رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 26 ديسمبر، 2017 0 تعليق

ضوابط الرد على المخالف – الاستدلال على المسألة المتنازع فيها إنما يكون بالدليل المتفق عليه

 ذكرنا فيما مضى أنَّ كل ما يقوله الناس لابد مِنْ عرضه على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة فهو حقٌ يُقبل, وما خالفهما فهو باطل يُرد، وأما إنْ احتمل الوجهين: فإما أنْ يُعرف مراد المتكلم، فيحكم له أو عليه بحسب المراد .

 

 

     وإما ألا يعرف مراده، فينظر في هذه الحالة في سيرته -أي سيرة المتكلم- فإنْ كانت سيرته حسنة، حُمل كلامه على الوجه الحسن، وإن كانت سيرته سيئة، حمل كلامه على الوجه السيء، كما قال الله -تعالى-: {وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}(الأعراف : 58)، واليوم نتكلم عن الضابط السابع من ضوابط الرد على المخالف وهو أن الاستدلال على المسألة المتنازع فيها إنما يكون بالدليل المتفق عليه؛ فالخصمان إما أنْ يتفقا على أصلٍ يَرجعان إليه أو لا؛ فإنْ لم يتفقا على شيءٍ يحتكمان إليه، لم تقع بمناظرتهما فائدة؟ وإذا كانت الدعوى لا بد لها من دليل، وكان الدليل عند الخصم متنازعاً فيه، ليس عنده بدليل، صار الإتيان به عبثاً، لا يفيد فائدة، ولا يحصل مقصوداً؛ إذ مقصود المناظرة ردّ الخصم إلى الصواب بطريق يَعْرفه؛ فلا بد من الرجوع إلى دليل يَعرفه الخصم السائل، معرفة الخصم المستدل.

 

الرجوع إلى الكتاب والسنة

 

     ولهذا كان الرجوع عند المسلمين عند التنازع إلى الكتاب والسنة، لاتفاقهم عليهما، وكان المرجع إليه عند التنازع مع غير المسلمين ما يُسلِّم به الكفار من الحجج العقدية والعقلية والنظرية والقياسية وغيرها، كما قال -تعالى- في محاجة الكفار: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(المؤمنون: 84-90)؛ فحاججهم فيما يقرّون به ويعتقدون .انظر الموافقات (4/335).

 

مصادر التشريع

فإنْ قيل: ما مصادر التشريع المتفق عليها ، والمصادر المختلف فيها ؟

فنقول: مصادر التشريع المتفق عليها هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وما عدا هذه فمختلف فيه، وهذه أهم المصادر المختلف فيها: قول الصحابي، والمصالح المرسلة، والاستصحاب، والاستحسان، والعرف، وشرع من قبلنا، والاستقراء, وسدّ الذرائع، وإجماع أهل المدينة.

 

أولاً: قول الصحابي

اختلف العلماء فيه: هل هو حجَّة؟ أم ليس بحجة؟

والجواب: هو ليس بحجةٍ مستقلة؛ فهو ليس كالقرآن العظيم، ولا السُّنة النبوية، بل هو حجة تبعية، بمعنى أنه يكون حجة تبعاً لأمور، أو في أحوال معينة، وهي :

- قول الصحابي فيما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه.

- قول الصحابي الذي لا مخالف له؛ لأنه إجماع .

- قول الصحابي في تفسير مرويه؛ لأنه أدرى بالمراد به .

- قول الصحابي في سبب نزول الآية، سواء كان بصيغة صريحة، أم غير صريحة .

-أقوال الصحابي في المسائل التي اختلفوا فيها ، فإنها حجة بالجملة، فإنّ الحق لا يخرج عن أقوالهم؛ لأنَّ اختلافهم على هذه الأقوال دليلٌ على أنها لا تحتمل غيرها .

 

ثانيا -المصالح المُرْسلة

وهي من الأدلة المختلف فيها، والصحيح اعتبار ما شهدت له الشريعة منها، والمصلحة: هي المنفعة المرجوة من الأمر؛ بحيث تدفع الفساد، وهي ثلاثة أنواع:

النوع الأول: مصلحة معتبرة، دلَّ الشرع عليها.

النوع الثاني: مصلحة ملغية، دلّ الشرع على عدم اعتبارها.

النوع الثالث: مصلحة لا دليل صريح على اعتبارها، ولا على إلغائها، وهي المرسلة، وهي موضوع الكلام هنا.

وسُميت مُرسلة لإرسالها عن دليل في اعتبارها، أو في إلغائها.

 

ولابد من العلم أنَّ الدينَ قائم على تحصيل المصالح وتكثيرها، وعلى درء المفاسد وتقليلها؛ إذْ الرَّسول[ بُعِثَ بِتَحْصِيلِ المصالِحِ وتَكمِيلِها، وتَعْطِيل المفاسد وتَقْلِيلِها، فما أَمَرَ اللَّهُ به: فمصلحَتُه راجحَةٌ، وما نهَى عنه: فَمَفسدَتُهُ راجحَةٌ .

 

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالصَّلَاح ، ونهى عن الْفَسَادِ، وبَعَثَ رُسلَه بِتَحْصِيلِ المصَالِحِ وتَكْمِيلِها، وتَعْطِيلِ الْمفاسِدِ وتَقْلِيلِها، وقال موسى لِأَخيه هارُون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 142)، وقال شُعَيْبٌ: {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}(هود: 88). وقال -تعالى-: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(الأعراف: 35)، وقال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}(البقرة : 11– 12). الفتاوى الكبرى (4/ 156). وانظر مجموع الفتاوى (1/ 138).

فلا يجُوزُ دَفْعُ الْفسادِ الْقَلِيلِ بِالفسادِ الكَثِيرِ، ولا دَفعُ أَخَفِّ الضَّرَرينِ، بِتَحصِيل أَعْظَمِ الضَّرَريْنِ؛ فإِنَّ الشَّرِيعَةَ جاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمصالِحِ وتكْمِيلِهَا، وتَعْطِيل الْمَفَاسِدِ وتَقْلِيلِها بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .

ومطْلُوبُها: تَقديم خَيْرِ الْخيْرَيْنِ، إذا لَم يُمْكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَا جمِيعًا، ودَفعُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ، إذا لَمْ يَنْدَفِعَا جميعًا.

 

شروط المصلحة المرسلة

ويشترط في اعتبار المصلحة المرسلة:

- ألا تتعارض مع الكتاب والسنة، والإجماع والقياس .

- ألا تتعارض مع المقاصد الشرعية، بل تتفق معها، وهي: حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل .

- ألا تتعارض مع مصلحة أعلى منها ، وألا يترتب عليها فساد أكثر مما يراد دفعه.

- أنْ يتم النظر فيها من أهل العلم والمعرفة بالشريعة؛ فلا تتعلق بالأهواء والرغبات الخاصة للناس .

- أنَّ يكون النظر فيها للصالح العام.

 

أبواب إعمال الدليل

وأكثر الأبواب التي يجري فيها إعمال هذا الدليل، هو باب السياسة الشرعية، وما يتعلق به، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسياسة الناس، والنوازل الواقعة المستجدة .

ومن المصالح المعتبرة في الشرع: مراعاة مصلحة الجماعة وحفظ الدين، ومنع إيقاع الناس في الفتن .

 

     ومن ذلك: امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم من هدم البيت الحرام، وإعادته على قواعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَال: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ، اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ»، قالت: فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا تَرُدُّهَا على قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَفَعَلْتُ». رواه مالك والشيخان. ففيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى مصلحة حفظ الدين، وسلامة الناس عن الفتنة فيه؛ فترك أمراً مستحباً .

ومن الأمثلة: الأمر بالصبر على أئمة الجور من المسلمين، وعدم الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة، وهذا من باب تحقيق مصلحة حفظ الجماعة والدين، والأنفس والأموال .

ومن المصالح الملغاة في الشرع: مصلحة زيادة المال بالربا والرشوة، والبيوع المحرمة، والغش، ومصلحة التجارة بالخمر، وما فيها من أثر موهوم بالراحة.

ومن المصالح التي سكت عنها الشرع: تنظيم أمور الناس بالدواوين، والسجلات المدنية، والأنظمة الإدارية، كنظام المرور ، ونظام التعليم ، وما يتعلق بالصحة وحفظ النفس ونحو ذلك .

فينظر العلماء؛ فما كان يشبه ويقارب المصالح المعتبرة شرعاً، وعد قياساً عليها، وإلا فلا .

 

مسألة مهمة

ومن المسائل المهمة في هذا الباب: الفرق بين المصلحة المرسلة والبدعة.

والجواب ذلك: أن  الفرق بينهما من جهة أن المقتضي للأمر إذا كان موجوداً زمن الرسول[ وتركه ولم يفعله من غير مانع يمنع ذلك؛ فيصير فعله بدعة؛ لأن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الترك مطلوبة ، كما هي في الفعل .

أمّا إذا كان المقتضي للأمر لم يكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهذا يكون النظر فيه من جهة المصالح المرسلة، وكذا إذا كان المقتضي قائماً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومنع من فعله مانع؛ فإنه يدخل في المصالح المرسلة.

ويقع الخطأ في هذا الدليل إذا لم يراع اشتراط الشروط السابقة، لاعتبار المصلحة، والله الموفق.

 

ثالثا -الاسْتِصحاب

وهو من الأدلة المختلف فيها، ومعنى الاستصحاب: الحُكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل، حتى يقوم دليل على تغير تلك الحال، ويعبر عنه أيضاً: بقاء ما كان على ما كان، حتى يثبت ما يغيره .

فالفقيه لمّا يُسأل عن أمر: هذا الأصل فيه كذا، يعني: فنحن عليه حتى يأتي دليل يخرجنا عن هذا الأصل .

وهو أنواع، منها: اسْتصحاب الأصل في الأعيان، وهو الحلّ والطهارة، لقوله -تعالى-: {هو الذي خَلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة : 29).

اسْتصحاب الأصل في الإنسان، وهو براءة الذمة، من العبادات والحقوق المالية وغيرها.

 

استصحاب الإجماع .

والخطأ يقع في استعمال هذا الدليل في غير محله؛ لأنّ محل استعمال دليل الاستصحاب، هو عند فقد الدليل، يعني عند عدم وجود الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس .

 

     وأخطأ الظاهرية بالإكثار من هذا الدليل، وباستعمالهم دليل الاستصحاب مع وجود الدليل من الكتاب والسنة في مسائل يمكن أن تفرد في كتاب، ومن هذه المسائل مسألة (زكاة عروض التجارة)؛ فاسْتصحبوا أصل براءة الذمة وعدم التكليف، ونفوا زكاة عروض التجارة لعدم الدليل بحسب ظنهم! والواقع أنه لا محل لدليل الاستصحاب في هذه المسألة؛ لأن الذمة شغلت بوجوب الصدقة في كل مال لدى المسلم، بالعمومات الواردة في القرآن والسنة، كقوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مِن طيباتِ ما كسَبتم ومما أخْرجنا لكم من الأرض}(البقرة : 367). وقوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}(الذاريات: 19)، وقول -تبارك وتعالى-: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} (المعارج: 24).

 

فهذه العمومات تبطل الاستدلال بدليل الاستصحاب، وتعكس المسألة على الظاهرية؛ فبدلاً من أن يقال: الأصل براءة الذمة، يقال: الأصل شغل الذمة بهذه العمومات، والبحث فيما لا تجب فيه الزكاة من الأموال، كأموال القنية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك