رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 17 أبريل، 2012 0 تعليق

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (8) تتمة باب: تنزل السكينة لقراءة القرآن

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا.  والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.  والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

2108. عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، قَالَ أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا، قَالَ: فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي، إِذْ جَالَتْ فَرَسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ» قَالَ: فَقَرَأْتُ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : «اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ» قَالَ: فَقَرَأْتُ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ» قَالَ: فَانْصَرَفْتُ وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، خَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ، فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ».

الشرح: هذا الحديث من الباب السابق، وهو تنزل السكينة لقراءة القرآن، وهو في صحيح مسلم (796).

      وهو حديث أبي سعيد الخدري الصحابي المشهور أن أسيد بن حضير وهو سيد من سادات الأنصار كما مرّ، قال: «بينما هو ليلة يقرأ في مربده» والمربد: هو المكان الذي يجفّف فيه التمر، كالبيدر بالنسبة للقمح.

      يقول: «فبينما هو ليلة يقرأ في مربده» يعني القرآن «إذ جالت فرسه» جالت يعني وجلت وتحركت، ومرّ معنا في الرواية السابقة: نفرت، وكما ذكرنا أن الفرس تذكر وتؤنث.

       قوله: «فقرأ، ثم جالت أخرى فقرأ، ثم جالت أيضا، فقال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى» وهو ابنه، فخشي أن تدوس بحوافرها ابنه الصغير، فقام إليها لينظر ما السبب الذي يدعوها أن تنفر وتقفز وتتحرك بسرعة؟ قال: « فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، «الظلة هي السحابة التي تكون قدر الرأس أو أكبر، قال: فوق رأسي فيها أمثال السرج، يعني فيها أمثال المصابيح والأضواء» عرجت في الجو «أي صعدت في الجو، والعروج هو الصعود» حتى ما أراها» أي: إنها ارتفعت حتى ذهبت واختفت عن الأنظار.

قال: «فغدوت على رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي، إذ جالتْ فرسي، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : اقرأ ابن حضير» أي: إن النبي  صلى الله عليه وسلم حثّه على القراءة، وعلى مواصلة قراءة القرآن وعدم قطعه.

 

      قوله: «قال فقرأت ثم جالت أيضا» أي: إنها حصل لها كما حصل في الليلة السابقة، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «اقرأ ابن حضير» فقرأت ثم جالت أيضا، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «اقرأ ابن حضير» قال: فقرأت ثم جالت أيضا، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «اقرأ ابن حضير» قال: فانصرفت، وكان يحيى قريبا منها، خشيت أن تطأه» أي: خشي أن تطأه الفرس بقوائمها. قال: «فرأيت مثل الظُلة فيها أمثال السرج» أي: رأى سحابة فيها مثل المصابيح، مضيئة ومنيرة، ثم صعدت في الجو حتى ما أراها.

        فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  عند ذلك: «تلك الملائكة كانت تستمعُ لك، ولو قرأتَ لأصبحتْ يراها الناس ما تستتر منهم» فأسيد بن حضير رأى الملائكة بهذه الصورة النورانية، سحابة فيها أمثال المصابيح، أي: كل ملك تبدّى على شكل مصباح أو سراج، والملائكة كما هو معلوم خُلقت من نور، كما جاء في حديث الإمام مسلم.

       وهذا الحديث: فيه فضل قراءة القرآن، والاستمرار على ذلك كل ليلة قدر المستطاع، فقراءة القرآن ليست في رمضان فقط، كما هي عادة كثير من الناس اليوم، وإنما يجب أن تستمر على قراءة القرآن، لتنال ما يحصل لقارئ القرآن من الفضل العظيم من نزول الرحمة والسكينة، وحضور الملائكة، وهو لقارئ القرآن ومستمع القرآن أيضا.

       وقوله عليه الصلاة والسلام: «اقرأ ابن حضير» يعني: استمر ولا تتوقف عن قراءة القرآن، بل استكثر منه؛ لأن القراءة سبب لنزول الملائكة والبركة والذكر عند الله تعالى.

       قال: «عرجتْ في الجو حتى ما أراها» أي: ارتفعت جداً حتى اختفت عن النظر، فقال  صلى الله عليه وسلم : «تلك الملائكة كانت تستمع لك، لو قرأت لأصبحت» يعني: لو واصلت القراءة حتى الصباح، أي حتى يؤذن المؤذن للفجر، لبقيت الملائكة حتى رآها الناس عياناً لا تستتر منهم.

       وفيه: إثبات جواز رؤية الإنسان الملائكة، كما سبق ذكره، بل يمكن أن يرى الملائكة أحيانا حتى في صورتها التي خلقها الله تعالى عليها من الطبيعة النورانية، أو الصورة النورانية المضيئة، والملائكة كما هو معلوم لهم قدرة على التشكل بصور البشر، كما ذكرنا في حديث جبريل أنه تبدى في صورة رجل عند الصحابة وسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، وأيضا ورد في الحديث: أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يختبر أقرع وأبرص وأعمى، فأرسل إليهم ملكاً خاطب كل واحد منهم ماذا يريد وماذا يشتهي... القصة المشهورة.

       وفي الحديث: أن رجلاً أحب رجلا في الله تعالى، فأرسل الله على مدرجته ملكاً، فقال له: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في الله، قال: ألك عليه نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك، أن الله أحبك كما أحببته فيه».

       فالملائكة إذن يمكن أن تتشكل أحياناً بصور الرجال وتخاطبهم، ويمكن أن تأتيهم بهذه الصورة المذكورة على صورة السراج المنير في سحابة مضيئة.

       وفي الحديث: أن نزول الملائكة يكون عند الطاعات والقربات، وعند ذكر الله تعالى، وعند قراءة القرآن، وفي الصلوات في المساجد وما أشبه ذلك، والملائكة لهم أعمالٌ كثيرة في الأرض والسموات، وقد ذكر الإمام الحافظ ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» أغلب الأحاديث والآيات الواردة في خلق الملائكة، وكذلك للشيخ عمر الأشقر حفظه الله كتاب باسم الإيمان بالملائكة.

  باب: لا حسد إلا في اثنتين

 2109. عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ».

الشرح: باب: لا حسد إلا في اثنتين، وأورد فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقد رواه الإمام مسلم في صلاة المسافرين (815) وبوب عليه الإمام النووي: باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلّمها.

       وأورد فيه حديث سالم عن أبيه، وهو سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أحد الفقهاء السبعة، وكان عابداً فاضلا ثبتا في الحديث، يشبه بأبيه في الهدي والسّمت، مات آخر سنة ست على الصحيح، روى له الستة.

        قال: عن أبيه وهو عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين»، قوله: «لا حسد» المقصود بالحسد هنا الحسد غير المذموم، وهو المجازي أو يسمى بالغبطة، وهو تمني مثل ما للغير من النّعمة والخير، أما الحسد الحقيقي فهو المذموم، وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها، فهو حرامٌ بالإجماع، وقد وردت فيه الآيات والأحاديث التي تذم فاعله وتحذر منه، كما قال الله تعالى في اليهود: {أمْ يَحسُدونَ الناسَ على ما آتاهم اللهُ منْ فضله} (النساء: 54).

        وذلك أنهم حسدوا العرب على بعثة النبي محمد  صلى الله عليه وسلم منهم، وصدّهم ذلك عن الإيمان به ومتابعته؟! بل ومحاربته وصدّ الناس عن الإيمان به، فخسروا الدنيا والآخرة، عياذا بالله تعالى من ذلك!!

       والحسد أيضا هو الذي حمل إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام على أن فعلوا بحقه وبحق أبيهم ما فعلوا، من محاولة قتله، وإبعاده عن أبيه والوقوع في العقوق وقطيعة الرحم.

       والنبي  صلى الله عليه وسلم قد حذّر من الحسد والتحاسد، فقال: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يَظلمه ولا يخذله ولا يَكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا...» الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ونحوه من حديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين.

وأما حديث: «إياكم والحسد؛ فإنه يأكلُ الحسنات، كما تأكل النار الحطب» رواه أبو داود، فهو حديث ضعيف لا يصح، وإن اشتهر على ألسنة الوعاظ!!

والحاسد كما قال أهل العلم معترضٌ على الله تعالى! في قسمته وحكمته وعطائه لمن شاء من خلقه ما شاء من فضل وعلم ومال وجمال وغيرها!

       فقوله: «لا حسد إلا في اثنتين» يعني: لا غبطة، والغبطة أن تتمنى مثل النعمة التي على غيرك، من غير زوالها عن صاحبها، فإذا رأيتَ حافظاً للقرآن تمنيت أن تكون مثله، وإذا رأيت عالماً تمنيت أن تكون مثله، خصوصا في أعمال الخير، وصفات البر والتقوى.

        أما الغبطة في أمور الدنيا فهي مباحة، وقد تكون مذمومة أحيانا، فالإنسان إذا رأى غنيا عنده العقارات والأثاث والسيارات فتمنى أن يكون مثله، فهذا يجوز، لكن الأفضل أن تتمنى الخير والطاعة والاستكثار من ذلك، وهذا هو الأمر المستحب، وهو من التنافس والرغبة فيما عند الله عز وجل.

       وقول الرسول  صلى الله عليه وسلم : «لا حسد إلا في اثنتين» بمعنى: ينبغي ألا تكون غبطة إلا في هاتين الخصلتين الحسنتين، وما في معناهما، فهاتان النعمتان كلتاهما طاعة لله سبحانه وتعالى، فيستحق صاحبها أن يغبط عليها، لا ما سواها من أمور الدنيا الفانية، فهو لا يستحق، أما الأول فـ«رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار» آناء جمع آن، والآن هو الزمان، وهو ساعات الليل وساعات النهار، الواحد منها آن.

      فهذا رجلٌ آتاه الله القرآن، يعني حفظ القرآن، وتلاوة القرآن والقيام بالقرآن، وتعليم القرآن لغيره، فهو يقوم به آناء الليل والنهار، فهذا الرجل الأول مشتغل بالقرآن وبقراءته وبحفظه وتعليمه.

       وفي الرواية الأخرى: «ورجلٌ آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلّمها» والحكمة يحتمل أن يكون المراد بها هنا القرآن أيضا؛ فإن القرآن حكمة إلهية، بل معدن كل حكمة، وينبوع كل خير، ومصدر كل بر وصلاح وفلاح، في الدنيا والآخرة.

ويحتمل أن يكون المراد بالحكمة هنا: « السنة النبوية المطهرة » وقد استعملت هذه اللفظة بمعنى السنة النبوية في آيات القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {وأنزل عليك الكتابَ والحكمةَ وعلّمك ما لم تكنْ تعلم وكان فضلُ الله عليك عظيماً} (النساء: 113).

وقال تعالى: {واذكرن ما يُتلى في بيُوتكن من آياتِ اللهِ والحكمة} (الأحزاب:34). وغيرها.

أي إنه تعلم السنة النبوية المطهرة وحفظها وفهمها، وعلم ما فيها من الفقه، وقام بتعليمها غيره، وقضى بها في الأحكام بين الأنام.

       وقوله: «ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» هذا الرجل الثاني الذي يستحق أن يغبط، عنده مال وثراء، فكان يتصدق منه في ساعات الليل وساعات النهار، وفي رواية لمسلم قال: «رجلٌ آتاه الله مالاً، فسلّطه على هلكتِهِ في الحق» يعني أهلك ماله في الحق، وأنفق ماله في سبيل الله، ونصرة الحق وأهله، ولا شك في عظم حاجة الإسلام ودعوة الإسلام ونصرة الإسلام للمال والنفقة، وهو داخل في الجهاد في سبيل الله تعالى.

      وإذا كان الرسول  صلى الله عليه وسلم مدح من يقضي بالسنة؛ فمن باب أولى أن يمدح من يقضي بالقرآن لأن السنة تابعة للقرآن، تكمل القرآن وتشرحه وتبينه وتوضحه، فتلاوة القرآن والقيام به، والقضاء بالسنة وتعليمها، تشمل كل فضيلة وكل حسنة تراد وتقصد، ويدخل فيهما العمل بالقرآن والسنة، وبالله تعالى التوفيق.

 وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك