رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 5 يوليو، 2022 0 تعليق

شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب: هِبة المَرْأةِ

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَبِرَتْ، جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ، قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ: يَوْمَها، وَيَوْمَ سَوْدَةَ، الحديث رواه مسلم في كتاب الرضاع (2/1085)، باب: جواز هِبتها نوبتها لضرَّتها.

     قولها: «مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا» المِسلاخ: بكسر الميم وبالخاء المعجمة، وهو الجلد، ومعناه: أنْ أكونَ أنا هي، لأوصافها الجميلة. وقولها «مِن امرأة فيها حِدّة» قال القاضي: مِنْ هنا للبَيان، واستفتاح الكلام، وقولُها: «فِيها حِدَّةٌ» إظْهارَ قُوَّةِ نَفسِها وشِدَّتِها في المواقِفِ، ولمْ تُردْ عائشة عيبَ سودة بذلك، بل وَصَفتها بقوة النَّفس، وجَودة القَريحة، وهي الحِدّة بكسر الحاء.

      وأمّ المُؤمنين سودة: هي بنت زَمعة -وزمعة: بفتح الميم وإسْكانها- ابن قيس العامرية القُرشية، ثاني زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن السَّابقات الأوليات في الإسلام، ولدت في مكة، كانت زوجةً للسَّكران بن عمرو، وأنجبت منه ابنها عبدالله، وهاجرت معه، ومع أخيها مالك بن زمعة في الهجرة الثانية إلى بلاد الحبشة، ورجع السكران وزوجته إلى مكّة، فمات بها قبل الهجرة إلى المدينة، وكانت أول امرأةٍ تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد عائشة، وذكر مُسلم من رواية أنس عن شريك: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - تزوج عائشة قبل سَودة، وكذا ذكره يونس أيضا عن الزهري وعن عبدالله بن محمد بن عقيل، وروى عقيل بن خالد عن الزهري: أنه تزوّج سودة قبل عائشة، قال ابنُ عبدالبر: وهذا قول قتادة وأبي عبيدة. قلت: وقاله أيضاً محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، وابن قتيبة وآخرون. (نووي).

قولها: «فلما كبُرت، جَعلتْ يومها منْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة»

      قال النووي: فيه جواز هِبَتها نوبتها لضَرّتها؛ لأنَّه حقَّها، لكنْ يُشترط رضا الزوج بذلك؛ لأنَّ له حقاً في الواهبة، فلا يُفوّته إلا برضاه، ولا يجوز أنْ تأخذ على هذه الهبة عوضاً، ويجوز أنْ تَهَب للزوج، فيجعل الزوج نوبتها لمن شاء وقيل: يلزمه توزيعها على الباقيات، ويجعل الواهبة كالمعدومة والأول أصح، وللواهبة الرجوع متى شاءت، فترجع في المستقبل دون الماضي، لأنَّ الهِبَات يرجع فيما لمْ يُقْبضْ منْها، دون المقبوض، وقولها: «جَعلتْ يومها» أي: نوبتها، وهي يوم وليلة.

قولها: «فكان يَقْسم لعائشة يومين: يومها ويوم سَودة»

      معناه: أنَّه كان يكون عند عائشة في يومها، ويكون عندها أيضاً في يوم سودة، لا أنَّه يُوالي لها اليومين. والأصّح عند أصحابنا: أنّه لا يَجوز المُوالاة للمَوهوب لها، إلا برضا الباقيات، وجوزه بعض أصحابنا بغير رضاهن، وهو ضعيف. (نووي). وفيه جواز مثل هذا، لأنّه حقّها، وجائزٌ أنْ تأخذ منه على هذا مالاً، لتهبّ حقَّها في الوطء أو تعطيه، على أنّ يمسكها كيف شاء، مِنْ أثَرَة أو غير أثرة، وهو معنى قوله -تعالى-: (وَإِن امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) الآية، النساء: 128. واحتجّ به ابن المنذر: أن قسم النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، إنَّما كان مُيَاوَمَة، وأنه سُنّة لا تخالف، وقد تقدم الكلام فيه، وليس ببين.

القَسْم منْ حقِّ المرأة

     وفيه: أنَّ القَسْم منْ حقِّ المرأة، ولها إسْقاطه، وأنَّ تراضي الضَّرّات بالتفاضل بينهن جائز عليهن، ومباحٌ للزوج لا حَرج عليه فيه، ولا يدخل في النَّهى؛ لأنَّه حقَّها وهبته، لكن لها عند مالك الرُّجوع فيه متى شاءت، وللزَّوج- أيضًا- ألا يرضى بجَعْل يومها لمن وهبته له مِنْ ضرَّاتها.

      هذا: وقد أجْرى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حُكْم العَدل بين نسائه، مَجْرى الحُقوق اللازمة، وألْزمَ ذلك نفسه، وإنْ لم يكنْ لازماً له، لتقتدي بذلك أمَّته، للزوم ذلك لها، وليَظْهر العَدْل بين نسائه، فيُطيّب قلوبهن، ويَحْسن معه عشرتهن، ولا يدخل بينهن مِنَ التَّحاسد والعداوة ما يُكدِّر صحبتهن، كما قال -تعالى-: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} (الأحزاب: 51). قيل: أي لا يَحزن إذا كان هذا منزلاً عليك، ويَرْضَين بما فعلتَ مِنْ تقريبٍ أو إرْجاء؛ إذ كان العدلُ بينهن في حقِّه غير واجب، قال الله -تعالى-: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} (الأحزاب: 51).

شيءٌ خصّ الله به نبيّه عليه السلام

     قال قتادة: هذا شيءٌ خصّ الله به نبيّه -عليه السلام-، ليس لأحَدٍ غيره، كان يَدع المرأةَ مِنْ نسائه ما يشاء، بغيرِ طلاق، فإذا شاءَ راجعها، وهو معنى قوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْك} (الأحزاب: 51)؛ ولهذا قالت عائشة -رضي الله عنها- بعد نُزُول هذه الآيات: «ما أَرَى ربَّك إلا يُسَارع في هَوَاك» هو بفتح الهمزة مِنْ أَرى، ومعناه: يُخفّف عنْك، ويُوسّع عليك في الأمُور، ولهذا خيَّرك في أزواجك.

فوائد الحديث

في الحديث فوائد منها:

- إخْبار عائشة -رضي الله عنها- أنَّها ما تَمنَّت وما أحبَّتْ أنْ تَكونَ مِثلَ امرأةٍ مِن زَوجاتِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو تكونَ مَكانَها، إلَّا سَوْدةَ بنتِ زَمْعةَ، فإنَّها تمَنَّت وأحبَّتْ أنْ تُصبِحَ مِثلَها في العِبادةِ والطَّاعةِ.

- وفيه: أنّ أمّ المؤمنينَ سَوْدَة بنت زَمْعةَ زَوجُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانت مِن العابِداتِ الزَّاهِداتِ، وكانت زَوجاتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَعرِفنَ الفضْلَ لبعضِهنَّ بعضَا، ويَعرِفْنَ ما تَتميَّزُ به كلُّ واحدةٍ منهنَّ عن الأُخْرياتِ.

- وفيه: الغِبطةُ في الخَيرِ، وتَمنِّي الإنسانِ أنْ يكونَ مِثلَ غَيرِه في الصِّفاتِ الحميدةِ.

- لمَّا كَبرَتْ سَوْدةُ في السِّنِّ، جَعَلَتْ يَومَها مع رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - لِعائشةَ، وما فعَلَتْه سَودةُ -رضي الله عنها- يدلّ على رَجاحةِ عَقْلِها؛ فقدْ جَعلَتْ يَومَها لأَكثَرِ النِّساءِ حُبًّا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم .

- وفيه: بَيانُ حُبِّ نِساءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له، وسَعيِهنَّ في مَرضاتِه، وإرشادُ الزَّوجةِ إلى تَرضيةِ زَوجِها بما يُحِبُّ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك