويض أو تحريف، أو تكذيب .

كذلك مَن فرق بين الأحاديث النبوية؛ فإنْ كانت أحاديث آحاد وكانت في الاعتقاد، اجتنبها ولم يأخذ بها، وإن كانت متواترة أخذ بها، بزعمه أنَّ الأحاديث الآحاد لا تفيد العلم ولا اليقين!

وكذلك مَنْ فرّق بين السُّنة المتواترة والآحاد في باب العقائد أو الأحكام؛ فإنْ كانت في الأحكام أَخذ بها، وإنْ كانت في العقائد لم يأخذ بها؛ فكل هؤلاء واقعون في التناقض والاضطراب في هذا الباب العظيم .

والواجب عليهم جميعاً الجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، حتى يسلموا مما هم فيه من الشطط، والبعد عن الحق والعدل الذي أمر الله -تعالى- به عباده ، ونهاهم عن ضدّه .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك