رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 30 أغسطس، 2021 0 تعليق

شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»

  

 

عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي»، الحديث رواه مسلم في كتاب النكاح (2/1020) في الباب السابق نفسه، ورواه البخاري في النكاح (5063) باب الترغيب في النكاح لقوله -تعالى- {فانْكحُوا ما طابَ لكم مِنَ النَّساء} الآية.

     يُخبِرُ الصحابي أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية البخاري: «أنَّه جاءَ ثَلاثةُ رهطٍ» أي: ثَلاثةُ رِجالٍ، إلى بَيتِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية البخاري: «إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم ».

حرص الصحابة على الخير

     قوله: «وسَأَلوا عَن عِبادتِه - صلى الله عليه وسلم - في السّر»، أي: في بيته، بعيداً عنْ أعين الناس. وفي البخاري: «يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -»، وقد كان الصَّحابة أحْرصَ الناس على الخير، وكانوا يلتزمون هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقتدون به في كلّ أحواله، في العبادات وغيرها.

     فلما سألوهن عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السرِّ؛ حيث لا يطّلع عليه الناس، تحدثت أمهات المؤمنين بما يعلمْنَه منْ حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّهن مأمورات بذِكْر ما يُتلى في بيوتهن، منْ كتاب الله -تعالى-، والحِكمة، والتي هي السُّنة النبوية، قولاً وعملاً، كما قال -تعالى- لهن: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (الأحزاب: 34).

«فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ»

      قوله: «فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ»، وفي البخاري: «فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ»، أي: لمّا أُخبِروا بها وبكَمِّها وكَيْفِها، كأنَّهم تَقالُّوها، أي: رأَوْها قَليلةً، ووقع في قلوبهم أنَّها أقلُّ مما تصوَّروه، ثم اسْتدركوا ووجدوا تأويلاً لذلك فقالوا: أينَ نحْنُ مِنَ النَّبيِّ -[؟ وقد غُفِرَ له ما تَقدَّمَ مِن ذَنْبِه وما تَأخَّرَ؟ أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغفورٌ ذنْبُه، أما هم فيَغْلِبُهُم الخوفُ على مصيرهم، فتعاقدوا على الزيادة في العبادة، والانقطاع عن الدنيا، فعند ذلك قال الأول: «لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ»، وفي البخاري: «وقال آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ، فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا» أي: أعتزلَ الزواج من النساء فلا أتزوّج أبدًا ما حيِيت، وأبقى مُتبتِّلاً مُتَرهّباً.

«وقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ»

قوله: «وقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ» أي: حرّمَ على نفسه أكل اللَّحم، وهو مٍن الطيّبات.

«وقَال بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ»

قوله: «وقَال بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ» أي: ينام على الأرض طلباً للزُّهد والخشونة في المعيشة. وفي رواية البخاري: «قال أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيلَ أبَدًا» أي: يُواصل الصلاة بالليل حتى الفجر دون انقطاع، فلا ينام.

«وقال آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ»

قوله: «وقال آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ» أي: عزم على صيام الأيام كلّها دون أنْ يفطر.

إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعلهم

     قوله: «فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ»، أي: لمَّا عَلِمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمقالتِهم، خطب الناس على المنبر، وفي البخاري: «فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إليهِم، فَقال: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟!» أي: جاءهم وقال لهمْ مُنْكِرًا عليهم ما قالوا: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا من الأقوال؟!.

فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي

     قوله: «لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي». وفي البخاري: «أمَا واللهِ إنِّي لأخشاكمْ للهِ، وأَتْقَاكُمْ له»، أي: مع كَوني أكثرَكم خَشيةً للهِ -تعالى-، وأكثرَكم تقوًى له، يعني بذلك - صلى الله عليه وسلم - أنه بلغ درجة الكمال في الخوف مِنَ الله -تعالى-، واتقاء عذابه، وهذا الخوف مِنَ الله لم يمنعه منْ أنْ يتنعَّم بما أباحه الله -تعالى- لعباده منَ الطيبات، ولا أُبالغُ في العبادةِ المبالغةَ التي تُريدونَ، فإنِّي أَصومُ وأُفطرُ، وأتزوَّجُ النِّساءَ، وآكل اللحم، وأقومُ وأنامُ؛ من أجل الدوام والاستمرار بالعمل الصالح، وخيْرُ العملِ ما داوَمَ عليه صاحبُه، وذلك لأنَّ المتشدِّدَ لا يَأمَنُ مِنَ المَللِ بِخلافِ المقتصِدِ؛ فإنَّه أمكنُ لِاستمرارِه.

تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلو

     ثمَّ حذَّرهمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الغلوِّ والابتعادِ عَن سُنَّتِه في العبادةِ، فقال: «فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي»، أي: فمَن أعرَضَ عَن نَهجي وطَريقتي؛ ومال عنها، فإنَّه بعيدٌ كلَّ البُعدِ عَن مُتابعةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان مَيلُه عن سُنَّتِه - صلى الله عليه وسلم - عن كُرهٍ لها، أو عَدَمِ اعتقادٍ بها، كان كافرًا خارجًا عن الإسلامِ والعياذ بالله. وإنْ كان مَيلُه عنها لغيرِ ذلك، فإنَّه مخالِفٌ لطَريقتِه - صلى الله عليه وسلم - السَّهلةِ السَّمحةِ، الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي لا تَشَدُّدَ فيها ولا عَنَتَ، وقوله: «فمنْ رَغِبَ عن سُنَتي فليس مني»، المراد بالسنة الطريقة والهدي، لا التي تقابل الفرض والواجب، والرغبة عن الشيء: الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري، فليس مني.

فوائد الحديث

وفي الحديثِ فوائد نذكر منها ما يلي:

- الأمرُ بالتَّرفُّقِ في العِبادةِ، مع المحافظةِ عليها وعلى الفرائضِ والنَّوافِل؛ لِيُراعِيَ المسلمُ حُقوقَ غيرِه عليه.

- وفيه: بيانُ ما كان عليه الصَّحابةُ مِن حرصٍ على العِبادةِ وهِمَّةٍ عاليةٍ في التقرُّبِ إلى اللهِ -عزَّ وجَلَّ.

- وفيه: الزَّجرُ عن التَّشديدِ على النَّفْسِ في العِباداتِ بما لا تُطيقُ، والتَّشدد والتعمّق والغلو في الدين، بالانْهماك في العبادات والطاعات، مع حرمان البدن حقَّه من الراحة والاستجمام، والتنعُّم بالطيبات التي امتنَّ الله -تعالى- بها على عباده، أمرٌ يرفضه الإسلام ولا يرتضيه؛ فإن الإسلام دين العدل والوسطية.

فلا يَجوز لِلمسلمِ أنْ يَتكلَّفَ ما لا يُطيقُ مِنَ العبادةِ، وعليه أنْ يَبتعِدَ عَنِ الغُلوِّ مُتأسِّيًا في ذلك بِأتْقى الخَلقِ وأخْشاهمْ للهِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ فخيْرُ الهدْيِ هَدْيُه.

نصوص الكتاب والسنة

     والذي ينظر في نصوص الكتاب والسنة، يجد التحذير الشديد، والوعيد الأكيد، لمن خالف وتشدَّد وتعمق وتنطَّع، ومن ذلك قول الله -تعالى- ذامًّا النصارى: {ورهْبَانيةً ابتَدعوها ما كتَبْناها عليهم} (الحديد: 27)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إيَّاكم والغُلوّ في الدِّين، فإنّما هَلَك مَنْ كانَ قَبْلكم بالغُلوّ في الدِّين». رواه أحمد، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «هلكَ المُتَنطِّعُون» قالها ثلاثًا. رواه مسلم. يعنى: المُتعمِّقين المُجاوزين الحُدودَ في أقوالهم أفعالهم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدين يُسْرٌ، ولنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلا غَلَبَه». رواه البخاري، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اكلَفوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله -عز وجل- لا يملَّ حتى تملَّوا» رواه أحمد، والمتأملُ في أحكام الإسلام وتشريعاته يجدُ أنَّها تغطي جوانب الحياة وحاجاتها كافَّة، بتوازن واعتدالٍ بحكمة الله -تعالى-، دون أنْ يطغى جانبُ على آخر، ولا يحيف حقٌ على حَق.

التشدُّد يخل بباقي الحقوق

     ومن فوائد هذا الحديث: أنَّ مخالفة هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - والتشدُّد والتعمق والمغالاة في التعبّد؛ يؤدي إلى الإخلال بباقي الحقوق والالتزامات التي أمر الله -تعالى- بمراعاتها، والتي منها: حقوق الزوجات والأبناء، والمتأمل في حال أصحاب الغلو في الدين؛ يجد أنهم منْ أضيع الناس لحقوق أُسرهم، فضلاً عن كون التشدد والغلو في العبادات يؤدي بصاحبه في النهاية إلى السأمة والملل، حتى يصل به إلى الانقطاع التام والترك، بل ربما أدى به إلى سلوك طريق أخرى عكس الطريق التي كان عليها، فينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التساهل والتفلّت، فإن طاقة الإنسان محدودة، وإذا تجاوزها العبد اعتراه الفتور والكسل، ومن ثَم الخمود والانتكاس عياذًا بالله!

- وفيه: دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه؛ لقوله: «وأتزوج النساء».

- وفيه تتبُّع أحوال الأكابر من العلماء وأهل الفضل للتأسي بأفعالهم وأقوالهم، وأنه إذا تعذَّرت معرفته منَ الرجال، جاز استكشافه من النساء.

- وفيه: وأن مَن عزَم على عمل برٍّ، واحتاج إلى إظهاره؛ حيثُ يأمَن الرِّياء، لم يكن ذلك ممنوعًا.

- وفيه: تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم، وبيان الأحكام للمكلفين، وإزالة الشبهة عن المجتهدين.

- وفيه: أنَّ المباحات قد تنقلب بالقَصْد؛ إلى الكراهة أو الاستحباب.

- وقال الطبري: فيه الردّ على مَن منَع اسْتعمال الحلال مِنَ الأطعمة والملابس، وآثر غليظَ الثياب، وخَشن المأكل، قال عياض: هذا مما اختلفَ فيه السّلف، فمنهم مَنْ نَحَا إلى ما قال الطبري، ومنهم مَنْ عكس، واحتج بقوله -تعالى-: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (الأحقاف: 20)؛ قال: والحقُّ أنَّ هذه الآية في الكفار، وقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمرين. قال الحافظ: لا يدل ذلك لأحد الفريقين، إنْ كان المراد المداومة على إحْدى الصفتين، والحقّ أنّ ملازمة استعمال الطيبات تُفضي إلى الترفّع والبَطر، ولا يؤمن من الوقوع في الشُّبهات؛ لأن مَنْ اعتادَ ذلك، قد لا يَجده أحيانًا، فلا يستطيعُ الانتقال عنه، فيقع في المَحظُور، كما أنَّ مَنْع تناول ذلك أحيانًا؛ يُفضي إلى التنطُّع المنْهي عنه.

     قال: ويرد عليه صريح قوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } (الأعراف: 32)؛ كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يُفضي إلى الملل القاطع لأصْلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلًا، وترك التنفل يُفْضي إلى إيثار البطالة، وعدم النشاط إلى العبادة، وخيرُ الأمور الوسط، وفي قوله: «إني لأخشاكم لله» مع ما انضمَّ إليه: إشارة إلى ذلك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك