رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 28 سبتمبر، 2022 0 تعليق

شرح كتاب الطَّلاق من مختصر مسلم – باب: في قوله تعا

861. عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: مَكَثْتُ سَنَةً وأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ فَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ قَال فَقُلْتُ لَهُ: واللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ؛ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ؟ قَال: فَلَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ؛ فَسَلْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتُ أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُكَ. قَال: وقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ ما نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْراً، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ. قَال: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَأْتَمِرُهُ، إِذْ قَالَتْ لِي امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا، فَقُلْتُ لَهَا: ومَا لَكِ أَنْتِ وَلِمَا هَاهُنَا، وَمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فَقَالَتْ: لِي عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ. قَال عُمَرُ: فَآخُذُ رِدَائِي ثُمَّ أَخْرُجُ مَكَانِي، حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟! فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ، فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَغَضَبَ رَسُولِهِ، يَا بُنَيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي قَدْ أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا، وحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا، فَكَلَّمْتُهَا فَقَالَتْ لِي أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَباً لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَزْوَاجِهِ. قَال: فَأَخَذَتْنِي أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِها، وكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ، وإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ، ونَحْنُ حِينَئِذٍ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا، فَقَدْ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ، فَأَتَى صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ، وقَال: افْتَحْ افْتَحْ، فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فَقَالَ: أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَزْوَاجَهُ، فَقُلْتُ: رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ آخُذُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يُرْتَقَى إِلَيْهَا بِعَجَلَةٍ، وَغُلَامٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ، فَأُذِنَ لِي، قَالَ عُمَرُ: فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ؛ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَضْبُورًا، وعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبًا مُعَلَّقَةً، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَكَيْتُ، فَقَال: «مَا يُبْكِيكَ؟» فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا، وَلَكَ الْآخِرَةُ».

الشرح:

الحديث رواه مسلم في الطلاق (2/1108-1110) في الباب السابق نفسه.

ورواه البخاري في التفسير (4913) باب: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ... قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ). وفي النكاح، وغيره.

هيبة عمر

- قوله: «مَكَثْتُ سَنَةً وأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ» يَحكي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنَّه انتظر سَنةً، يُريدُ أنْ يَسأَلَ عُمرَ بنَ الخطابِ - رضي الله عنه - عن آيةٍ، فمَا اسْتطاع أنْ يَسأَلَهُ، وكان سَبَبُ ذلك الخوْفَ مِن عُمَرَ - رضي الله عنه -، وإجْلالَهُ وتَوْقيرَهُ، وهيبته وتَعظيمَ مَقامِهِ، مع صِغَرِ سِنِّ ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما.

     وظلَّ ابنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- حَريصاً على ذلك، إلَّا أنَّه مِن هَيْبتِه لعُمَرَ؛ ما اسْتَطاعَ أنْ يَسألَهُ، فنَهاه عُمَرُ - رضي الله عنه - عن أن يفعَلَ هذا ثانيةً، فلا يمنعُه الخوفُ والمهابةُ مِنَ السُّؤالِ، وذكر له أنْ إذا عَلِمَ أنَّ عِند عُمَرَ - رضي الله عنه- عِلْماً لِمَا يُريدُ، فلْيَعْرِضْ عليه سُؤالَه، فإنْ كانَ عند عُمَرَ - رضي الله عنه - عِلمٌ فسيُجيبه.

وهذا تَشجيعٌ مِن عُمرَ لابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- ألَّا يَجعَلَ شيئاً يَمنعُهُ مِن السُّؤالِ، وطَلَبِ العِلْمِ.

- قوله: «حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ» أي: حتَّى جاءَت الفُرصَةُ عندَ خُروجِهمْ للحَجِّ، وكان ابنُ عبَّاسٍ في رُفْقتِه، ففي أثناءِ عَودتِهم بعْدَ انقضاءِ حَجِّهم، مالَ عمرُ - رضي الله عنه - وتَنحَّى جانِباً عن الطَّريقِ المَسْلوكةِ، إلى الأراك، لِيَقْضيَ حاجَتَه مِن البَولِ والغائطِ، والأراك هو شَجر الأراك؛ وهو الَّذي يُتَّخذُ منه السِّوَاكُ، وقيل: إنَّهما كانا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وهو مَوْضِعٌ قَريبٌ مِن مَكَّةَ.

قوله: «َفوَقَفْتُ لَهُ»

- قوله: «َفوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَزْوَاجِهِ؟» أي: فانتظره ابنُ عَبَّاسٍ حتى فرغ من حاجتِه، ثم سارَ معه فسَأَلَه في أثناء ذلك عن المَرأتينِ مِنْ أزْواجِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم- اللَّتينِ تظاهَرَتا عليه - صلى الله عليه وسلم -، أي: تَعاوَنَتا عليه مِنْ شِدَّةِ الغَيْرَةِ، حتَّى سَاءَ ذلك النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ عُمرُ - رضي الله عنه -: تلكَ حفْصَةُ وعائشةُ -رضي الله عنهما.

- ثمّ بدأ عُمَرُ - رضي الله عنه - يُحدّث بقِصَّةِ عائشةَ وحَفْصَةَ -رضي الله عنهما-، وما كان مِنْ خبرِهِما مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-، فقال: «واللهِ إنْ كنَّا في الجاهِليَّةِ» وهي الفترةُ التي سَبَقت بَعْثةَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-. «ما نَعُدُّ للنِّساءِ أمْرًا» أي: لم يكُنْ لَهُنَّ شأْنٌ أو مكانة، «حتَّى أنزَلَ اللهُ فيهنَّ ما أنْزَلَ، يعني: ما كان مِن وَصِيَّةٍ مِنَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- بمُعاشَرَتِهِنَّ بالمعروفِ والإحْسانِ إليهِنَّ، وقَسَمَ لَهُنَّ ما قَسَمَ» يعني: مِنَ النَّفقةِ والمِيراثِ، الَّذي لم يكُنْ لَهُنَّ حَقٌّ فيه في الجاهليَّةِ.

قوله: «َفَبَيْنَمَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَأْتَمِرُهُ»

- قوله: «َفَبَيْنَمَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَأْتَمِرُهُ؛ إِذْ قَالَتْ لِي امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا، فَقُلْتُ لَهَا: ومَا لَكِ أَنْتِ ولِمَا هَاهُنَا، ومَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟» يذكَرَ عُمَرُ أنَّه بينما كان مشغولًا في أمرٍ يتفكَّرُ فيه؛ إذْ تدخَّلَت زوجتُه تَعرِضُ عليه رأيَها، ومَشورتَها فيه، فأنكر عليها عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عنها- وقال لها: ما بالُكِ تَتدخَّلينَ فيما ليْس مِن شأْنِكِ مِمَّا أُفكِّرُ فيه؟

- قوله: «فقالَتْ لي: «عَجَباً لكَ يا ابنَ الخطَّابِ! ما تُريدُ أنْ تُرَاجَعَ أنتَ» أي: تَستنكِرُ ما رَدَّ به عليها، وأنْ تُراجِعَهُ في أمْرِهِ وتُشاوِرَهُ فيه، وتَعرِضَ عليه رأيَها، قالت: «وإنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-»، فهي تَحتَجُّ بفِعْلِ ابنته حَفصةَ مع رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، وأنّها تفعَلُ هذا مع رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، وهو مَنْ هو، حتَّى إته يَبقى سائِرَ يومِهِ في غَضَبٍ ممَّا تَفعَلُهُ حَفصةُ! وفي روايةِ البُخاريِّ: «فواللهِ إنَّ أزواجَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم- لَيُراجِعْنَه، وإنَّ إحْداهُنَّ لَتَهْجُرُه اليومَ حتى اللَّيلِ، فأفزَعَني، فقُلْتُ: خابتْ مَنْ فَعَل مِنهنّ بعظيم».

- قال ابنُ عبَّاس: «فقامَ عمرُ، فأخَذَ رِداءَهُ مَكانَهُ» وفي هذا إشارةٌ إلى سُرعتِهِ في الذَّهابِ إلى ابنته حَفصةَ، بعْدَما سَمِع ما قالَتْ زَوجتُهُ عنها، «حتَّى دخَلَ على حفْصةَ فقالَ لها: يا بُنَيَّةُ، إنَّكِ لَتُراجِعينَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- حتَّى يَظَلَّ يوْمَهُ غَضْبانَ؟!» يُريدُ أنْ يَتَثَبَّتَ ممَّا قالَتْهُ فيها زَوْجتُهُ، فقالَتْ حَفْصَةُ: «واللهِ إنَّا لَنُراجِعُه» أي: إنَّنا أزواجَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم- لنُراجِعُه، ولسَتُ أنا وَحْدي أفعله.

- قال عمرُ: «فقُلْتُ: تَعلَمِينَ أنِّي أُحَذِّرُكِ عُقوبةَ اللهِ، وغَضَبَ رَسولِهِ - صلى الله عليه وسلم-» أي: فجعَلَ عمرُ - رضي الله عنه - يَنصَحُها ويُحذّرها لتبتعد عن مِثْلِ هذا الخُلُقِ مع رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-. قال: «يا بُنَيَّةُ، لا تَغُرَّنَّكِ» أي: لا تُجَرِّئَنَّكِ، «هذِهِ الَّتي أَعْجَبَها حُسْنُها حُبُّ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- إيَّاهَا» يُريدُ ضَرَّتها أمَّ المُؤمِنينَ عائشَةَ -رَضِيَ اللهُ عنها-، أي: بما لها مِنْ حَظٍّ وحُبٍّ ومَنْزلة عِندَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-. والمعْنى: إيَّاكِ أنْ تَغترِّي بكونِ عائشةَ - رضي الله عنه - تَفعَلُ ما نَهَيْتُكِ عنه، فلا يُؤاخِذُها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ لاحتمالِ ألَّا تَكوني عندَه بتلك المَنزلةِ، فلا يكونُ لك مِن الإدلالِ مِثلُ الَّذي لها، وأَوصاها - رضي الله عنه - بألَّا تَطْلُبَ منهُ - صلى الله عليه وسلم- الكَثيرَ، ولا تُراجِعَه في شَيءٍ، ولا تَهْجُرَه ولو هَجَرَها، وأنْ تَطْلُبَ منه هو كلَّ ما تُرِيدُه وتَحتاجُه، كما في روايةٍ في الصَّحيحينِ.

قوله: «ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ»

- قوله: «ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا، فَكَلَّمْتُهَا» أي: أنّ عمرُ - رضي الله عنه - خرج مِن عِندِ حَفْصةَ -رَضِيَ اللهُ عنها-، فدخل على أمِّ المُؤمِنينَ أمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عنها-؛ لقرابتِه منها، قيل: إنَّ أمَّ عُمرَ كانتْ مَخْزومِيَّةً كأُمِّ سَلَمَةَ، وهي بِنْتُ عَمِّ أُمِّهِ، فكلَّمَها في هذا الشَّأنِ ومُراجَعَتِهِنَّ لرَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، فقالَتْ له أمُّ سَلَمَةَ زَوجُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «عَجَبًا لكَ يا ابنَ الخطَّابِ! دخَلْتَ في كلِّ شيءٍ» أي: في كلّ أُمورِ النَّاسِ؛ وذلك أنَّ عُمرَ - رضي الله عنه - كان يُعْرَفُ بكثرةِ ما يَقترِحُ به على رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- في شُؤونِ العامَّةِ والخاصَّةِ، حتَّى إنَّ نِساءَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم- كُنَّ يَهَبْنَهُ وَيَخْشَيْنَهُ، «حتَّى تَبْتَغِيَ»، أي: تُريدَ، «أنْ تدخُلَ بيْن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- وأزواجِهِ؟!» أي: تَتدخَّلَ في شُؤونِهِ مع زَوجاتِهِ!

لكن الحقّ: أنّ هذا مِنْ عمر - رضي الله عنه - ممّا يعنيه ويهمه، فلا يدخل في الحديث: «مِنْ حُسْنِ إسْلام المَرْء، تَرْكه ما لا يَعْنيه».

- قال عمرُ: «فأَخَذَتْنِي واللهِ أَخْذًا، كَسَرتْنِي عن بعضِ ما كنتُ أجِدُ» أي: أَوْقَفَتْهُ ومنَعَتْهُ أنْ يُكْمِلَ نُصْحَهُ لها، وصرفَتْني عمَّا كان بي مِن غَضَبٍ، وأخَذَتْني بلِسانِها أخْذًا دفَعَني عن مَقصِدي وكَلامِي. «فخرَجْتُ مِن عِنْدِها» أي: مِنْ عند أُمِّ سَلَمةَ -رضِيَ اللهُ عنها-، دون أنْ يُتِمَّ ما عنده مِنْ نصيحةٍ لها.

- قال عُمرُ: «وكانَ لي صاحبٌ مِنَ الأنْصارِ» قيل: هو أَوْسُ بنُ خَوْلِيٍّ - رضي الله عنه -، وقيل: هو عِتْبانُ بنُ مالِكٍ - رضي الله عنه -، وكانا يتبادلان الذَّهابَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-؛ فَينزِلُ صاحبُه يَوماً، ويَنزِلُ عُمرُ - رضي الله عنه - يَومًا، فإذا نَزَلَ عُمرُ - رضي الله عنه - جاءهُ مِن خَبرِ ذلك اليَومِ مِن الوَحْيِ أو الأوامِرِ الشَّرعيَّةِ وغَيرِ ذلك مِن الحَوادِثِ الكائنةِ عِندهُ - صلى الله عليه وسلم -، وإذا نَزَلَ صاحبُه فَعَلَ مِثلَ ذلك؛ وذلك أنَّ الصَّحابةَ -رضِيَ اللهُ عنهم- كانتْ أشغالُهم تَصْرِفُهم عن حُضُورِ بعْضِ المجالِسِ.

- ويَحْكي عُمرُ - رضي الله عنه - أنهم في هذا الوَقتِ كانوا يتخوَّفون مَلِكًا مِن مُلوكِ غسَّانَ، ذُكِرَ لهم أنَّه ربَّما يقَعُ منْه غَزْوٌ للمَدينةِ، وقد امتلأت صُدورُهم خَوفًا مِنْ ذلك، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّهم كانوا مُهْتَمِّينَ بمَعْرفةِ الأخبارِ المُحيطة بهم، ولاسيما أنَّ المدينةَ كانتْ في هذا الوقتِ مُهَدَّدَةً بالغَزْوِ مِن كلّ جانب، وغَسَّانُ همْ قومٌ مِن قَحْطانَ، نَزَلوا حِين تَفرَّقوا مِنْ سَدِّ مَأرِبَ بماءٍ يُقالُ له: غَسَّانُ، فسُمُّوا بذلك، وسَكَنوا بطَرَفِ الشَّامِ.

قوله: «فَقَالَ: أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ

- قوله: «فَقَالَ: أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ، فَقُلْتُ: رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ آخُذُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ»

     وأخبر عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - أنَّ صاحِبَه نَزَلَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-، فسَمِع اعتِزالَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- زَوجاتِه، فرَجَعَ إلى العَوالي -موضعِ بَيتِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، على بُعْدِ ثَلاثةِ أو أربعةِ أميالٍ مِن المدينةِ- في آخِرِ يَومِه ونِهايتِه، وضَرَبَ بابَ عُمرَ - رضي الله عنه - قائلًا: «افتَحِ افتَحْ» أي: يَستعجِلُ عُمرَ - رضي الله عنه - في الفَتْحِ؛ نَظَرًا لأهمِّيَّةِ ما معهُ مِن أخبارٍ، فسأل عُمَرُ: «جاءَ الغسَّانيُّ؟» يَسبِقُهُ عُمرُ - رضي الله عنه - بالكلامِ بما هو مُتوقَّعٌ في هذا الميقاتِ.

في هذا: اسْتحباب حضور مجالس العلم، واستحباب التناوب في حضور العلم، إذا لم يتيسر لكل واحد الحضور بنفسه.

     فقالَ صاحِبُه: «بلْ أشدُّ مِن ذلكَ» أي: إنَّ الحدثَ أكْبرُ ممَّا لو أتى مَلِكُ غسَّانَ! «اعتَزَلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- أزواجَهُ» أي: لا يَدخُلُ عليهِنَّ حُجَرَهنَّ، فقلْتُ: «رَغِمَ أَنْفُ حَفصةَ وعائشةَ!» أي: لَصِقَتْ أُنوفُهُمَا بالتُّرابِ، وقيل: إنَّه خَصَّهما بالذِّكْرِ؛ لِتَرَؤُّسِهما على هذا الأمرِ، حتَّى أغضَبَ ذلك رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم .

- قوله: «ثُمَّ آخُذُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ» أي: فلَبِسَ عمَرُ - رضي الله عنه - ثِيابَه، قال النووي: فِيهِ اِسْتِحْبَاب التَّجَمُّل بِالثَّوْبِ وَالْعِمَامَة وَنَحْوهمَا، عِنْد لِقَاء الْأَئِمَّة وَالْكِبَار، اِحْتِرَامًا لَهُمْ.

     ثم ذَهَبَ إلى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، فصَلَّى الفَجْرَ مَعهُ -صلى الله عليه وسلم-، ودَخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- مَشْربةً له، وهي غُرْفَةٌ مُرتَفِعةٌ يُخزَّنُ فيها الطَّعامُ، فَاعْتَزلَ فيها - صلى الله عليه وسلم- نِساءَه، «وغُلامٌ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- أَسْوَدُ»، وفي رِوايةِ مُسلمٍ: إنَّ اسمَهُ رَباحٌ، «يُرْتَقَى إِلَيْهَا بِعَجَلَةٍ» أي: يَقِفُ على رأسِ الدَّرَجةِ المُوصِلةِ إلى المَشربةِ التي يَعتَزِلُ فيها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- نِساءَه، فكلَّمَ عُمرُ بنُ الخطَّابِ - رضي الله عنه - الغلامَ في أن يطلُبَ له الإذْنَ في الدُّخولِ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، فأذِنَ له رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم.

قوله: «يرتقى إليها بعَجَلها»

- وقوله: «يرتقى إليها بعَجَلها»، وفي بعض النسخ: «بعَجلتها» وفي بعضها: «بعجلة» وكلّه صحيح، والأخيرة أجود.

قال ابن قتيبة وغيره: هي درجة من النخل. كما في الرواية الأخرى: «جذع».

- فقَصَّ عمرُ - رضي الله عنه - على رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- ما سبَقَ منه مِن نُصْحٍ لابنتِهِ ولِأُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنهما-، فلمَّا بلَغَ حَديثَ أمِّ سلَمَةَ الَّذي ذَكَرَتْ له فيه أنَّه يَتدخَّلُ في شأنِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- مع أزواجِهِ، تَبَسَّمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، والتَّبسُّمُ: الضَّحِكُ بلا صَوْتٍ.

- وكان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَجِعٌ على حَصيرٍ دونَ فَرْشٍ، وليْس بيْنه وبيْن الحَصِيرِ شَيءٌ، والحَصيرُ: البِساطُ المَنْسوجُ مِن جَريدِ النَّخْلِ أو غيرِهِ، وتحْتَ رأسِهِ وِسادةٌ مِن جِلْدٍ مَدْبوغٍ، وكان حَشْوُهَا لِيفاً، وكان عِنْدَ رِجليْهِ قَرَظٌ مَصْبُوبٌ، والقَرَظُ؛ قيل: نَوْعٌ مِنَ الشَّجرِ يُدْبَغُ به الجُلودُ، والمُرادُ بَعْضُ ثَمَرِ القرَظِ كان مَصْبوباً، أي: مُكَوَّمًا ومُجَمَّعًا عِند قَدَمِهِ، وكان عِنْدَ رأسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، والأَهَبُ: جَمْعُ إهابٍ، وهو الجِلْدُ غَيْرُ المَدْبوغِ، وهذا كلُّه كِنايةٌ عن رَثاثةِ هَيْئةِ المكانِ الَّذي كان به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم-، وشِدَّةِ الحالِ الَّتي كان عليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم. - قال عُمَرُ - رضي الله عنه -: «فرأيْتُ أَثَرَ الحصيرِ»، أي: علامتَهُ، في جَنْبِهِ الشَّريفِ - صلى الله عليه وسلم-، فَبَكَيْتُ، وذلك إشفاقًا على رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، فقالَ له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «ما يُبْكِيكَ؟» فقلتُ: «يا رسولَ اللهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ» مَلِكانِ لمَملكَتينِ عَظيمتينِ في ذلك الزَّمنِ، وهما فارِسُ والرُّومُ، «فيما هُما فيهِ» مِن الرَّفاهِيَةِ ونَعيمِ الدُّنيا، «وأنتَ رسولُ اللهِ»، أي: أَوْلَى منهم بهذا النَّعيمِ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «أمَا تَرْضَى أنْ تكونَ لهم»، أي: للكُفَّارِ، «الدُّنيا»، أي: نَعيمُها الَّذي يَفْنَى ويَنْتَهي إمَّا بِمَوْتِ صاحبِهِ، أو بزَوالِ النَّعيمِ عنه، أو بزوالِ الدُّنيا، «ولنَا» نحْنُ المُسْلِمينَ «الآخرةُ؟»، أي: نَعيمُها وما فيها مِن خُلودٍ وبَقاءٍ.

     وفي رِوايةٍ أخرى في الصَّحيحينِ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم- كان قد أَقْسَمَ ألَّا يَدخُلَ على زوجاتِهِ شهْراً، فلمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وعِشرونَ دخَلَ على عائِشَةَ -وكان ذلك الشَّهْرُ تِسعا وعِشرينَ-، قالَتْ عائشةُ -رَضِيَ اللهُ عنها-: فَأُنْزِلَتْ آيةُ التَّخْيِيرِ، فبدَأَ بي أوَّلَ امرأةٍ، فقال: «إنِّي ذاكِرٌ لكِ أمْراً، ولا عليكِ ألَّا تَعْجَلي حتَّى تَسْتَأْمِري أَبَوَيْكِ، قالَتْ: قدْ أَعلَمُ أنَّ أَبَوَيَّ لم يكونَا يأمُراني بفِراقِكَ».

     ونزلَ قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} التحريم: 1 - 4. لعائشةَ وحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} التحريم: 3؛ لقوله: بلْ شرِبْتُ عسلًا».

وقيل: السَّبَبُ مَجْموعُ ما كان مِنْهُنَّ مِنْ إغْضابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وليس حَدَثاً بِعَيْنِهِ.

وفي الحَديثِ:

1- بَيانُ ما كان عِند ابنِ عبَّاسٍ مِنْ حِرْصٍ على التَّعلُّمِ وسُؤال أهل العلم.

2- وفيه: مَنقبَةٌ ظاهرةٌ لعُمرَ - رضي الله عنه - لعلمه بالقُرآن وتفسيره.

3- وفيه: مَوعظةُ الرَّجُلِ ابنتَه، وإصْلاحُ خُلقِها لزَوجِها.

4- وفيه: حُسنُ خُلقِه - صلى الله عليه وسلم- وتَبسُّمُه؛ إكراماً لِمَن يَتبسَّمُ إليه.

5- وفيه: زُهْدُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-، وفَضيلةُ الزُّهْدِ، والاكْتِفاءِ بالقليلِ منَ العَيشِ، وأنه مِن أخلاقِ النَّبيِّينَ.

6- وفيه: أنَّ مَتاعَ الدُّنيا لا يَبقى، بخِلافِ نَعيمِ الآخِرةِ؛ فهو الَّذي له البقاءُ.

- رُبَّما كان مِن نِساءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم- مَنْ يَقَعُ منها في حَقِّهِ - صلى الله عليه وسلم- ما يَقَعُ مِنَ النِّساءِ في حَقِّ أزواجِهِنَّ، مِنَ الغَيْرَةِ والمُضايَقاتِ وما شابَه ذلك.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك