رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 6 نوفمبر، 2016 0 تعليق

ضوابط الجهاد (3) تقدير المصالح والمفاسد في الجهاد

الجهاد في سبيل الله طاعةٌ عظيمة، وقُربة جليلة، شرعت لأهداف وغايات، وليس لمجرد إزهاق النفوس وإراقة الدماء،

من أهداف الجهاد: حِفظ الإسلام والمسلمين، والدفاع عن حوزة الأوطان، والأعراض والأموال، وردّ العدوان

شرع الجهاد لدفع الفتنة،  فإذا أصبح الجهاد نفسه محدثًا للفتنة في الدين، ومانعًا من تعبيد الناس لرب العالمين، وصد الناس عن دعوة الحق، لم يحقق بذلك مقصوده الأسمى هذا؟!

 

 

 

الذي يُقدّر المصالح والمفاسد في الجهاد وعدمها، والإقدام والإحْجام، والقدرة والاستطاعة وعدمها، هم العلماء، وولاة أمور المسلمين، الذين أَمر الله عز وجل بالعودة إليهم في الأمور المهمة العظيمة، والمصالح العامة، من الأمن أو الخوف، كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} النساء: 83.

فقوله: {أُولِي الأَمْرِ} هم العلماء والأمراء، أهل الرأي والعلم والعقل والنصح.

وقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بعلمهم الرشيد، وعقلهم السديد، فلا يجوز التقدّم عليهم، ولا التسرّع بين أيديهم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه عن الجهاد: «وفي الجملة فالبحث في مثل هذه الدقائق، من وظيفة خواص أهل العلم» كما في منهاج السنة: (4/504).

وقال أيضاً: «الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد، برأي أهل الدّين الصحيح، الذين لهم خبرةٌ بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدّين».

فليس تقدير المصالح والمفاسد إذاً، راجعاً للمجاهدين والمقاتلين؟! ولا أهل الحماسة المتسرعين بغير علمٍ ولا فهم؟! كما يدندن به بعضهم، وذلك لأمرين اثنين:

الأول: أن الله تعالى لَم يأمرنا عند التنازع والاختلاف، أنْ نرجعَ في أمورنا للمجاهدين، بل أَمرنا بالرجوع إلى كتابه وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم - وعمل المؤمنين، وجماعة المسلمين، وأعلم الناس بكتاب الله، والسنة النبوية والشريعة، هم العلماء؛ لذا قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بالبَيناتِ والزُّبر} النحل: 43. وكذلك غايات الجهاد والنظر إليها، والعناية بها ورعايتها، من فقه العلماء، ومن بصيرة الأئمة في الدين.

الثاني: أنه قد بانَ في غير ما حالة سالفةٍ ومعاصرة، خطأ اجتهاد الْمُجاهدين لَمَّا خالفوا العلماء الربانيين، الذين أفنوا أعمارهم فِي العلم الشرعي، فهل مِن معتبر ومدَّكر؟!  

     فلا يعلم إلا الله تعالى، كم جَنتْ اجتهاداتُهم وأعمالهم الطائشة على الإسلام والمسلمين؟! وصدّت عن سبيل الله، وشوّهت جمال الإسلام، وأخلاق المسلمين وسمعتهم، وكم من الأنفس قد أزهقت؟ وكم من الأعراض قد انتُهكت؟ وكم ممن أُصيب وشُرد وضيق عليه، بل وسجن؟! وكم من مدن كثيرة عامرة قد سُحقت ودُمرت، ودول ضاعت؟! أو ضاع فيها الأمن والأمان؟! شيءٌ لا يعد ولا يحصى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

- أهداف الجهاد المشروع وغاياته:

     الجهاد في سبيل الله طاعةٌ عظيمة، وقُربة جليلة، شرعت لأهداف وغايات، ولحكم ومصالح تترتب عليه، وليس لمجرد إزهاق النفوس وإراقة الدماء، وفيه من الغايات النبيلة، والأهداف الجليلة، والثمرات المباركة، ما لا يخفى على من له اطلاع على الحكم والمقاصد الشرعية. 

ومن أعظم هذه الأهداف وتلك الغايات والمصالح: 

أولاً: أنَّ الجهاد في سبيل الله، شُرع لإعلاء كلمة الله في الأرض، وإزالة الشرك والكفر والإلحاد، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد. قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} البقرة:193. وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} الأنفال: 39.

قال ابن جرير رحمه الله: «فقاتلوهم حتى لا يكون شركٌ، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض، وهو الفتنة، ويكون الدينُ كله لله، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها خالصة دون غيره».

وقال ابن كثير رحمه الله: «أَمَر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة، أي: شركٌ، ويكون الدين لله، أي: يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان».

     فالجهاد إنما هو لهداية الناس إلى الدِّين الحق؛ ولأجل أنْ يُعبد الله وحده لا شريك له، وأنْ يكون دينُ الله هو الظاهر على سائر الأديان، كما في قول عليه الصلاة والسلام: «أُمرتُ أنْ أُقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمنْ قال: لا إله إلا الله، فقد عَصَم نفسَه وماله، إلا بحقِّه وحِسابه على الله». متفق عليه. وقال -صلى الله عليه وسلم -: «بُعِثْتُ بَيْن يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ، حتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وحْدَه، لا شرِيكَ له..». رواه أحمد (4869).

    وقد كان هذا الهدف من الجهاد، هو الباعث الحقيقي للصحابة رضي الله عنهم على الفتوحات التي قاموا  بها، ومن بعدهم من التابعين وأتباعهم، أهل الإيمان والتقى، والعفاف والهدى، فروى البخاري في كتاب (الجزية) / باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3159): عن جُبَيرِ بن حَيَّةَ قال: بَعَثَ عمرُ النَّاسَ في أَفْنَاءِ الأَمصارِ، يُقَاتلون المشْركِين... قال: فَنَدَبَنَا عمَرُ، واسْتَعْمَلَ علينَا النُّعْمَانَ بن مُقَرِّنٍ، حتى إِذا كُنَّا بأَرْضِ العدُو، وخَرَجَ عليْنا عامِلُ كِسْرَى في أَرْبَعِينَ أَلفًا، فقامَ تَرجُمانٌ فقال: لِيُكَلِّمني رجُلٌ مِنْكم، فقال المُغِيرَةُ: سَلْ عمَّا شِئْتَ، قال: ما أَنتم؟ قال: نَحْنُ أُناسٌ مِنْ العربِ، كُنَّا في شَقَاءٍ شديدٍ، وبلاءٍ شدِيدٍ، نَمَصُّ الجِلْدَ والنَّوَى مِنْ الْجُوع، ونلبسُ الوَبَرَ والشَّعَرَ، ونَعْبُدُ الشَّجرَ والحجَرَ، فَبيْنا نحنُ كذلكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ ورَبُّ الأَرَضِين، تعالَى ذِكْرُهُ وجَلَّتْ عَظَمَتُه، إِلَينا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا، نَعْرِفُ أَبَاهُ وأُمَّهُ، فأَمَرَنا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا -صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَو تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وأَخبرنا نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم -، عنْ رسالَةِ رَبِّنا، أَنَّه: مَنْ قُتِلَ مِنَّا، صارَ إِلى الْجَنَّةِ، في نَعِيمٍ لم يَرَ مِثْلَها قَطُّ، ومَنْ بَقِيَ مِنَّا، مَلَكَ رِقَابَكُمْ.

وهذه الحقيقة كان يعلنها الصحابة وقادة المسلمين في غزواتهم، ويعلم بها أعداؤهم.

ثانيًا: من أهداف الجهاد: رفع الظلم عن المظلومين ونصرهم، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا واجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} النساء: 75. 

يقول الله: وما لكم أيها المؤمنون لا تقاتلون في سبيل الله، والمستضعفين -أي منكم - من الرجال والنساء والولدان، الذين غلبهم الكفار على أنفسهم، وقهروهم وآذوهم، ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم ليفتنوهم عن دينهم.

     فحض الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار، وهم يدعون الله فيقولون: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} فيسألون ربهم بأنْ يُنجيهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين: يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها.

فالجهاد في سبيل الله يحقق العدل لأهل الأرض، ويرفع الظلم عن المظلومين.

ثالثًا: ومن أهداف الجهاد: حِفظ الإسلام والمسلمين، والدفاع عن حوزة الأوطان، والأعراض والأموال، وردّ العدوان، وفي هذه الحالة يتعيَّن الجهاد على أهل البلد المعتدى عليهم، قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} البقرة: 194. 

وقد أجمع العلماء على أن ردّ اعتداء الكفار على المسلمين، فرضُ عين على القادر عليه، كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} البقرة:190.

وقال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} التوبة: 13.

     يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله، حاضّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: {ألا تقاتلون} أيها المؤمنون، هؤلاء المشركون الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم، وطعنوا في دينكم، وظاهروا عليكم أعداءكم: {وهموا بإخراج الرسول} من بين أظهرهم فأخرجوه {وهم بدؤوكم أول مرة} بالقتال، يعني فعلهم ذلك يوم بدر، وقيل: قتالهم حلفاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من خزاعة: {أتخشونهم} أتخافونهم على أنفسكم، فتتركوا قتالهم خوفاً على أنفسكم منهم: {فالله أحقُّ أن تخشوه} فالله أولى بكم أنْ تخافوا عقوبته بترككم جهادهم، وتحذروا سخطه عليكم، من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضراً ولا نفعاً، إلا بإذن الله {إن كنتم مؤمنين} (الطبري).

فحماية الدولة الإسلامية من شر الكفار، مقصد من مقاصد الجهاد، ولذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم - بقتل رؤوس الكفر الذي كانوا يألبون الأعداء على المسلمين، ككعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق اليهوديين.

- ومن ذلك: الأمر بحفظ الثغور {الحدود} من الكفار، وقد رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا». البخاري (2678). 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك