رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 4 أغسطس، 2022 0 تعليق

شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب: مَنْ قَدِمَ مِ

شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم - باب: مَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فلا يَعْجَل بالدُّخُولِ على أهْله كي تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ ( الأخيرة )

     عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي»، الحديث رواه مسلم في كتاب النكاح (2/1020) في الباب السابق نفسه، ورواه البخاري في النكاح (5063) باب الترغيب في النكاح لقوله -تعالى- {فانْكحُوا ما طابَ لكم مِنَ النَّساء} الآية.

     عَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ - رضي الله عنه -: قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فِي غَزَاةٍ، فَلَمَّا أَقْبَلْنَا تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ خَلْفِي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الْإِبِلِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: «مَا يُعْجِلُكَ يَا جَابِرُ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَقَال: «أَبِكْراً تَزَوَّجْتَهَا أَمْ ثَيِّبًا؟» قَال قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَال: «هَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ»! قَال: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَال: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا- أَيْ عِشَاءً- كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ»، قَال: وقَال: «إِذَا قَدِمْتَ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ»، الحديث رواه مسلم في الرضاع (2/1088) باب: اسْتحبابُ نِكاح البِكر، ورواه البخاري في النكاح (5079) باب: تزويج الثيّبات. فهو متفق عليه.

     في هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبداللهِ -رضي الله عنهما- أنَّهم كانوا معَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- في غَزوةٍ خارجَ المدينةِ، قيل: كان ذلك في فَتحِ مكَّةَ، وكانوا راجِعينَ منها إلى المدينةِ.

قوله: «فلما أقبلنا تعجّلت»

     قال النووي: هكذا هو في نسخ بلادنا» «أقْبلنا»، وفي رواية ابن ماهان «أقفلنا» بالفاء، قال: ووجه الكلام «قفلنا» أي: رجعنا، ويصح «أقبلنا» بفتح اللام أي: أقْفلنا النَّبي - صلى الله عليه وسلم-، وأقفلنا بضم الهمزة لما لمْ يُسمّ فاعله.

قوله: «تعجّلت على بعيرٍ لي قَطُوف»

     هو بفتح القاف أي: بطيء المشي. أي في طَريقِ عَودَتِهم إلى المدينةِ كان جابرٌ - رضي الله عنه - مُستَعجِلًا، وأسرَعَ السَّيْرَ على جَمَلٍ له، وكان الجمَلُ قَطُوفًا، أي: بَطيءَ المَشيِ معَ تَقارُبِ الخَطوِ، فلَحِقَه أحدٌ مِنْ خَلفِه، فنخَسَ بَعيرَه، أي: طعَنَ الجمَلَ وضرَبَه في مُؤخِّرتِهِ لِيُسرِعَ مِن سَيْرِه.

قوله: «فنَخَسَ بعيري بعَنَزة»

     العَنَزة بفتح العين والنون، وهي عَصَا نحو نصف الرّمح، في أسْفلها زجّ (حديدة)، وقوله: «فانطلقَ بَعيري كأجْودِ ما أنتَ راءٍ مِنَ الإبل» أي: فأسرَعَ الجمَلُ في السَّيْرِ، واشتَدَّ في الحركةِ، «كأَجْوَدِ» أي: كأفضَلِ وأسْرَعِ ما تَرى مِنَ الجِمالِ. فالتفَتَ جابرٌ لِينظُرَ مَنِ الَّذي طعَنَ جَملَه فأسرَعَ سَيْرَهُ، فوجَدَهُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال النووي: وهذا فيه معجزةٌ ظاهرة لرسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأثر بَركته.

قوله: «مَا يُعْجِلُكَ يَا جَابِرُ؟»

     قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ» أي: فسأَلَه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن سَبَبِ استِعجالِه وإسْراعِه في السَّيْرِ، فأجابَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه: «حديثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ»، أي: قد تزوَّجَ قريباً، فسأَلَه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: هل تزوَّجْتَ بِكْراً، وهي الَّتي لم تَتزوَّجْ مِن قَبلُ، أمْ ثَيِّبًا، وهي الَّتي سَبَقَ لها الزَّواجُ؟ فأخبَرَه جابرٌ - رضي الله عنه - أنَّه تزوَّجَ امرأةً ثيباً، وليستْ بِكراً.

     فقال له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هلَّا جاريةً»! والمرادُ بها البِكرُ، يُرغِّبُه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بزَواجِ الأبْكارِ، «تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ»، أي: تَلعَبُ معَها، وتَلعَبُ معَكَ، وتُلاطِفُها وتُلاطِفكَ؛ فإنَّ الثَّيِّبَ قدْ تكونُ مُتعلِّقةَ القَلْبِ بزَوجِها الأوَّلِ، بخِلافِ البكر الَّتي لم يَسبِقْ لها الزَّواجُ؛ فإنَّ قَلْبَها غالباً ما يَتعلَّقُ بأوَّلِ زَوْجٍ لها، فتَنشَطُ له وتَسْعى في سَعادتِه، وأيضاً: فإنّ البِكر أكثر ولادة، وهي أرْضى باليسير كما جاء في الحديث، وغيرُ ذلك مِنَ الصَّفاتِ.

     وقد اعتذر له جابر - رضي الله عنه - عن زواجه بالثيّب، بقوله- كما في الرواية الأخرى في الصَّحيحَينِ-: «قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، تُوفِّيَ والِدي أوِ استُشهِدَ ولي أخَواتٌ صغارٌ، فكرِهْتُ أنْ أتزوَّجَ مثلَهنَّ، فلا تُؤدِّبُهنَّ، ولا تَقومُ عليهنَّ، فتزوَّجْتُ ثَيِّبًا لتَقومَ عليهنَّ وتؤدِّبَهنَّ». وزاد في مُسلمٍ: «فبارَكَ اللهُ لكَ، أو قال لي خَيرًا».

     قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمْهِلوا حتى نَدخل ليلاً- أي عِشاء- كي تَمْتَشط الشَّعثة» شَعث الرّأس أي تفرق الشَّعر وعدم ترتيبه، «وتَسْتحدّ المُغيبة» الاسْتِحْداد: اسْتعمال الحديدة في شعر العانة، وهو إزالته بالمُوسى، والمُراد هنا إزَالته كيف كانت، والمُغِيبة بضم الميم وكسر الغين وإسْكان الياء، وهي التي غابَ عنها زوجها، وإنْ حَضر زوجها فهي: «مُشْهِد»، والمقصود: أنْ تتجهَّزَ الزَّوجة بالتَّنظف والتَّجمل، وتهيئة نفْسِها لاسْتقبال زَوجها، بعد غيابهِ الطّويل بالسّفر.

      والعلة الثانية مِن الإمهال: الاحْتراز مِنْ تتبّع العَورات، والتَّجسّس المنْهي عنه بكتاب الله -تعالى-، وسنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم-، حتى لا يَهْدم الرجل بيته باتّهامه لزوجته بمجيئه فجأة، فقد ثبتَ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهى مَنْ طالَ غيابه عن زوجته؛ أنْ يأتيها فَجأة، فعن جَابِرٍ -رضي الله عنهما- قال: «نَهَى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا؛ يَتَخَوَّنُهُمْ أو يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ». رواه البخاري (5243) ومسلم (715).

     قال الحافظ ابن حجر: «فيقعُ للذي يَهْجم بعد طولِ الغيبة غالباً ما يَكره، إمّا أنْ يجدَ أهله على غيرِ أُهْبة مِنَ التَّنظفِ والتَّزين المَطلوب من المرأة، فيكونُ ذلك سببَ النُّفْرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «كي تَستحدّ المغيبة، وتمتشط الشعثة»...، وإمَّا أنْ يَجْدها على حال غير مَرضية، والشَّرع مُحرّضٌ على السَّتر، وقد أشار إلى ذلك - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أنْ يَتخَوّنَهم، ويتطلب عثراتهم»، فعلى هذا مَنْ أعلمَ أهلَه بوصُولِه، وأنّه يَقدم في وقتِ كذا مثلاً، لا يتناوله هذا النّهي». (فتح الباري 9/340).

قوله: «أَمْهِلُوا»

     قوله: «أَمْهِلُوا» أي: اصْبِروا وانتَظِروا، ولا تَدخُلوا الآنَ على أهْليكم، «حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا، أَيْ عِشَاءً» أي: بَعدَ صلاةِ العِشاءِ؛ وعلَّلَ ذلك التَّأخيرَ فقال: «كَيْ تَمتَشِطَ»، أي: لكيْ تُهذِّبَ شَعرَ رأسِها وتُجمِّلَه، «الشَّعِثةُ»، أي: الَّتي تَفرَّقَ شَعرُ رأسِها، فأصبَحَ قَبيحَ الهيئةِ، وَيَتَجَمَّلْنَ لهم، ويَستَعدِدْنَ لاستِقبالِهم، فلذا أمَرَهم أنْ يَنتَظِروا إلى اللَّيلِ؛ لكيْ يُعْطوا النِّساءَ فُرصةً لكيْ يَتَجَهَّزْنَ لهم.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قدمتَ فالكيْسَ الكيْسَ»

أي: أوْصى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جابرًا - رضي الله عنه - فقال له: «إذا قَدِمْتَ»، أي: إذا دخلْتَ على أهلِكَ، «فالْكَيْسَ الْكَيْسَ»، قال ابن الأعرابي: الكيس الجِماع، والكيس العقل، والمراد: حثُّه على ابتغاء الوَلد، يَعني كأنَّه يَحُثُّهُ على الجِماعِ، وقيلَ: بلْ أرادَ ما هو أَخَصُّ مِن ذلك، وهو طلب الوَلَدُ، فكأنَّه يُرغِّبُهُ في ابتغاءِ الولدِ، وقيلَ: الكيس هو العقلُ والحِلْمُ، كأنَّه يقولُ له: عليكَ بالعقلِ والحِلْمِ إذا دخَلْتَ على أهلِكَ، فراعِ حالَهم مِنْ حيثُ الطُّهرُ والحَيضُ.

 

 

فوائد الحديث

- حثُّ النَّبي -عليه الصلاة والسلام- على الزَّواجُ، فهو فِطرةٌ إنْسَانية، وسُنَّةٌ مِن سُنَنِ اللهِ -تعالَى- في خَلْقه، ونِعمةٌ جَليلة، وله مَصالحُ شَرعيَّةٌ كَثيرةٌ، وقد اهتمَّ شَرعُنا الحَنيفُ بهذه الفِطرةِ، ورَغَّبَ فيها، ودلَّنا على أسْبابِ الحِفاظِ عليها، مِنْ حُسْنِ الخُلقِ، وطِيبِ العِشرةِ بيْنَ الرَّجلِ وأهْلِه، والبُعد عمّا يُفسدها.

- اسْتعمالُ مكارمِ الأخْلاق، والشَّفقةِ والرّحمة بالزّوجات، والاحْتراز مِنْ تَتَبّع العَورات والتجسّس، والحِرص على ما يقتضي دوام الصُّحبة والعِشرة.

- حُسنُ عِشرةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأصْحابِه، واهْتمامُه بشُؤونِهم، وسُؤالُه عنهم.

- وفيه: فَضلُ نِكاحِ البِكرِ.

- وفيه: فَضلُ جابرٍ - رضي الله عنه -، حيثُ خرَجَ للجهادِ، وسافرَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للغزو، وهو حديثُ عهدٍ بعُرسٍ.

- وفيه: بيانُ بعضِ آدابِ العائدِ مِنَ الغَزْوِ والسَّفَرِ مع أهله.

      تمّ بحمد الله -تعالى- شرح (كتاب النكاح) من مختصر صحيح مسلم، ويليه كتاب: (الطلا)»، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك