رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 21 سبتمبر، 2021 0 تعليق

شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب: في نِكاح ذاتِ الدين

 

799.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». هذا الحديث رواه مسلم في الرضاع (2/1086) باب: استحباب نكاح ذات الدين. ورواه البخاري في النكاح (5090) باب: الأكفاء في الدين، فهو متفق عليه.

مقاصد الناس في الزواج

قوله: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا..» يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يفعله الناس في العادة، وليس في الحديث أمرٌ أو ترغيبٌ في نكاح المرأة لأجل جمالها، أو حسبها أو مالها.

     وإنّما المعنى: أن هذه هي مقاصد الناس في الزواج، فمنهم من يبحث عن ذات الجمال، ومنهم من يطلب الحسب، ومنْهم من يرغب في المال، ومنهم من يتزوج المرأة لدينها، وهو ما رغب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في آخر الحديث: «فاظفر بذاتِ الدين تربت يداك».

     قال الحافظ النووي رحمه الله: «الصحيح في معنى هذا الحديث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بما يفعله الناس في العادة فإنَّهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين، لا أنه أمر بذلك... وفي هذا الحديث الحث على مصاحبة أهل الدين في كل شيء؛ لأن صاحبهم يستفيد من أخلاقهم وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم « اهـ باختصار من شرح مسلم.

الخصال الأربع مباحة

     وقَال الْقُرْطُبِيّ: «معْنَى الحَدِيث: أَنَّ هَذِهِ الخِصَال الأَرْبَع؛ هِيَ الَّتِي يُرْغَب في نِكَاح المَرْأَة لأَجْلِهَا، فَهو خَبَرٌ عمَّا فِي الْوُجُود مِنْ ذلِك، لا أَنَّهُ وَقَعَ الأَمْر بِذلك، بلْ ظَاهِره إِبَاحَة النِّكَاح لِقَصْدِ كُلّ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنَّ قَصْدَ الدِّين أَوْلَى، قَال: ولا يُظَنّ مِنْ هذَا الحَدِيث أَنَّ هَذِهِ الأَرْبَع تُؤْخَذ مِنْهَا الْكَفَاءَة، أَيْ تَنْحَصِر فِيها، فَإِنَّ ذَلِك لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَد فِيما عَلِمْت، وإِنْ كَانُوا اِخْتَلَفُوا فِي الْكَفَاءَة ما هِي». فالمال والحسب والجمال والدين، أربعة أشياء يسعى إليها الرجل، ويطمع ويرغب ويسعى، إلى الفوز بمن تتوافر فيها واحدة منها، أو أكثر.

- وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي: «قال القاضي رحمه الله: منْ عادة الناس أنْ يَرغبوا في النساء، ويختاروها لإحْدى الخِصال، واللائق بذوي المروءات، وأرباب الديانات، أنْ يكون الدِّين مطمح نظرهم فيما يأتُون ويذرون، لا سيما فيما يَدوم أمره، ويَعظم خطره» اهـ.

قوله: لحسبها

- قوله: «لحسبها» قال الحافظ ابن حجر: «والحَسَب فِي الأَصْل: الشَّرَف بِالآبَاءِ وَبِالأَقَارِبِ، مأْخُوذ مِنْ الحِسَاب، لأَنَّهُم كَانُوا إِذا تَفَاخَرُوا عَدُّوا مَنَاقِبهمْ، ومَآثِر آبَائِهِمْ وقَوْمهم وَحَسَبُوهَا، فَيُحْكَم لِمَنْ زَادَ عَدَده عَلَى غَيْره. وقِيل: الْمُرَاد بِالحَسَبِ هُنَا: الْفِعَال الحَسَنَة. ويُؤْخَذ مِنْهُ: أَنَّ الشَّرِيف النَّسِيب، يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج نَسِيبَة، إِلاّ إِنْ تَعَارَضَ نَسِيبَة غَيْر دَيِّنَة، وغَيْر نَسِيبَة دَيِّنَة، فَتُقَدَّم ذَات الدِّين، وهَكَذَا في كُلّ الصِّفَات.

قوله: ولجمالها

- قَوْله: «ولجَمَالها» يُؤْخَذ مِنْهُ اِسْتِحْبَاب تَزَوُّج الجَمِيلَة، إِلاَّ إِنْ تكون الجَمِيلَةُ غَيْر دَيِّنَة، وغَيْرُ الجمِيلَة دينَةَ، نَعَم لَوْ تَسَاوَتَا فِي الدِّين، فَالجَمِيلَة أَوْلَى، ويَلْتَحِقُ بِالحَسَنَةِ الذَّات، الحَسَنَة الصِّفَات، ومِنْ ذلِكَ: أَنْ تَكُون خَفِيفَة الصَّدَاق.

قوله: تربت يداك

- قَوْله: «تَرِبَتْ يَدَاك» أَيْ: لَصِقَتَا بِالتُّرَابِ، وهيَ كِنَايَة عَنْ الفَقْر، وهُوَ خَبَر بِمَعْنَى الدُّعَاء، لَكِنْ لا يُرَاد بِهِ حَقِيقَته،َ وصُدُور ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ -[- فِي حَقّ مُسْلِم لا يُسْتَجَاب، لِشَرْطِهِ ذَلِك عَلَى رَبّه. وقِيلَ: فِيهِ تَقْدِير شَرْط، أَيْ: وَقَعَ لَك ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَفْعَل، وَرَجَّحَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ. وقال النووي رحمه الله: «والْأَصَحّ الْأَقْوَى الَّذِي عليه المُحَقِّقُونَ في مَعْناه: أَنَّها كَلِمَة أَصْلُها اِفْتَقَرَتْ, ولَكِنَّ الْعَرَب اِعْتَادَتْ اِسْتِعْمالها غَيْر قَاصِدَة حَقِيقَة معْنَاهَا الْأَصْلِي، فيَذْكُرُونَ تَرِبَتْ يَدَاك، وقَاتَلَهُ اللَّه مَا أَشْجَعه، ولَا أُمّ لَهُ، ولَا أَب لَك، وثَكِلَتْهُ أُمّه، ووَيْل أُمّه، وما أَشْبَهَ هَذَا مِنْ أَلْفَاظهمْ يَقُولُونَها عِنْد إِنْكَار الشَّيْء، أَوْ الزَّجْر عَنْهُ، أَوْ الذَّمّ عَلَيْه، أَوْ اِسْتِعْظَامه، أَوْ الْحَثّ علَيه، أَوْ الْإِعْجَاب بِهِ، واللَّهُ أَعْلَم» اهـ.

ومما يؤخذ من الحديث:

1- تحصيل ذات الدين

أَنَّ اللاَّئِق بِذِي الدِّين والمُرُوءَة؛ أَنْ يَكُون الدِّين مَطْمَح نَظَرِهِ في كُلّ شَيْء، لا سِيَّمَا فِيمَا تَطُول صُحْبَته، فَأَمَرَهُ النَّبِيّ -[- بِتَحْصِيلِ صَاحِبَة الدِّين، الَّذِي هو غَايَة البُغْيَة.

2- الحث على مصاحبة أهل الدين

 وفيه: الحَثّ على مُصَاحَبَة أَهْل الدِّين فِي كُلّ شَيْء، لأَنَّ صاحِبهمْ يَسْتَفِيد مِنْ أَخِلاقهم وَبَرَكَتهم، وَحُسْن طَرَائِقهم، ويَأْمَن المَفْسَدَة مِنْ جِهَتهم.

3- المبالغة في مواصفات الزوجة

     بعض الشباب يُبالغون في شروط اختيار الزوجة، والمواصفات الخُلُقية والخَلْقية التي يجب توفُّرُها فيها، والواجب على الشباب المُسلم الحرص على اختيار المَرأة الصالحة، القانتة، الحافظة للغيب بما حفظ الله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} النساء: 34. وليس معنى ذلك أن يهمل الجمال وباقي المقاصد، بل لا بدّ أنْ تكون المرأة مقبولة لديه؛ لتدوم العشرة بينهما، ولتتحقّق الأُلفة والمتعة والمودَّة، ولتعفَّه عن المنكرات.

4- استشعار سوء النية

     عندما يطلب الرجلُ المرأة من أجل مالها، قد تستشعر من البداية سُوء نيته، والطمع فيها، وقد تشعر المرأة أنَّها سَلعة، وربما يكون في تلك المرأة التي سعى إليها من أجل مالها، طغيان في النفس، وتكبُّر وغرور، فليحذر؛ فالمال وحده لا يمكِّنه تحقيق السعادة الزوجية، أو السكن والمودَّة والرحمة، وخاصَّة إذا انفصل عن الصلاح والتقوى.

5- فتنة جمال النساء

وكذا الجمال، وهو سرّ فتنة النساء للرجال، وهذه الفتنة من أشد الفتن ضررًا على الرجال؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال؛ من النساء». متفق عليه.

والجمال إذا لم يكنْ معه الصَّلاح والتقوى؛ يسبَّب للزوج متاعبَ كثيرةً، ومشاكل عديدة، ويحمَّله من الهمِّ والغَيرة والشكِّ ما لا يطيق، ويكلَّفه من الصحة والإنفاق، ما يجعله أسيرًا لهذا الجمال؛ لهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «فاظْفر بذاتِ الدّين، تربتْ يداك».

6- الجمال نسبي

والجمال شيء نسبيٌّ يختلف من رجل إلى آخر، وهو على دربين:

- الأول: جمال الجسد، وهو قد يزول بعد فترة من المعاشرة.

- والثاني: جمال الرُّوح، وهو لا يزول إلا مع ذهاب الروح إلى بارئها جلَّ وعلا، وجمال الروح هو الذي يضفي اللذة والمتعة الحقيقية على الجسد، والسّعادة على الحياة كلها، وخفة الرُّوح تؤدِّي إلى جمال الطباع والأخلاق؛ مما يجعل الزوجة صالحة مطيعة لزوجها، سهلة لينة، نظيفة في نفسها وبيتها، تحسن معاملةَ أهلِ زوجها وجيرانها، جمعت محاسن الأخلاق، فلا تسمع لها صوتًا عاليًا، ولا تفشي سرًّا لزوجها، حنونا على الولد، مشفقةً على زوجها، لا تكلِّفه ما لا يطيق، إذا غَضِب منها زوجها مدَّت يدها إليه، وقالت له: لا يَغمض لي جفن، ولا يحلو لي نوم، حتى ترضى.

7- الجمال الخالي من الإيمان نقمة

     الجمال الخالي من الإيمان والصلاح والحياء، نقمة وليس نعمة؛ وقد حذَّر الله -عز وجل- منه، كما قال الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (البقرة: 221)، لكن إذا اجتمعا فنعم الجمال ونعمت المرأة!؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَال: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ». رواه النسائي (3131)، وصححه الألباني.

8- النظرة سبب للوفاق

     ولقد منح الله - صلى الله عليه وسلم - الحقَّ للرجل في النظر إلى من أراد أن يخطِبها من ذوات الدين والخُلُق، وعلَّل هذا النظر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه أحْرى أن يؤدم بينكما». أحمد والترمذي وابن ماجة. وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خَطب أحدُكم المرأة، فإنْ اسْتطاع أنْ ينظر إلى ما يَدْعوه إلى نكاحها؛ فليفعل». أخرجه أحمد (14586)، وأبو داود (2082)، وحسَّنه الألباني. فالنظرة التي تولد الوفاق النَّفسي، وتلقي في القلب الإعجاب والميل، هي المعتمد في قَبول المرأة.

9- أهمية الحسب والنسب الصالح

الحسب والنسب هو من الأمور المهمَّة، وهو مطلوب ومرغوب، وأفضله اختيار الحسب والنسب الأصيل المشهور بالصلاح والعلم، والسمعة الطيبة، والذِّكر الحسن، وأما إذا كان ذلك للتباهي والتنافس والشهرة، فهو محذور منه وغير مرغوب فيه.

نظرة الرجل البصير

     والرجل البصير هو الذي يجمع عند النظر إلى مخطوبته رؤية شاملة لمستقبل هذه المرأة وقدرتها على تربية الأولاد وصلاحهم، وقدرتها على مشاركته في تحقيق أهدافه وآماله وطموحاته في الحياة؛ لأنه يختار أُمًّا لأولاده، ونسبًا لهم، وأهم من ذلك كله أنه يدخل شريكًا جديدًا بين أسرته، ويختار جزءًا مكمِّلًا له، وزوجًا مشابهًا له؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك