رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 24 أغسطس، 2021 0 تعليق

شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب: التَّرغيب في النكاح

 

عَنْ عَلْقَمَةَ قَال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بِمِنًى، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ، فَقَامَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَا نُزَوِّجُكَ جَارِيَةً شَابَّةً، لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟ قَال: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، لَقَدْ قَال لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».

النكاح لغةً

 الضم والتداخل، ومنه قولهم: تناكحت الأشجار، أي: انضم بعضها إلى بعض، وكثر استعماله في الوطء، وسُمي العقد نكاحا؛ لأنه سببه، أي: يسمى به العقد مجازًا؛ لكونه سببًا له، وعن الزجاج: النكاح في كلام العرب بمعنى الوطء والعقد جميعًا.

النكاح شرعًا

     عقد التزويج، أي: عقد يعتبر فيه لفظ «نكاح» أو «تزويج» أو ترجمته، وهو حقيقة في العقد، مَجازٌ في الوطء؛ لكثرة وروده في الكتاب والسنة في العقد، والعقد يعني: الحاصل بالرضا المعبَّر عنه بالإيجاب والقبول، وعلى وجه مشروع بأركان عقد الزواج، والشروط المخصوصة فيه.

والإسلامُ دِينُ الحَنيفيَّةِ السَّمْحةِ، وقدْ راعَى فِطرةَ الإنسانِ، وأوجَدَ المسالِكَ الصَّحيحةَ لِحاجاتِهِ، والعِلاجَ لِمُشكلاتِهِ؛ فلمْ يَطلُبْ مِن المُسلِمِ أنْ يَكبِتَ غَرائزَهُ وشَهَواتِهِ، وفي الوقتِ ذاتِهِ لم يُطلِقْ لِشَهَواتِه العِنانَ، فيَرتَعَ كالبَهائمِ دُونَ حَسيبٍ أو رَقيبٍ.

الزواج من سنة الأنبياء والمرسلين

     ليس من سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا من سنة الأنبياء قبله -عليهم الصلاة والسلام- ترك الزواج، بل إن الزواج من سنتهم، وقد كان لهم أزواج وذرية، كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (الرعد: 38)، يقول -تعالى- ذكره: {ولقد أرسلنا}، يا محمد {رسلا من قبلك} إلى أمم قَدْ خَلَتْ من قبلِ أمتك، فجعلناهم بَشرًا مثلَك, لهم أزواج ينكحون، وذريةٌ أنْسَلوهم، ولمْ نجعلهم ملائكةً لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، فنجعلَ الرسولَ إلى قومك من الملائكة مثلهم، ولكن أرسلنا إليهم بشرًا مثلهم, كما أرسلنا إلى من قبلهم من سائر الأمم بشرًا مثلهم. الطبري.

رحمة من الله

وقال القرطبي -رحمه الله-: أي جعلناهم بشرًا يقضون ما أحل الله من شهوات الدنيا وإنما التخصيص من الوحي، ثم قال: وهذه سنة المرسلين، كما نصت عليه هذه الآية والسنة واردة بمعناها. قال - صلى الله عليه وسلم -: تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم. الحديث، وقد تقدم في آل عمران وقال: من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني. انتهى.

     وفي الصحيحين: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحنُ من النبي - صلى الله عليه وسلم ؟ وقد غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلّي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: «أنتم قلتم كذا وكذا، أما والله، إنّي لأخْشَاكم لله، وأتقاكم له، لكنِّي أصُومُ وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوجُ النساء، فمَن رغبَ عن سُنّتي فليس مني».

ترك الزواج مخالف للفطرة

     كما أن ترك الزواج مخالف للفطرة التي فطر الله الخلق عليها، فقد خلق الله الإنسان ذكرا وأنثى كما قال -تعالى-: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (القيامة: 39). وجعل -سبحانه- ميلا وشهوة بين الجنسين لحكمة بالغة، هي حفظ النسل، وبقاء النوع البشري، كما سنَّ الزواج طريقا نظيفا لإشباع هذا الميل، وقضاء هذه الشهوة، فالعُزوف عن الزواج مناقض لهذه الفِطرة التي خَلق الله عليها البشر ومخالف لسنة المرسلين، ومفض للوقوع في ما حرم الله عز وجل، وقد قال النبي - -: صلى الله عليه وسلم «من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه». أخرجه مالك في الموطأ وغيره.

حديث الباب

     أما حديث الباب: فرواه مسلم في كتاب النكاح (2/1018) وبوب عليه النووي: باب: استحباب النّكاح لمن تاقت إليه نفسه ووجد مؤنة، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، والحديث رواه البخاري (5065) في كتاب النكاح، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من استطاع الباءة فليتزوج». وأيضا في (5066) باب: منْ لم يَستطع الباءة فلْيصم، وعَلْقَمةُ بنُ قَيسٍ النَّخَعيُّ النخعي الكوفي، فقيه الكوفة وعالمها ومُقرئها، أدرك زمن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وصفه الذهبي بأنّه: «الإمام الحافظ المجوّد المُجتهد الكبير».

ويخبر علقمة أنَّه كان مع الصَّحابيِّ عبْدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه - وهما يَمْشيانِ بِمنًى، ومِنًى: وادٍ قُربَ الحَرَمِ المَكِّيِّ، يَنزِلُه الحُجَّاجُ لِيَبيتوا فيه يومَ التَّرويةِ، وأيَّامَ التَّشريقِ، ويَرْموا فيه الجِمارَ.

     قوله: «فلَقِيَه عُثمانُ بنُ عفَّانَ - رضي الله عنه -» يعني لقي ابن مسعود - رضي الله عنه -، فقال عُثمانُ - رضي الله عنه - له: «يا أبَا عبدِ الرَّحْمَنِ» وهي كُنيةُ عبْدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه -، وفي رواية البخاري: «إنَّ لي إلَيْكَ حَاجَةً، فَخَلَيا»، أي: أريدُ أنْ أتكلَّمَ معك على انفراد، فابْتَعَدا معًا في مَوضعٍ ليس معهما أحد.

قوله: «أَلَا نُزَوِّجُكَ جَارِيَةً شَابَّةً؟»

     قوله: «أَلَا نُزَوِّجُكَ جَارِيَةً شَابَّةً، لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟» أي: عرَضَ عُثمانُ - رضي الله عنه - على ابنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه - أنْ يُزوِّجَه بِكرًا، وهي المرأةُ التي لم يَسبِقْ لها الزَّواجُ، وعلَّلَ ذلك بقولِه: «تُذَكِّرُكَ ما كُنْتَ تَعْهَدُ» يُريدُ ما كان مِن قُوَّتِه ونَشاطِه، قيل: إنَّما عرَضَ عليه عُثمانُ - رضي الله عنه - ذلك؛ لِما رأَى ما به مِن تَقشُّفٍ ورَثاثةٍ في الهَيئةِ، فحَمَلَ ذلك على فَقْدِه الزَّوجةَ التي تُرفِّهُه.

     وفي رواية البخاري: «فلمَّا رأَى عبدُ اللهِ - رضي الله عنه - أنَّ ليس له حاجةٌ إلى هذا أشار إلي، فقال: يا علقمة، أي: لمَّا رأَى عبدُ اللهِ - رضي الله عنه  - أنَّ ليس له حاجةٌ في الزَّواجِ، أو أنَّه - رضي الله عنه - لَمَّا رأَى أنَّ الكلامَ الذي بيْنهما قدِ انْتَهى، وأنَّ عُثمانَ - رضي الله عنه - لم يكُنْ له حاجةٌ إلَّا كلامَه عن تَزويجِه، ولم يَبْقَ هناك حَديثٌ يكونُ سِرًّا بيْنهما، دَعا عَلْقمةَ ليَجلِسَ معهما، فجاء عَلْقَمةُ ووَقَفَ عِندَه.

    قوله: «فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، لَقَدْ قَال لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ؛ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ» أي: روى عبْدُ اللهِ - رضي الله عنه - في كلامَه مع عُثمانَ - رضي الله عنه -، حَديث رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو مُناسبٍ لتَذكيرِ عُثمانَ وعَرْضِه الزَّواجَ على عبْدِ اللهِ.

والباءة هي مؤن النكاح، فأراد الشارع أن يبين هذا الأصل، وهو أن الزواج ليس مجرد عقد أو قضاء شهوة في حِلّها، وإنما هو مسؤولية وتكليف، وقوامة للرجال على النساء، بالقيام بما تحتاجه المرأة من النفقات والإصلاح.

حَثُّ الشَّبابِ بتَعجيلِ الزَّواجِ

     وفي الحديث: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَثَّ الشَّبابَ وأمَرَهم بتَعجيلِ الزَّواجِ؛ حيثُ قال مُناديًا الشَّبابَ ومُخصِّصًا إيَّاهم بالمُخاطَبةِ، لأنَّ الغالبَ قُوَّةُ الشَّهوةِ في الشَّبابِ، وهمْ مَظِنَّةُ الحاجة الشديدة إلى النِّساءِ، ولا يَنفكُّون عنها غالبًا، بخِلافِ غيرِهم مِن كِبارِ السِّنِّ: «مَنِ استَطاعَ منكمُ الْباءةَ، فَليتزَوَّجْ»، والباءةُ: المُرادُ بها مُؤنُ النِّكاحِ، أو اسمٌ مِن أسْماءِ الوَطءِ، أي: مَنِ استَطاعَ منكم الزَّواجَ، وقدر عليه، ووجَدَ كُلْفتَه ومُؤنتَه فَلْيتزوَّجْ؛ فلا رَهْبانيَّةَ في الإسلامِ، ويجوز تزويج المعسر والفقير إذا رضيت به المرأة، فقد بوّب الإمام البخاري رحمه الله للحديث بقوله: « بَاب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ؛ لِقَوْلِهِ -تعالى-: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، قال الحافظ -رحمه الله-: « قَوْله: لِقولِهِ -تعالى-: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمْ اللَّه مِنْ فَضْله} هُوَ تَعْلِيل لِحُكْمِ التَّرْجَمَة، وَمُحَصِّله أَنَّ الْفَقْر في الْحَال لَا يَمْنَع التَّزْوِيج؛ لِاحْتِمَالِ حُصُول الْمَال فِي الْمَآل» انتهى، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: «رغَّبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، وعن ابن مسعود قال: «التمسوا الغنى في النكاح».(تفسير ابن كثير).

     وبحسن التوكل على الله -تعالى-، والرغبة في العفاف، وطلب ما عند الله من الفضل، يرجى لمثل هذا الناكح أن يعينه الله، ويرزقه من فضله، كما روى الترمذي (1655) وحسنه: عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ». وحسنه الألباني في (صحيح الترمذي).

قوله: «فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»

     وقوله: «فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، علَّل - صلى الله عليه وسلم - أمره الشباب بالزواج؛ بأنَّ التزَوُّجَ أشَدُّ عَونًا للمَرءِ على غَضِّ البَصَرِ، وأدفَعُ لِعَينِ المتزَوِّجِ عن الحرامِ، وأشَدُّ إحصانًا للفَرْجِ، بالبُعد عن الزنا، ولَمَّا عَلِمَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ليسَ كلُّ شابٍّ يَملِكُ ما يَقدِرُ به على الزَّواجِ، ذَكَرَ لأُمَّتِه عِلاجَ ذلِكَ، فقال: «ومَن لم يَستطِعْ فعليه بالصَّومِ؛ فإنَّه له وِجاءٌ»، يعني: أنَّ مَن لم تكُنْ عِندَه مُؤنةُ الزَّواجِ، فلْيَلزَمِ الصَّومَ، ويُكثر منه، فإنَّه مانِعٌ مِن الشَّهَواتِ، ومُفتِّرٌ لها، وقاطِعٌ لشَرِّها، كما يَفعَلُ الوِجاءُ، وهو رَضُّ الخُصْيتَينِ بحَجرٍ ونَحوِه لقَطْعِ شَهوةِ الذَّكَرِ، وسُمِّيَ الصَّومُ وِجاءً؛ لأنَّه يَفعَلُ فِعْلَه ويَقومُ مَقامَه في كَسرِ الشَّهوةِ، ومَن اعتادَ الصَّومَ سَكَنَتْ شَهوتُه؛ فشَهوةُ النِّكاحِ تابعةٌ لشَهْوةِ الأكْلِ؛ فإنَّه يَقْوى بقُوَّتِها، ويَضعُفُ بضَعْفِها.

فوائد الحديث

وفي الحَديثِ فوائد منها:

- عرْضُ الصَّاحِبِ النِّكاحَ على صاحِبِه، والإسرارُ بمِثلِه، وما كان عليه الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- مِن الحُبِّ والتراحُم فيما بيْنَهم.

- وفيه: الحث على نِكاح الشَّابَّةِ؛ فإنَّها أكثر امتِاعًا لزوجها، وأحسنُ عِشرةً، وأجملُ مَنظرًا، وأقربُ إلى أنْ يُعوِّدَها زَوجُها الأخلاقَ الحَسَنةَ.

- وفيه: مَشروعيَّةُ مُعالَجةِ الشَّهوةِ بما يُسكِّنُها لا بما يَقطَعُها.

- وفيه: فضْلُ صَّومِ التطوع.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك