رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 30 أبريل، 2012 0 تعليق

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (10) باب: باب تحسين الصوت بقراءة القرآن

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا.  والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.  والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،  صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

2112. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ، مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ».

الشرح: قال المنذري: باب تحسين الصوت بقراءة القرآن، وهذا الحديث أيضا أخرجه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين، وبوب عليه النووي: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن. وأخرجه البخاري (5023، 5024) باب من لم يتغن بالقرآن وقوله تعالى: {أولم يَكفهم أنّا أنزلنا عليكَ الكتابَ يُتلى عليهم} (العنكبوت: 51).

      عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه سمع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول: «ما أذن الله لشيء» معنى أذن في اللغة: استمع، وهو مأخوذ من الأذن التي يسمع بها الإنسان، ويمكن أن يعبر بأذن للشيء بمعنى استمع، ولا يعرف له أذن، كقول الله تبارك وتعالى عن الأرض يوم القيامة: {وأَذنتْ لربها وحُقّت} (الانشقاق:2). وهو بمعنى استمعت وأطاعت أمر ربها، فالأرض تسمع وتطيع أمر الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل في الآية الأخرى: {فقالَ لها وللأرضِ ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت: 11).

        وقول الرسول  صلى الله عليه وسلم  في هذا الحديث «ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به» بيان صريح في أن الله سبحانه وتعالى يستمع لقراءة النبي حسن الصوت بالقرآن، وهو من صفات الله سبحانه وتعالى، وقد ثبتت صفة السمع والبصر في القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة، والله تعالى من أسمائه: السميع والبصير، قال تعالى: {ربّنا تقبّل منا إنك أنتً السميعُ العليم}(البقرة: 127). وقال: {(إنك سميع الدعاء} (آل عمران: 38).  وقال: {وكان اللهُ سميعاً بصيرا} (النساء: 58).

       وإنه سبحانه وتعالى يسمع ويبصر، كما قال الله عز وجل: {أبصرْ به وأَسمعْ} (الكهف:26). وهو تعجبٌ من بصره وسمعه، أي: ما أبصره وما أسمعه. وقال تعالى: {والله يَسمعُ تحاوركما إنّ الله سميعٌ بصير} (المجادلة: 2).

وهو سبحانه واهب السمع والبصر لمن شاء من خلقه.

       فنطقت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية المحكمة الثابتة بإثبات صفة السمع والبصر لربنا سبحانه وتعالى، والحكم فيهما كالحكم في جميع صفات الله، أن تثبت لله تعالى ويؤمن بها، بغير تكييفٍ ولا تشبيه ولا تمثيل، ولا تعطيلٍ ولا تأويل.

       أما قول النووي رحمه الله: قالوا لا يجوز أن تُحمل هنا على الاستماع بمعنى الإصغاء! فإنه يستحيل على الله تعالى - هكذا يقول - بل هو مجاز! ومعناه الكناية عن تقريبه القارئ، وإجزال ثوابه! لأن سماع الله تعالى لا يختلف، فوجب تأويله! انتهى كلامه.

        ولا شك أن هذا القول غير صحيح!! والإمام النووي عفا الله عنه يتابع الأشاعرة أحيانا في شرحه للأسماء والصفات في كتابه «شرح صحيح مسلم» فقوله هنا: «لا يجوز أن تحمل على الاستماع، فإنه يستحيل على الله بل هو مجاز!» هو على مذهبهم في تعطيل للصفة الإلهية، وهو تأويل فاسد مردود! وصرف للمعنى المراد دون دليل ولا برهان.

والصحيح كما قدمنا: أن الله تعالى يوصف بأنه يسمع كما في القرآن، ويستمع كما في هذا الحديث الشريف،

       وفي هذا الحديث: أنه عز وجل يأذن لنبي يتغنى بالقرآن بمعنى يستمع للنبي الحسن الصوت إذا تغنى بالقرآن، وكان نبينا  صلى الله عليه وسلم  من أجمل الناس صوتاً بالقرآن، كما يقول أنس رضي الله عنه : قرأ رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت صوتا أحسن منه.

      وقال عدي بن جبير بن مطعم: سمعت النبي  صلى الله عليه وسلم  يقرأ في صلاة المغرب بمكة بالطور {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون} (الطور: 35-36). قال: فكاد قلبي أن يطير، وذلك قبل أن يسلم. رواه البخاري. والنبي  صلى الله عليه وسلم  قرأ هذه الآيات بعد دخوله مكة بعد فتحها، في صلاة المغرب، فتعجّب له أهلها.

       قوله: «يتغنى بالقرآن» يعني يحسن صوته بقراءة القرآن، وقال سفيان ابن عيينة: يتغنى بالقرآن يعني يستغني به عن الناس، وعن كل كتاب! وقد ارتضى ذلك أبو عبيد وقال: إنه جائز في كلام العرب. قال: فعلى هذا يكون المعنى: من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا فليس منا، أي على طريقتنا.

       لكن هذا القول أنكره الإمام أبو جعفر الطبري صاحب التفسير، وقال: إنه خطا من حيث اللغة ومن حيث المعنى، والصحيح أن معنى «يتغنى» يحسّن صوته. وذكر عن الشافعي: أنه سئل عن تأويل ابن عيينة التغني بالاستغناء، فلم يرتضه، وقال: لو أراد الاستغناء لقال: لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت.

وقال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة وعبدالله بن المبارك والنضر بن شميل. (الفتح 9/ 70).

       وجاء في الحديث الآخر عند الإمام مسلم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن، يجهر به» وبمثله فسّره أحد رواه الحديث عند الإمام البخاري؛ فإن التغني بالقرآن لا يكون إلا برفع الصوت، والجهر به.

       ويؤيد ذلك الرواية التالية في استماع النبي  صلى الله عليه وسلم   لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، ووصفه لصوته بالمزمار، أي: وصف صوته بأنه جميل كالمزمار، وقد جاء الحث على تحسين الصوت عند قراءة القرآن، كما صح في الحديث: «حسنوا القرآن بأصواتكم؛ فإنّ الصوتَ الحسنَ يزيد القرآن حسنا» رواه الدارمي والحاكم. وفي رواية للحاكم: «زينوا القرآن بأصواتكم،...». ورواه هكذا مختصرا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم.

فقارئ القرآن إذا زيّن صوته بالقرآن اجتذب الناس للقرآن، وحبّبهم في تلاوة القرآن، وأثر فيهم.

وكل ذلك من غير مبالغة ولا تكلف، كما يفعل بعض القراء هداهم الله.

قال النووي في التبيان: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفا، أو أخفاه حرم.

       وقال العلامة صديق حسن خان: ولا شك أن المراد بالتغني ما كانوا يتغنون به على عهد النبوة، أي: قدر ما يحسنون الصوت ويجهرون به، لا هذه الأصوات المحدثة للتجويد والتبديل، التي يتعاطها القراء، ويحصل لهم بها عوج الفم والأنف والعين والشفتين، وزعجٌ في الأطراف والأعضاء! فهذه بدعة بقيت فيها أصحابها. انتهى (شرح مختصر صحيح مسلم).

       وهذا الذي ذكره عن بعض القراء، هو كما قال ليس من هدي النبي  صلى الله عليه وسلم  ولا أصحابه ولا التابعين لهم بإحسان، ولم ينقل عنهم شيء منه، فالمبالغة في إخراج الحروف والتمايل بالرأس، ووضع اليد على الفم والخد وما أشبه ذلك، هذا كله لا يعرف عنهم، وإنما دعا النبي  صلى الله عليه وسلم  في هذا الحديث أمته إلى تحسين الصوت بقراءة القرآن، وبيّن أن من حسّن صوته بالقرآن استمع الله له، يعني أن الله عز وجل يكرمه بأن يُنصت له ويستمع له جلّ في علاه، وهو دليل محبته لهذا العمل ورضاه عنه.

       ومثل هذا المعنى الوارد في هذا الحديث، مذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي  صلى الله عليه وسلم  فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حَمدني عبدي، وإذا قال {الرحمن الرحيم} قال الله: أَثنى علي عبدي، وإذا قال {مالك يوم الدين} قال الله: مجّدني عبدي...» الحديث رواه مسلم وأحمد والأربعة.

فثبت في هذا الحديث أيضا: أن الله سبحانه وتعالى يستمع لقراءة الناس في صلاتهم، ويرد عليهم عند قراءتهم لفاتحة الكتاب المباركة.

باب منه

2113. عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  لِأَبِي مُوسَى: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد»َ.

الشرح: الحديث الثاني في هذا الباب: باب تحسين الصوت بقراءة القرآن حديث أبي بردة عن أبيه أبي موسى رضي لله عنه.

وقد أخرجه البخاري (9/5048) في فضائل القرآن: باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن.

      أبوموسى هو الأشعري رضي الله عنه ، واسمه عبد الله بن قيس، والأشعرية قبيلة من اليمن، وكانوا يكثرون قراءة القرآن ويشتغلون بتلاوته ليلا، حتى إن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال - كما روى أبو موسى رضي الله عنه -: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإنْ كنت لم أرْ منازلهم حين نزلوا بالنهار» متفق عليه.

       أما اليوم فيمر المسلم أحيانا على بعض بيوت المسلمين، فيسمع أصوات الغناء والمعازف! تصدر عن البيوت عالية، بدلا من صوت القرآن وتلاوته! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول أبو موسى: «قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لأبي موسى» ولم يقل: قال لي رسول الله، كأنه قال ذلك حياء، أو بعدا عن تزكية النفس.

      قوله: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة» يعني أن النبي  صلى الله عليه وسلم  مرّ بقرب بيت أبي موسى الأشعري فسمعه يقرأ في الليل، فوقف  صلى الله عليه وسلم  واستمع لقراءته وأنصت، وهذا لمحبته  صلى الله عليه وسلم  للقرآن وسماع آياته، وكما سبق أنه  صلى الله عليه وسلم  كان يحب أن يسمعه من غيره من المتقنين المهرة به، خاصة إذا كان حسن الصوت بالقرآن؛ فإن لذلك أثرا عجيبا في النفوس المؤمنة كما هو معلوم ومشاهد، أنها تتأثر بالقرآن إذا سمعته ممن يجيد قراءته، ويجود تلاوته، بل إن الجبال والطير والحيوان يتأثر بذلك ويبكي.

       وورد في الحديث عند أحمد: أن أبا موسى قال للنبي  صلى الله عليه وسلم  : «أما إني لو علمت بمكانك، لحبرته لك تحبيرا» يعني لحسنت صوتي ولجملته تجميلا، أي إن أبا موسى كان يقرأ قراءته المعتادة، ولم يكن قد استعدّ واهتم كثيرا، فلو علم أن الرسول  صلى الله عليه وسلم   كان يستمع له، لحسن تلاوته وبالغ في تجويد القراءة.

       وورد عند ابن سعد من حديث أنس: أن أبا موسى قام ليلة يصلي، فسمع أزواج النبي صوته – وكان حلو الصوت – فقمن يستمعن إليه، فلما أصبح قيل له فقال: «لو علمت لحبرته لهم تحبيرا» قال الحافظ: إسناده على شرط مسلم.

        وأخرج ابن أبي داود: عن أبي عثمان النهدي قال: «دخلت على دار أبي موسى فما سمعت صوت صنج، ولا بربط، ولا ناي أحسن من صوته». وسنده صحيح، قاله الحافظ.

والصنج آلة تتخذ من نحاس كالطبقتين تضرب إحداهما بالأخرى، والبربط بوزن جعفر، هو آله تشبه العود، والناي هو المزمار.

        قوله: «فقال  صلى الله عليه وسلم  : لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» المزمار هنا المقصود به هو الصوت الحسن، وأصله: الآلة، فأطلق اسمه عليه للمشابهة، فالمقصود بالمزمار هنا هو: أن صوته كان صوتا حسنا جدا كالمزمار.

        وآل داود المقصود هو داود نفسه، وآل فلان يطلق على نفسه؛ لأنه لم ينقل أن أحدا من أولاده ولا من أقاربه، كان قد أعطي صوتا حسنا كما أعطي داود، وقد كان داود عليه الصلاة والسلام حسن الصوت بالزبور جدا، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه العزيز، فقال سبحانه في سورة سبأ: {ولقدْ آتينا داودَ منّا فضلاً يا جبالُ أوّبي معه والطّير}. فكانت الجبال تؤوب معه، أي: تردد معه إذا قرأ، وأيضا في قوله تعالى في سورة: (ص) لما ذكر داود عليه السلام قال تعالى: {إنّا سَخّرنا الجبالَ معه يُسبّحن بالعشي والإشراق  والطير محشورة ًكلٌ له أواب}. فالله سبحانه وتعالى سخر لنبيه داود عليه السلام الجبال فكن يسبحن معه إذا سبح، وإذا تلا كتابه تلت معه كتابه، وكان داود عليه السلام يسمعُ تسبيح الجبال إذا سبحت معه، وكانت الطير إذا سمعت قراءة داود حُشرت في الهواء، بمعنى حبست، فتقف الطير في السماء وتستمع لقراءة داود عليه السلام، من سحر وجمال قراءته عليه السلام، ولما سمع النبي  صلى الله عليه وسلم  قراءة أبي موسى قال له: أوتيت مزمارا من مزامير آل داود، أي مزمارا واحدا من مزاميره، يعني أن داود عليه الصلاة والسلام كان أحسن صوتا منك بكثير، وإنما أنت أوتيت شيئا مما أوتيت داود عليه السلام، وقد جاء في الحديث: «أنه كان من أعبد البشر» فكان من أكثر الأنبياء وأشدهم تعبدا لله سبحانه وتعالى صلاتا وقياما وقراءة وصياما، ونبينا محمد  صلى الله عليه وسلم  أعبد منه وأقرب لله تعالى.

       ولا يقصد بهذا الحديث أن أبا موسى الأشعري كانت قراءته على نهج الموسيقى والغناء، والمبالغة المذمومة في هذا الباب، كما يفعل بعض القراء بحيث تظن أنه يغني ولا يقرأ القرآن! لبعده عن هدي السلف في القراءة المؤثرة التي يهتدي بها السامع، ويدرك بها معاني كتاب الله سبحانه وتعالى، ويحصل له الخشوع والبكاء من خشية الله، وقد ورد أن السلف رحمهم الله أفتوا بحرمة من يقرأ على نهج الموسيقى والغناء، ولحون أهل الفسق، ولا شك أن هذا ليس هو المقصود بهذا الحديث. والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك