رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 29 يناير، 2022 0 تعليق

شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب: في قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}

 

 

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ على اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ وأَقُولُ: وَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ -عز وجل-: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} (الأحزاب: 59). قَالَتْ قُلْتُ: واللَّهِ، ما أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ لَكَ في هَوَاكَ. الحديث أخرجه مسلم في الرضاع (2/1085) باب: جواز هبتها نَوبتها لضرَّتها، ورواه البخاري فهو متفق عليه.

     قول عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: «كُنْتُ أَغَارُ على اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -»، أغار من الغيرة بفتح الغين، وهي مشتقة من تغير القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين. وقال الكفويّ: الغيرة: كراهة الرّجل اشتراك غيره فيما هو من حقّه، وذكر الرّجل هنا على سبيل التّمثيل، وإلّا فإنّ الغيرة غريزة تشترك فيها الرّجال والنّساء، بل قد تكون من النّساء أشدّ.

غيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

     وكانت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تغار على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتغار من ضرائرها أمهات المؤمنين، بل إنها كانت تغار من خديجة -رضي الله عنها- التي ماتت قبل أن تراها، وذلك لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُكثر من ذكر خديجة -رضي الله عنها-، وقد قيل: إنّ أصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة.

     وفي رواية أخرى لمسلم: «أنَّها كانت تقولُ: أَمَا تَسْتَحي المرأةُ أنْ تهَبَ نفسَها للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم ؟»، أي: ألَا تخجَلُ امرأةٍ من نفْسِها؛ أنْ تعرِضَ نفْسَها على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليتزوَّجَها بلا مُقابلٍ مِن مهرٍ أو غيرِه؟ وكانتْ تقولُ ذلك غَيرةً منها، وقالتْه أيضاً تَقبيحًا لهذا الفعلِ، وتنفيرًا للنِّساءِ عنه؛ لئلَّا تهَبَ النِّساءُ أنفُسَهن له - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنَّ الله -سبحانه- شرَعَ لنَبيِّه مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بعضَ الأحكامِ الخاصَّةِ به، ومن ذلك: أنَّه أباحَ له الزَّواجَ بأكثَرَ من أربعِ نِسوةٍ، وله أنْ تهَبَ المرأةُ نفْسَها له، كما أعطاه خُمُسَ غنائمِ الحربِ، وغير ذلك من الخصائص النبوية.

الغيرة للنساء مسموحٌ لهنَّ فيها

قال ابن بطال: «وفيه أنَّ الغيرة للنساء مسموحٌ لهنَّ فيها، وغير منكر مِنْ أخلاقهن، ولا معاقب عليها ولا على مثلها، لصبر النبي -عليه السلام- لسماع مثل هذا من قولها، ألا ترى قولها له: أرى ربَّك يسارع في هواك، ولم يَرد ذلك عليها، ولا زَجرها، وعَذَرها، لمَا جَعل الله في فِطرتها مِن شدة الغيرة» انتهى. «شرح صحيح البخاري» (7/333).

توسعة اللّه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ورحمته به

     قولها: «فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ -عز وجل-: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} (الأحزاب: 59)، قال القرطبي: «وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا: التَّوْسِعَةُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - فِي تَرْكِ الْقَسْمِ، فَكَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسْمُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ. (الجامع لأحكام القرآن: 14/214)، وقال السعدي: وهذا أيضًا منْ توسعة اللّه على رسوله، ورحمته به، أنْ أباحَ له ترك القَسْم بين زوجاته، على وجه الوجوب، وأنه إنْ فعل ذلك، فهو تبرعٌ منه، ومع ذلك، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في القسم بينهن في كل شيء، ويقول «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك».

{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}

     فقال هنا: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أي: تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك، ولا تبيت عندها، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أي: تضمها وتبيت عندها، (و) مع ذلك لا يتعين هذا الأمر {مَنِ ابْتَغَيْتَ} أي: أنْ تؤويها {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} والمعنى أنَّ الخيرة بيدك في ذلك كله، وقال كثير من المفسرين: إنَّ هذا خاصٌ بالواهبات، له أنْ يُرجي مَنْ يشاء، ويؤوي من يشاء، أي: إنْ شاء قَبِل مَنْ وهبت نفسها له، وإنْ شاء لم يقبلها، واللّه أعلم.

ثم بين الحكمة في ذلك فقال: (ذَلِكَ) أي: التوسعة عليك، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك، وكون ما جاء منك إليهنَّ تبرعًا منك {أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} لعلمهن أنّك لمْ تترك واجبًا، ولم تفرّط في حقٍّ لازم.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}

     (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) أي: ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وعند المزاحمة في الحقوق، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه، لتطمئن قلوب زوجاتك، ففي الآية: أنَّ االله -سبحانه- خيَّرَه في هذه الآيةِ بين أنْ يقبَلَ مَن شاء ممَّن يهَبْنَ أنفُسَهنَّ له، وبين أنْ يرُدَّ مَن لم يشَأْ مِنهُنَّ، عند ذلك قالت عائشةُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ ربَّك لَيُسارِعُ في هواكَ»! أي: يُسارِعُ في مُوافقتِك على ما تُحِبُّ ممَّا أحلَّه لك، ويُخفِّفُ عنك ويُوسِّعُ عليك في الأُمورِ، ويوجد لك مُرادك، بلا تأخير، وأنزَلَ فيها قُرآنًا يُتْلى، فأباح الله له أن يؤوي منْ يشاء من نسائه، ويترك منهن من يشاء، ويقسم لمن يشاء، ويترك القسم لمن يشاء، وكل هذا توسعة من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقولُها هذا كِنايةٌ عن تَرْكِها ذلك التَّنفيرَ والتَّقبيحَ؛ لَمَّا رأَتْ من مُسارعةِ اللهِ -تعالى- في مَرضاةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم .

قال النووي في «شرح مسلم» (10/49): «قَوْلُهَا: «مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ»: هُوَ بِفَتْحِ الهَمْزَة، مِنْ أَرَى، ومَعْناهُ: يُخَفِّفُ عَنْك، ويُوَسِّعُ عَلَيْك فِي الْأُمُورِ، ولِهذا خَيَّرَكَ» انتهى.

وقال ابن حجر: قَوْلُهُ «مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ»: أَيْ ما أَرَى اللَّهَ إِلَّا مُوجِدًا لِمَا تُرِيدُ، بِلَا تَأْخِيرٍ، مُنْزِلًا لِمَا تُحِبُّ وتَخْتَار. «فتح الباري» (8/526).

ونسبتها الهوى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال القرطبي: هذا قول أبرزه الدَّلال والغيرة، وهو مِنْ نوع قولها: «ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله». وإضافة الهوى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُحمل على ظاهره، لأنَّه لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل بالهوى، ولو قالت: إلى مرضاتك لكان أليق، و لكنَّ الغَيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك. انتهى

فوائد الحديث

وفي الحديث فوائد منها ما يلي:

- الحديث دليل على عفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم شهوانيته؛ لأنَّ الله أباح له أي امرأة تهب نفسَها له، وجاءه كثير من النساء وعرضن أنفسهن عليه، لكنه ردَّهن، فقد أخرج الطبري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: لمْ يكنْ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ وهبت نفسَها له، قال ابن حجر في الفتح: وإسناده حسن، والمراد: أنه لم يدخل بواحدة ممَّن وهبتْ نفسها له، وإنْ كان مباحاً له؛ لأنّه راجع إلى إرادته لقوله -تعالى-: {إن أراد النبي أن يستنكحها}. انتهى.

- وفيه: دليل على «ثبوت الغيرة في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء، فضلا عمَّن دونهن.

- وفيه إظهارُ مَكانةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عند رَبِّه -عز وجل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك