رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 27 أغسطس، 2022 0 تعليق

شرح كتاب الطَّلاق من مختصر مسلم

شرح كتاب الطَّلاق من مختصر مسلم - باب: في الرّجل يُطلّق

عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَبَتَّ طَلَاقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عبدالرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، فَجَاءَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عبدالرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّهُ واللَّهِ مَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، وأَخَذَتْ بِهُدْبَةٍ مِنْ جِلْبَابِها، قَال: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَاحِكًا، فَقَال: «لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ»، وأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ، لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، قالَ: فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي أَبَا بَكْرٍ: أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم .

     رِفاعة بكسر الرّاء القُرظي بضم القاف، وبالظاء المشالة، منْ بني قريظة، وهو ابن سَمَوأل بفتح السين المهملة وإسْكان الميم، وقيل: ابن رفاعة، وهو أحد العشرة الذين نَزَل فيهم قوله -تعالى-: {ولقد وَصَّلنا لهم القولَ لعلّهم يَتذكّرون} الآية، (القصص: 51)، كما رواه الطبراني في معجمه، وابن مردويه في تفسيره من حديث رفاعة بإسناد صحيح.

      وامرأته هذه اسمها: تُمَيمة بنت وهب، كما رواه مالك في الموطأ: من رواية ابن وهب عنه عن المِسْور بن رفاعة: عن الزبير بن عبدالرحمن بن الزبير عن أبيه: أن رفاعة طلق امرأته ثلاثاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتزوجها فنكحها عبدالرحمن بن الزبير، فاعترض عنها فلم يستطع أنْ يَمسّها فطلّقها، ولمْ يَمسها فأراد رفاعة أنْ ينكحها، وهو زوجها الذي كان طلّقها قبل عبدالرحمن، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاه عنْ تزويجها ، وقال: «لا تحلّ لك حتى تَذُوق العُسَيلة».

     وعبدالرحمن بن الزَّبير بفتح الزاي وكسر الباء بلا خلاف، صحابي معروف، والزّبير هو ابن باطا، وقيل: باطيا، قرظي قُتل على يهوديته في غزوة بني قريظة، وذكر ابن منده وأبو نعيم في كتابيهما «معرفة الصّحابة» أنه مِنَ الأنصار مِنَ الأوس، وأنّه الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف من الأوس، وليس بصواب، وحكى النووي في (شرح مسلم) الأول عن المُحقّقين، وقال: إنّه الصّواب.

قوله: «فبتَّ طَلاقَها»

     هو بتشديد المثناة مِنْ فوق، أي: طلّقها ثلاثاً، وأصْل البَتّ: القطع، أي: طلَّقها آخرَ ثلاثِ تَطْليقات، كما هي صريح الرواية، وليس أنَّه طلقها ثلاثاً بآنٍ واحد.

قوله: «الهُدْبة»

     قوله: «الهُدْبة» بضم الهاء وإسْكان الدال بعدها باء موحدة، هي طَرفُ الثوب الذي لمْ يَنْسج، وهو ما يبقى بعد قطع الثوب من السداء، شُبّه بهدب العين، وهو شعر الجفن، ثم يحتمل أنْ يكونَ تشبيه الذَّكر بالهُدبة لصِغَره، ويحتمل أنْ يكون لاسْترخائه، وعدم انتشاره.

قوله: «فتبَسَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم »

     قال النّووي: قال العلماء إنْ التَّبسّم للتّعجب مِنْ جَهْرها وتصريحها بهذا الذي تَسْتحي النساء منه في العادة، أو لرغبتها في زوجها الأول، وكراهة الثاني.

     قال أبو العباس القرطبي: وفيه أنّ مِثلَ هذا إذا صَدَر مِنْ مُدّعيته لا يُنْكر عليها، ولا تُوبّخ بسببه، فإنّه في مَعْرض المطالبة بالحقوق، ويدل على صحّته: أنّ أبا بكر لمْ يُنْكر، وإنْ كان خالد قد حَرّكه الإنْكار، وحَضّه عليه انتهى.

قوله: «لعلك تُريدِينَ أنْ تَرْجعي إلى رِفاعة»

     تَرْجعي بفتح التاء وكسر الجيم، ويجوز أنْ يكون بضمّ التاء وفتح الجيم مبنياً للمفعول، وسببه: أنّه فهم عنها إرادة فِرَاق عبدالرحمن، وإرادة أنْ يكون فِراقه سَبباً للرجُوع إلى رفاعة، وكأنّه قيل لها: إنّ هذا المقصود لا يَحصل على تقدير أنْ يكون الأمر على ما ذَكرت.

قوله: «لا، حتّى تَذُوقِي عُسَيلته، ويَذُوق عُسَيلتك»

     هو بضمّ العين، وفتح السين، تصغير عَسلة، وهي كنايةٌ عن الجِماع، شَبّه لذته بلذةِ العَسَل وحَلاوته، قالوا: وأنّث العُسَيلة؛ لأنّ في العَسَل لغتين: التذكير والتأنيث، وقيل: أنّثها على إرادة اللّذة، وقيل: أنّثها على إرادة النُّطفة، وهو ضعيف، لأنَّ الإنْزال لا يُشْترط، وقال الجوهري: صُغّرت العسلة بالهاء، لأنّ الغالبَ في العَسل التأنيث، قال: ويقال: إنّما أنَّثَ لأنّه أريد به العَسلة، وهي القِطْعة منه، كما يقال للقِطْعة مِنَ الذّهب ذهبة اهـ.

المُطلّقة ثلاثاً

     وفيه: أنّ المُطلّقة ثلاثاً لا تَحلّ لمُطلّقها حتى تَنْكح زوجاً غيره ويَطَأها، ثمّ يُفارقها وتنقضي عدّتها، ولا تَحل للأول بمُجرّد عقد الثاني عليها، وبه قال جميع العلماء من الصحابة والتابعين فمَنْ بعدهم، وقال سعيد بن المسيّب: إذا عَقد الثاني عليها ثمَّ فارقها حلّتْ للأوّل، ولا يَشترط وَطء الثاني، لقوله: {حتى تَنْكحَ زَوْجاً غَيْره} البقرة: 230، والنّكاح حقيقة في العَقْد على الصّحيح؟

وأجاب الجمهور: بأنَّ هذا الحديث مُخصّصٌ لعُموم الآية، ومُبين للمراد بها. وقال العلماء: ولعل سعيد بن المسيب لمْ يبلغه هذا الحديث.

     قال القاضي عياض: لمْ يقل أحدٌ بقول سعيد في هذا، إلا طائفة من الخوارج، واتفق العلماء على أن تغييب الحشفة في قبلها، كاف في ذلك من غير إنزال المني.

وقال الجمهور: الإيلاج مَظنّة اللَّذة والعُسَيلة، فنِيطَ الحُكم به، ولو وَطِئها في نكاحٍ فاسد، لمْ تحل للأول على الصحيح، لأنّه ليس بزوج.

واكتفى الشافعية والحنابلة بالوطء، ولو مع الجنون أو الإغماء أو النوم، سواء كان ذلك فيه أو فيها، وبه قال ابن الماجشون.

 

المُراد بالنّكاح في القرآن

     قال ابن عبدالبر بعد تقريره اشْتراط الوطء في التَّحليل، وأنَّ المُراد بالنّكاح في جميع القرآن العقد، إلا في قوله -تعالى-: {حتَّى تَنْكحَ زَوجاً غيره} فإنّ المراد به العَقد والوطء معاً، وفيه حُجّة لمالك في أنّه لا يقع التَّحليل في الأيمان إلا بأكْمل الأشياء، وأنّ التحريمَ يقع بأقلّ شيء، ألا تَرَى أنّ تحريمَ نكاح زوجة الأب والابن؛ يَحْصل لمُجرّد العقد، ولو طَلَق بعضَ امْرأته أو ظاهر مِنْ بَعْضها، لزمه حُكم الطلاق، ولو عقد على امرأة بعض نكاح، أو على بعض امْرأة نكاحاً لمْ يصح.

قال: وقد يعترض على ذلك بأنَّ التَّحريمَ لا يَحصل في الرَّبيبة بالعقد على الأم، حتى ينضمّ إليه الدخول.

قوله: «عمَّا تجهر به»

أي: تَرْفع صَوتها، قال أبو العباس القرطبي: وفي غير كتاب مسلم «تَهْجر» مِنَ الهَجْر، وهو الفُحْش مِنَ القول.

مسألة

     استدلّ البخاري في صحيحه به على جواز شَهادة المختبئ، ووجْهه: أن خالد بن سعيد بن العاص رتَّب على سماع كلام هذه المرأة، وهي وراء حجاب قوله: «يا أبا بكر، ألا تزجر هذه عمّا تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، قال: وأجازه عمرو بن حريث، قال: وكذلك يفعل بالكاذب الفاجر، وقال الشعبي وابن سيرين وعطاء وقتادة: السّمع شهادة، وكان الحسن: يقول: لمْ تشهدوني على شيء، وإني سمعت كذا وكذا، ومذهب الأئمة الأربعة: جواز شهادة المختفي، لكن لا بدّ من مُشاهدة المَشْهود عليه حال تحمل الشهادة، ومنع بعض المالكية شهادة المختفي، إذا كان المَشْهود عليه مخدوعاً أو خائفاً.

     قال البيضاوي في «طَرْح التَّثْريب»: واستدلّ به على أنّ العِنّين لا نَضْرب له أجَلا، ولا نَفْسخ عليه نكاح زَوجته، إذا تَبيَّنتْ عُنّته بانقضاء المُدّة، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لمْ يَضْرب لهذه المرأة أجَلاً على زوجها عبدالرحمن بن الزبير، وبهذا قال الحَكم وابن علية وداود، وخالفهم جُمْهور العلماء مِنَ السّلف والخَلف، وتَوهّمهم مِنَ هذا الحديث لا أصْل له، لأنَّها لمْ تأتِ شاكية زوجها، وطَالبته فَسْخ نكاحه بالعُنّة، فإنّه طلَّقها كما دلَّت عليه الرواية التي سقناها مِنَ الموطأ. وروى ابن عبدالبر في «التمهيد»: من طريق سليمان بن يسار: عن عائشة أنّ رجلاً طلقَ امْرأته ثلاثاً، فتزوّجها رجلٌ فطلّقها قبل أنْ يدخل بها، فأراد الأول أنْ يَتزوجها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا، حتّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيلته» قال: وهو حديث لا مطعنَ لأحدٍ في ناقليه.

     قلت (البيضاوي): والتَّصريح بذلك أيضاً في صحيح البخاري في الطلاق: من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «طَلّقَ رجلٌ امرأته فتزوجت زوجاً غيره، وكانت معه مثل الهُدْبة فلمْ تَصلْ منه إلى شيءٍ تُريده، فلمْ تلبثْ أنْ طلّقها، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث.

     وقال أبو العباس القرطبي: لا حُجّة في هذا الحديث، لأنَّ الزَّوج لمْ يُصدّقها على ذلك، بدليل قوله في رواية البخاري في هذا الحديث: «فقال: كذَبَت، والله إني لأنْفُضَها نَفْضَ الأدِيم، ولكنّها ناشزٌ تُريدُ أنْ تَرْجعَ إلى رُفاعة».

     وفيه: قال: وأَبْصَرَ معهُ ابْنَيْنِ له، فَقالَ: بَنُوكَ هَؤُلَاءِ؟ قال: نَعَمْ، قالَ: «هذا الذي تَزْعُمِينَ ما تَزْعُمِينَ؟! فَوَاللَّهِ لهمْ أشْبَهُ به مِنَ الغُرَابِ بالغُرَابِ».

     قال ابن عبدالبر: في قوله: «تُريدِينَ أنْ تَرْجِعي إلى رفاعة» دليلٌ على أنّ إرادة المرأة الرجُوع إلى زَوجها، لا يَضرّ العَاقد عليها، وأنّها ليستْ بذلك في مَعْنى التَّحليل المُسْتحقّ صاحبه اللَّعنة.

 

 

فوائد الحديث

 

-  لا يحل للمرأة بعد الطلقة الثالثة أنْ ينكحها زوجها، الذي بتَّ طلاقها إلا بعد أنْ تتزوج غيره، ويطأها الزوج الثاني.

- لا بأس مِنَ التَّصريح بالأشياء التي يُسْتحيا منها للحاجة، فقد أقرّها النبي -صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وتَبسّم من كلامها.

- وفيه: حُسْن خُلِق النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وطِيب نفسه.

- لا بأس أنْ تسأل المرأة الشيخ أو المُفْتي عن حاجتها، ولو عنده مَنْ يَسْمع من الرجال ليَسْتفيد الجميع، فإنّها اسْتَفْتت والصّديق حاضر يسمع، وخالد بن سعيد يسمع.

- وفي الحديث: ما كان الصحابة عليه مِنْ سُلوك الأدب بحَضْرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنْكارهم على مَنْ خَالفَ ذلك بفعله أو قوله.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك