رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 20 فبراير، 2012 0 تعليق

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (2) باب: في قراءة القرآن وسورة البقرة وآل عمران

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا.  والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.  والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

2096.عن أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ». قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ.

-  الشرح: قال المنذري:  باب في قراءة القرآن وسورة البقرة وآل عمران، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في الموضع السابق وهو كتاب صلاة المسافرين (804) وبوب عليه النووي: باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.

- وقوله: «سورة البقرة وآل عمران» في هذا دليل على جواز أن يقال: سورة كذا، كسورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة المائدة، وهكذا.

        هذا الذي عليه أكثر السلف، وأنه لا كراهة فيه، وقد كرهه بعض المتقدمين، وقال: إنما يقال السورة التي يُذكر فيها البقرة، السورة التي يذكر فيها آل عمران، السورة التي يذكر فيها النساء، السورة التي تذكر فيها المائدة، وعلى هذا جرى الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره.

- لكن الصواب هو: القول الأول، وبه قال الجمهور؛ لأن المعنى معلوم، فإذا قلنا: سورة البقرة، فالجميع يعلم أن المقصود من قولنا: سورة البقرة، أي السورة التي ذكرت فيها قصة البقرة، وإذا قلنا: سورة آل عمران، فهذا يعني السورة التي ذكرت فيها قصة امرأة عمران أو تفضيل آل عمران على العالمين، وهكذا في بقية السور.

أما الحديث فعن أبي أُمامة الباهلي، واسمه صُدّي بن عجلان، صحابي مشهور رضي الله عنه، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين.

- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» في هذا دليل على أن القرآن يشفع لأصحابه يوم القيامة، وأصحابه هم الذين يتلونه ويقرءونه ويحفظونه ويدرسونه ويفهمونه ويعلمونه، كل هؤلاء أصحاب القرآن، فهذه فضيلة لأهل القرآن؛ ولذلك حثّ الرسول  صلى الله عليه وسلم  على قراءته وتلاوته، والعمل بما فيه، وأخرج الإمام ابن حبان في صحيحه: من حديث جابر عن النبي  صلى الله عليه وسلم  أنه قال:  «القرآن شافعٌ مشفّع، وماحِلٌ مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار». ومعنى « ماحل» يعني: شاهد، فالذي يجعل القرآن أمامه، ويقتدي به، ويعمل بأحكامه، ويعظمه ويجله، ويجعله نصب عينه، فإنه يقوده إلى الجنة، ومن جعل القرآن خلف ظهره، ونسيه وتناساه، واشتغل بغيره، وأعرض عن العمل به، فإنه يدفعه في قفاه في جهنم والعياذ بالله، كما قال تعالى: {فإما يأتينّكم منّي هُدًى فمنْ اتبّعَ هداي فلا يضلُّ ولا يشقى ومنْ أعرضَ عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكاً ونحشره يومَ القيامة أعمى} (طه: 123-124).

- وقال تعالى عن اليهود: {ولما جاءهم رسولٌ من عند الله مصدّقٌ لما معهم نَبذَ فريقٌ من الذين أُوتوا الكتبَ كتابَ الله وراءَ ظُهورهم كأنهم لا يعلمون واتّبعوا ما تتلو الشياطين} (البقرة: 101 – 102).

- وقال  صلى الله عليه وسلم  أيضا في شفاعة القرآن: «الصيامُ والقرآن يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامة، يقولُ الصيام: أي ربّ، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآنُ: ربّ منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، فيشفعان» رواه أحمد والطبراني.

- قوله: «اقرءوا الزهراوين» والزهراوان مثنى زهراء، والزهراء هي المنيرة المضيئة، وسميت البقرة وآل عمران بالزهراوين لعظيم نورهما على أصحابهما في الدنيا والآخرة، وكثرة هدايتهما، وكثير أجرهما في الدنيا والآخرة.

- قوله: «فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان» الغمامة والغياية كلاهما بمعنى واحد، فالغمامة هي ما تغم الإنسان يعني تغطيه وتستره عن السماء، والغياية كذلك، وهي الظله كالغمامة فوق الرأس، من سحابة أو غيرها، فالمعنى: تأتي هاتان السورتان كأنهما غمامتان يوم القيامة تظلان صاحبهما من حرّ الشمس في الموقف.

- قوله: «أو كأنهما فرقان من طير صواف» فرقان: يعني قطعتان أو جماعتان من طير، أي: تأتي هاتان السورتان يوم القيامة كأنهما جماعتان من الطير، وفي رواية «حزقان من طير» والمعنى واحد، والطير الصواف هي الطير التي بسطت أجنحتها في السماء أثناء الطيران، فالطير في طيرانه  يبسط جناحيه ويقبض، فيوم القيامة تأتي هاتان السورتان كالطير باسطات أجنحتها على أصحابها، فتظلل أصحابها من حر الشمس يوم القيامة.

- قوله: «تحاجان عن أصحابهما» أي: إن البقرة وآل عمران تحاجان أي تجادلان عن أصحابهما، وتقيمان الحجة لهم، وتدافعان عن المستكثر من قراءتهما، وهذا الحديث ظاهره أن البقرة وآل عمران تجسمان يوم القيامة كالطير أو كالغمام، أو كأنهما فرقان من طير، وهذا أمر ليس بعجيب على قدرة الله سبحانه وتعالى؛ فإنه قادر على أن يجعل الأشياء المعنوية أشياء حسية، كما جاء في كثير من النصوص، فقد ورد في الحديث الصحيح: «أن الموت ُيجاء به يوم القيامة على صورة كبش أملح، ويذبح بين الجنة والنار...» الحديث، فانقلب هذا الشيء المعنوي إلى شيء مادي، كما ذكرنا أن الصيام والقرآن يشفعان لأصحابهما يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، مع أن هذه الأشياء معنوية، إلا أن الله سبحانه وتعالى يجعلها أشياء حسية، قادرة على النطق بحجج، والدفاع عن صاحبها يوم القيامة.

قال الشوكاني: وذلك غير مستبعد من قدرة القادر القوي الذي يقول للشيء: كن فيكون.

- قوله: «اقرءوا سورةَ البقرة؛ فإن أخذها بركة» هذه السورة العظيمة أخذها بركة، وذلك لكثرة ما فيها من المنافع العظيمة، والخير الكثير، والحجج والأحكام والمواعظ والفوائد والعبر، والله تعالى قد ذكر جملة عظيمة وافرة من الأحكام الشرعية في هذه السورة، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يبقون في حفظ هذه السورة مدة طويلة، فقد ورد في الموطأ: أن ابن عمر يقول: مكثت في حفظ سورة البقرة ثماني سنين، وذلك أنهم كانوا يحفظون الآيات والأحكام ولا يكتفون بحفظ الآية فقط، وإنما يتعلمون ما فيها من العقائد والتوحيد والإيمان، والأحكام الفقهية، وما فيها من العمل، أي:كيف يكون العمل بهذه الأحكام التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات.

- وقال أنس رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جدَّ فينا. رواه أحمد. جد يعني: صار عظيما فينا؛ لكونه أصبح عالما من العلماء، فمن قرأ البقرة وآل عمران صار من العلماء، وقراءتهما هنا ليست مجرد التلاوة كما قلنا؛ لأن التلاوة يمكن للرجل أن تكون في ساعة من الزمان، إنما المقصود أنه يقرأ البقرة وآل عمران قراءة تدبر وفهم، ويتعلم أحكامها وكيفية العمل بهذه الأحكام.

        ومن تدبر البقرة وآل عمران رأى فيهما جملة عظيمة وافرة من العقائد وأركان الإيمان والإسلام والإحسان، والأحكام الفقهية والعملية والشرعية، من أحكام العبادات من الصلاة والقبلة والطهارة والصيام والحج والعمرة، ونظام الأسرة المسلمة من الزواج والطلاق والعدة والميراث، وأحكام الدولة المسلمة وأحوال الحرب والسلم والعهود، ثم ما فيها من قصص أهل الكتاب وأحوالهم مع أنبيائهم وما في ذلك من المواعظ والعبر، وغير ذلك كثير، مما يفوق العد والحصر، حتى إنك إذا رجعت إلى كتب الأحكام (أحكام القرآن) ككناب القاضي ابن العربي، أو كتاب الجصاص أو تفسير القرطبي وغيرها، ستجد أن سورة البقرة قد استحوذت على الجل الأكبر من أحكام الإسلام، وهكذا الأحكام في سورة آل عمران؛ ولذا كان أخذها بركة على العبد، فيبارك الله تعالى في علمه وإيمانه وفهمه.

- قوله: «وتركها حسرة» أي: من اشتغل عنها بغيرها، فإنه سيتحسر على هذا إما في الدنيا وإما في الآخرة، وذلك إذا رأى ثواب أهل القرآن يوم القيامة، فإنه سيتحسر على هذا الهجر للقرآن، وما فاته من الفضل والدرجات العلا، وكثير من المسلمين اليوم – للأسف الشديد - اشتغلوا بالدنيا وبتعلم علوم الدنيا، وأنفقوا الأوقات الكثيرة في تعلم العلوم المادية كالطب والهندسة والحاسوب (الكمبيوتر)  والتجارات والصناعات وغفلوا عن القرآن الكريم، والذكر الحكيم، والنور المبين، الذي أنزله الله تعالى على رسوله  صلى الله عليه وسلم  ، وهو كلام الله عز وجل الذي هو أفضل الكلام، كلام العلي القدير، إلا من رحم الله.

- قوله: «ولا تستطيعها البطلة» قال معاوية - وهو أحد رواة الحديث -: «بلغني أن البطلة: السحرة» فمعاوية وهو ابن سلام أبو سلام الدمشقي وهو ثقة، وهو أحد رواة الحديث: أن البطلة هم السحرة، وهم ممن يوصفون بالباطل ويقعون في الكفر، فقراءة سورة البقرة مما يبطل السحر، ويفسد أعمال السحرة من الإنس والجن بإذن الله تعالى.

- وأيضا معتى قوله: «ولا تستطيعها البطلة» أي: لا يستطيعها أهل الباطل على اختلافهم ومللهم، وهم الذين يأتون بالباطل ويدعون إليه، فمن تعلم سورة البقرة وآل عمران، صار قادرا على الرد على أهل الباطل؛ لأنه عرف الحق بتفصيل، وما كان عليه أهل الباطل من يهود ونصارى ومشركين وملاحدة، وما دام أنه عرف الحق الذي في سورة البقرة وآل عمران فهو قادر على الرد على أهل الباطل، فلا يستطيع أهل الباطل أن يتسلطوا عليه، ولا أن يغلبوه.

- وفي هذا الحديث: دليل على أن الذي يشتغل بالقرآن تلاوة وقراءة، وتدبراً وتفكرا وتفسيرا، وتعليماً وتعلما، ليلاً ونهارا، يجازيه الله سبحانه وتعالى أفضل الجزاء وأعظم الإجابة يوم القيامة، وقد ورد في الحديث عند الترمذي: «مَن شغله القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم وحسنه آخرون، ومعنى هذا الحديث: أن الذي يشتغل بالقرآن وبالعلم به، يعطيه الله سبحانه وتعالى أفضل ما يعطي السائلين الداعين، الذين يسألون الله: اللهم أعطني كذا، اللهم أسألك كذا، فهذا الذي اشتغل بالعلم وبالقرآن وبالتفسير، يعطيه الله أفضل ما يعطي هؤلاء الذين يسألونه لأنه اشتغل بكلام الله.

- وجاء عن عبد الله بن خباب رضي الله عنهأنه قال: فضلُ كلام الله على سائر الكلام، كفضل الله على سائر خلقه. رواه عبدالله في السنة.

- أي: إذا أردت أن تعلم فضل القرآن على سائر الكلام، فتذكر أنه كلام الله سبحانه، والله سبحانه وتعالى أعظم من كل شي فكلامه عظيم كذلك، ولأن الكلام صفة من صفات ربنا سبحانه وتعالى، فكلامك أنت كلام يليق بك وبعلمك، وكلام الله سبحانه وتعالى يليق بجلاله وكماله وجماله، وقد نزل بعلم الله، وشاهدا بعظمة الله، كما قال سبحانه وتعالى: {لكنِ اللهُ يَشهد بما أَنزلَ إليك أَنزله بعلمهِ والملائكةُ يَشهدون وكفى بالله شهيدا} (النساء: 166).

       فكلام الله تعالى نزل بعلمه وبحكمته ورحمته، وعظمته وقدرته على كل شيء، ومن كان من أهل القرآن فإنه يغلب أهل الباطل جميعا؛ فإن من تعلم القرآن صار بيده أعظم الحجج والبراهين على إبطال كل باطل، وإذا كان من أخذ بسورة البقرة استطاع أن يبطل بها كل باطل، ودعوة كل مبطل، فكيف إذا تعلم القرآن كله؟!!  فلا شك أنه يكون حبراً من الأحبار الربانيين، وعالما من العلماء المتبحرين، قال سبحانه: {ومنْ يؤتَ الحكمةَ فقد أُوتي خيراً كثيراً} (البفرة: 269). والقرآن معدن الحكمة والعلم.

         وينبغي في الحقيقة أن يندم الإنسان على تضييع الأوقات في غير تعلم القرآن وتفسيره، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر حياته: ندمت على الأوقات التي ضيعتها في غير تفسير القرآن، وودت أني أمضيت عمري كله في تفسير القرآن.

        هذه كلمات قالها شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أمضى عمره في العلم والبحث والقراءة والكتابة والتأليف، فما أمضى عمره في تجارة ولا في زراعة ولا في حساب، وإنما أمضى عمره في القرآن والسنة وعلوم السلف، ونصرة عقيدة أهل السنة والجماعة، والدفاع عنها، والرد على أهل البدع بأنواعهم، ومع ذلك يقول: ندمت على أنني ما أمضيت عمري كله في دراسة القرآن!

نسأل الله تعالى أن ينفعنا بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأن يجعلنا من العلماء به، العاملين بآياته، إنه هو السميع العليم.

 وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك