رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 7 يوليو، 2022 0 تعليق

شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب: لَا يَفْرَكْ م

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا، رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ، أَوْ قَالَ: غَيْرَهُ». الحديث رواه مسلم في الباب السابق: باب: الوصيّة بالنساء (2/1091)، وقوله: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً» الفَرْكُ: يعني البَغض، يعني لا يُبغض المؤمن المؤمنةَ، أي: زوْجتِه، إذا رأى منْها بعض ما يَكرَهُه من الأخلاق أحياناً، قال النووي -رحمه الله-: «أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْغِضَهَا، لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيها خُلُقًا يُكْرَهُ، وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا مَرْضِيًّا، بِأَنْ تَكُونَ شَرِسَةَ الخُلُقِ، لَكِنَّها دَيِّنَةٌ أَوْ جَمِيلَةٌ، أَوْ عَفِيفَةٌ، أَوْ رَفِيقَةٌ بِهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِك». انتهى.

      قوله: «إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا، رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ، أَوْ قَال: غَيْرَهُ» أي: مَنْ كان مُنْصفاً؛ وازن بين صفاتِ المرأة الحسنة والسيّئة، وذلك أنَّ الإنسانَ يَجب عليه القيامُ بالعدل، والعدل أنْ يُوازِن بين السيئات والحَسَنات، وينظر أيُّهما أكثر، وأيُّهما أعظمُ وقعاً، فيغلِّب ما كان أكثر، وما كان أشدّ تأثيراً؛ وهذا هو العدل.

       وهذا الذي ذكَرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- في المرأة، يجب أنْ يكون في غيرها أيضًا، ممن يكون بينك وبينه معاملة أو صداقة أو ما أشبه ذلك، فإذا أساء إليك يومًا من الدهر، فلا تنسَ سابق إحْسانَه إليك، وقارِنْ بين هذا وهذا، وإذا غلَبَ الإحْسان على الإساءة، فالحُكم للإحْسان، وإنْ غلَبَتْ الإساءةُ على الإحْسان، فانظُرْ إن كان أهلًا للعفو فاعفُ عنه، ومَن عفا وأصلَحَ فأجرُه على الله، وإنْ لمْ يكنْ أهلًا للعفو، فخُذْ بحقّك وأنت غير ملوم إذا أخذت بحقّك، لكن انظر للمصلحة.

إرْشاد مِنَ النبي - صلى الله عليه وسلم- للزَّوج

      قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: «وهذا الإرْشاد مِنَ النبي - صلى الله عليه وسلم- للزَّوج في معاشرة زوجته مِنْ أكبر الأسْباب والدَّواعي إلى حُسْن العشرة بالمعروف، فنَهى المُؤمن عن سُوءِ عِشْرته لزوجته، والنَّهيُّ عن الشيء أمرٌ بضدّه، وأمْره أنْ يَلْحظ ما فيها مِنَ الأخلاق الجميلة، والأمُور التي تُناسبه، وأنْ يَجعلها في مقابلة ما كَرِه مِنْ أخْلاقها، فإنّ الزوج إذا تأمّل ما في زوجته مِنَ الأخْلاق الجميلة، والمَحاسن التي يُحبّها، ونظرَ إلى السّبب الذي دعاه إلى التَّضجّر منها، وسُوء عشرتها، رآه شيئاً واحداً أو اثنين مثلاً، وما فيها ممّا يُحبّ أكثر، فإذا كان مُنْصفاً، غضّ عن مساوئها لاضْمحلالها في مَحاسنها.

       وبهذا تَدوم الصُّحبة، وتُؤدّى الحُقوقُ الواجبة المُسْتحبة، وربّما أنّ ما كره منْها تَسْعى بتعديله أو تبديله، وأمّا مَنْ غَضّ عن المحاسن، ولحَظ المَسْاوئ ولو كانت قليلة، فهذا مِنْ عَدم الإنْصاف، ولا يكاد يَصْفو مع زوجته، والناس في هذا ثلاثة أقسام: أعلاهم: مَنْ لَحَظ الأخْلاقَ الجَميلة والمَحاسن، وغضَّ عن المَسَاوئ بالكلية وتناسَاها، وأقلُّهم توفيقاً وإيماناً وأخلاقا جميلة: مَنْ عَكَس القضية، فأهْدَر المَحَاسن مهْما كانت، وجعلَ المَساوئ نُصْبَ عينيه، وربَّما مَدَّدَها وبَسَطها وفسَّرها بظنونٍ وتأويلات، تجعلُ القليلَ كثيراً، كما هو الواقع، والقسم الثالث: مَنْ لَحَظ الأمْرين، ووازنَ بينهما، وعاملَ الزَّوجة بمُقْتَضى كلِّ واحدٍ منْها، وهذا مُنْصفٌ، ولكنّه قد حُرِم الكمال.

الأدب النبوي

      قال: وهذا الأدبُ الذي أرْشدَ إليه - صلى الله عليه وسلم-، يَنْبغي سُلوكه واسْتعماله مع جميعِ المعاشَرِين والمعَامَلين؛ فإنَّ نفْعَه الدّيني والدنيوي كثير، وصاحبه قد سَعى في راحةِ قلبه، وفي السَّبب الذي يُدْرك به القيام بالحُقوق الواجبة والمُسْتحبة؛ لأنَّ الكمال في الناس مُتَعذّر، وحسبُ الفاضلِ أنْ تُعدَّ مَعايبه، وتوطين النَّفْس على ما يجيء مِنَ المُعاشَرين ممّا يُخالفُ رغبةَ الإنسان، يُسَهّل عليه حُسْن الخُلُق، وفِعْل المَعْروف والإحْسان مع الناس.. والله الموفق». «بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار».

وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ

      وما أجملَ قول الله -سبحانه وتعالى- في هذا الباب: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء: 19)! يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره: «أي: طيِّبُوا أقوالكم لهنَّ، وحسِّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قُدْرتكم، كما تُحبّ ذلك منها؛ فافعل أنتَ بها مثله، كما قال -تعالى-: {ولهنّ مثلُ الذي عليهنّ بالمعروف}. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُكمْ خَيركم لأهْله، وأنا خَيرُكم لأهْله»، وكان مِنْ أخْلاقه - صلى الله عليه وسلم- أنَّه جميلُ العِشْرة، دائم البِشْر، يُدَاعب أهله، ويتلطّف بهم، ويُوسعهم نفقة، ويُضَاحك نساءه، حتى إنَّه كان يُسَابق عائشة أمّ المؤمنين -رضي الله عنها-، يتودّد إليها بذلك، وقد قال الله -تعالى-: {لقد كانَ لكمْ في رسُول الله أُسْوةٌ حَسَنة}.

قوله -تعالى-: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ..}

     قال: وقوله -تعالى-: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} أي: فعسى أنْ يكونَ صبْركم في إمساكهنّ مع الكراهة فيه خيرٌ كثيرٌ لكم في الدنيا والآخرة، كما قال ابن عباس في هذه الآية: هو أنْ يَعْطف عليها، فيُرزق منها ولداً، ويكون في ذلك الولد خيرٌ كثير». (حسن التحرير في تهذيب تفسير ابن كثير1/440-441)، وإننا لنرى كثيراً مِنَ الأزواج والزَّوجات قد اسْتحالت حياتهم الزَّوجية إلى جـَحـيمٍ لا يُطاق، بالغفلة عن هذا التوجيه النبوي، فمشاجرات ومُناوشات وتطاول بالأيدي والألسن، بنظرهم دومـاً إلى نصفِ الكوب الفارغ.

       وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: الفَرْكُ: يعني البَغضاء والعداوة، يعني لا يُعادي المؤمن المؤمنةَ كزوْجتِه مثلًا، لا يُعاديها ويُبغِضها إذا رأى منْها ما يَكرَهُه من الأخلاق؛ وذلك لأن الإنسان يجب عليه القيامُ بالعدل، وأنْ يُراعي المُعامل له بما تقتضيه حاله، والعَدل أنْ يوازِن بين السّيئات والحَسَنات، وينْظر أيّهما أكثر، وأيّهما أعظم وقعاً، فيغلِّب ما كان أكثر وما كان أشد تأثيراً؛ هذا هو العدل.

      {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (المائدة: 8)، يعني: لا يَحمِلْكم بُغضُهم على عدم العدل، اعدلوا ولو كنتم تبغضونه؛ ولهذا لما بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن رواحة إلى أهل خَيْبَرَ، لِيَخرُصَ عليهم ثمر النَّخل، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عامَلَ أهل خَيْبَرَ حين فتَحَها على أن يَكْفوه المؤونة، ويقوموا بإصلاح النخيل والزرع، ولهم النّصفُ.

      فكان يَبْعثُ عليهم مَنْ يخرُصُ عليهم الثّمرة، فبعثَ إليهم عبدالله بن رواحة فخرَصَها عليهم، ثم قال لهم: يا معشر اليهود، أنتم أبْغضُ الخلقِ إليَّ، قتَلتُم أنبياء الله عز وجل، وكذَبتم على الله، وليس يحملني بُغضي إياكم على أن أَحِيفَ عليكم، قد خرَصتُ عشرين ألف وَسْقٍ من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبَيْتم فلي، فقالوا: بهذا قامت السمواتُ والأرض.

الحكم بالعدل والقسط

      فالشاهد أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أنْ يكون الإنسان حاكماً بالعدل والقِسط، فقال: «لا يَفرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً»، يعني لا يُبْغضها لأخْلاقها، «إنْ كَرِهَ منْها خُلُقًا، رَضِيَ منها خُلُقًا آخَرَ»، فإذا أساءتْ مثلاً في ردِّها عليك مرّة، لكنّها أحْسنتْ إليك مرات، أساءتْ ليلةً، لكنَّها أحسنتْ لياليَ، أساءَت في معاملة الأولاد مرة، لكنْ أحْسنت كثيرًا... وهكذا. فأنتَ إذا أساءت إليك زوجتُك، لا تنظر إلى الإساءة في الوقت الحاضر، ولكنْ انظر إلى الماضي وانظر للمُسْتقبل، واحْكم بالعدل.

       وهذا الذي ذكَرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المَرأة، يكون في غيرها أيضاً، ممن يكون بينك وبينه معاملة أو صداقة أو ما أشبه ذلك، إذا أساءَ إليك يوما مِنَ الدّهر، فلا تنسَ إحْسانَه إليك مرّة أخرى، وقارِنْ بين هذا وهذا، وإذا غلَبَ الإحْسان على الإساءة، فالحكم للإحسان، وإن غلَبَت الإساءة على الإحسان، فانظُرْ إن كان أهلًا للعفو فاعفُ عنه، ومَنْ عَفَا وأصلَحَ فأجْرُه على الله، وإنْ لمْ يكنْ أهلًا للعفو، فخُذْ بحقّك وأنت غير ملومٍ إذا أخذت بحقّك، لكن انظر للمصلحة.

المعاملة بالعدل

      فالحاصل أنَّ الإنسان ينبغي له أنْ يُعامل من بينه وبينهم صلةٌ؛ مِنْ زوجيَّة، أو صداقة، أو معاملة، في بيع أو شراء أو غيره، أنْ يُعامله بالعدل، إذا كَرِهَ منه خلُقًا أو أساء إليه في معاملة، أنْ يَنْظُر للجوانب الأخْرى الحَسَنة؛ حتى يُقارِن بين هذا وهذا، فإن هذا هو العدل الذي أمَرَ اللهُ به ورسوله، كما قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90). انتهى. (شرح رياض الصالحين 3/ 122- 124).

 

فوائد الحديث

- الحَثُّ على حُسنِ العِشْرةِ والصُّحبةِ مع الزوجات وغيرهن.

- قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «في الحديثِ فائدتان عظيمتان:

     الفائدة الأولى: الإرشاد إلى معاملةِ الزَّوجة والقريبِ والصاحب والمعامل، وكلّ مَنْ بينك وبينه علاقة واتّصال، وأنّه ينبغي أنْ تُوطّن نفسك على أنّه لابدّ أنْ يكون فيه عيبٌ أو نقصٌ أو أمرٌ تكرهه، فإذا وجدتَ ذلك، فقارنْ بين هذا؛ وبين ما يَجبُ عليك أو ينبغي لك مِنْ قوّة الاتصال والإبقاء على المَحبّة، بتذكّر ما فيه مِنَ المحاسن، والمقاصد الخاصّة والعامة، وبهذا الإغْضاء عن المَساوئ وملاحظة المَحاسن، تدوم الصُّحبة والاتصال، وتتمّ الراحة وتحصل لك.

      الفائدة الثانية: وهي زوالُ الهمّ والقلق، وبقاء الصّفاء، والمُداومة على القيام بالحُقوق الواجبة والمستحبة: وحُصُول الراحة بين الطّرفين، ومَنْ لمْ يَسْترشد بهذا الذي ذكره النّبي - صلى الله عليه وسلم - بل عكس القَضية فلحَظ المَساوئ، وعمي عن المَحاسن-، فلا بد أنْ يَقْلق، ولا بد أنْ يتكدّر ما بينه وبين مَنْ يتّصل به مِنَ المَحبّة، ويتقطع كثير من الحقوق التي على كلٍ منْهما المحافظة عليها، وكثيرٌ من الناس ذوي الهِمَم العالية يُوطنُون أنفسَهم عند وقُوع الكوارث والمُزْعجات، على الصّبر والطمأنينة، لكن عند الأمورِ التافهة البسيطة يقلقون، ويتكدّر الصّفاء، والسبب في هذا أنّهم وطَّنوا نفوسهم عند الأمور الكبار، وتركوها عند الأمورِ الصِّغار؛ فضرَّتهم وأثَّرَت في راحتهم، فالحازم يُوطّن نفسَه على الأمُور القليلة والكبيرة، ويسأل الله الإعانة عليها، وألا يكله إلى نفسه طرفة عين، فعند ذلك يَسهُل عليه الصغير، كما سهَّل عليه الكبير، ويبقى مُطْمئّن النَّفس، ساكن القلب مُسْتريحا». «الوسائل المفيدة للحياة السعيدة» (ص 26).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك