رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 نوفمبر، 2022 0 تعليق

شرح كتاب الطَّلاق من مختصر مسلم – باب: في خُروج ال

 

عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ؛ وعن أَبي سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ -رضي الله عنها- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَسْتَفْتِيهِ فِي خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا؛ فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى. فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِي خُرُوجِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ بَيْتِهَا.

وقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ.

     الحديثان رواهما مسلم في الطلاق، باب: المُطلقة ثلاثاً لا نفقةَ لها، الأول في (2/1121) والثاني في (2/1116)، وفاطمةُ بنتُ قَيس -رضي الله عنها-، بن خالد، من بني مُحارب بن فهر بن مالك، أخت الضَّحاك بن قيس الذي ولي العراق ليزيد بن معاوية، كانت مِنَ المهاجرات الأول، ولها عقل وجمال، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى عند قتل عمر بن الخطاب، وتُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي في سنّ السّابعة عشرة.

الحَديث الأول

     تَرْوي فاطمةُ بنتُ قَيْسٍ -رضي الله عنها- في الحَديثِ الأول أنَّها جاءَتْ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: «يا رسولَ اللهِ، زَوْجي طلَّقَني ثلاثًا» أي: كان الطَّلاقُ بائنًا لا رَجْعةَ فيه، «وأخافُ أنْ يُقْتَحَمَ عليَّ» أي: مدَّةَ قضاءِ عدَّتِها في بيتِه، والاقْتحامُ: الدُّخولُ بِسُرعةٍ، والمَعنى: أنَّها تخافُ أنْ يَدخُلَ عليها طليقها فجأة، أو أحدٌ غيره؛ ربما أنَّها كانتْ في مَكانٍ مُوحشٍ.

     فأمَرَها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، أنْ تتحوّل، فتَرَكَتْ هذا المكانَ، وذهَبَتْ إلى بَيتِ ابنِ عمِّها ابنِ أُمِّ مَكتومٍ؛ لأنَّه كان أعْمى وتَسطيعُ أنْ تَنزِعَ عنها ثيابَها دونَ أنْ يَراها، ولمَّا كانت المُطلّقة ثلاثا لا تعتَدّ في بيتِ زَوجِها، لَمْ يَجعَلْ لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُكْنى ولا نَفقةً مدَّةَ عدَّتِها.

اعتداد للضرورة

     واعتداد فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- في بيت ابن أم مكتوم؛ إنّما كان للضرورة، لأنّ زوجها طلقها ثلاثاً، وتَخشى منه أنْ يقتحم عليها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشار عليها -أولاً- أنْ تعتدّ عند أم شريك، ففي صحيح مسلم: عنها: أنّ أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعيرٍ فسَخطته، فقال: والله ما لك علينا منْ شيء، فجاءتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: «ليس لك عليه نفقة» فأمرها أنْ تَعتدّ في بيت أمّ شريك، ثم قال: «تلك امرأة يَغْشاها أصحابي، اعتدّي عند ابنِ أم مكتوم فإنّه رجلٌ أعمى، تَضَعين ثيابك، فإذا حَلَلتِ فآذنيني».

زيارة الصحابة لأم شريك

     قال الحافظ النووي: «ومعنى هذا الحديث: أنَّ الصّحابة -رضي الله عنهم- كانوا يَزُورون أمّ شريك، ويُكْثرون التَّردّد إليها لصَلاحها، فرأى النّبي -صلى الله عليه وسلم - أنَّ على فاطمة مِنَ الاعتداد عندها حَرَجاً؛ مِنْ حيثُ إنه يَلْزمها التحفّظ من نظرهم إليها، ونَظرها إليهم، وانْكشاف شيءٍ منْها، وفي التَّحفظ منْ هذا مع كثرة دُخولهم وتردّدهم مشقة ظاهرة، فأمرها بالاعْتداد عند ابن أم مكتوم؛ لأنّه لا يُبْصرها ولا يتردّد إلى بيته مَنْ يتردّد إلى بيت أمّ شريك، وقد احتج بعض الناس بهذا على جواز نَظر المرأة إلى الأجنبي، بخلافِ نظره إليها، وهذا قولٌ ضعيف؛ بل الصّحيح الذي عليه جُمهور العلماء وأكثر الصحابة: أنه يَحرم على المرأة النظر إلى الأجْنَبي، كما يَحْرم عليه النّظر إليها؛ لقوله -تعالى-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ.... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}.

الفتنة مُشْتركة

     ولأنَّ الفتنة مُشْتركة، وكما يُخاف الافْتِتان بها، تخاف الافْتَتان به، ويدلّ عليه مِنَ السُّنّة حديث نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة أنها كانت هي وميمونة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل ابن أم مكتوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «احتجبا منه» فقالتا: إنه أعمى لا يبصر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفَعَمْياوان أنتُما، فليس تُبْصِرانه؟». وهذا الحديث حديث حسن، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. قال الترمذي: هو حديثٌ حسن، ولا يُلْتفت إلى قَدْح مَنْ قدحَ فيه بغير حُجّة معتمدة.

حديثُ فاطمة بنت قيس

     وأما حديثُ فاطمة بنت قيس مع ابن أمّ مكتوم، فليس فيه إذنٌ لها في النّظر إليه، بل فيه أنّها تأمنُ عنده مِنْ نظر غيرها، وهي مأمورة بغضّ بَصرها، فيُمْكنها الاحْتراز عن النَّظر بلا مشقةٍ، بخلافِ مُكْثها في بيتِ أمّ شريك. اهـ (شرح صحيح مسلم)، وقد أعله كثيرٌ من أهل العلم بنبهان القرشي المخزومي، مولى أم سلمة ومكاتبها، قال الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. أي: إذا تُوبع، وأمّا الذهبي فقد ذهب إلى توثيق نبهان كما في الكاشف (3/198) فقال: ثقة. وبهذا يعلم أنّ اعتدادها في بيت ابن أم مكتوم، هو أخفّ الضّررين.

حاصل القصة

     قوله: «فأبى مروان أن يصدقه في خروج المطلقة من بيتها» أي: فأبى مروان أنْ يُصدّق حديث فاطمة بنت قيس، في كونه يخرج المطلقة منْ بيتها، وحاصل القصة كما في رواية لمسلم وأخرجها النسائي: عن الزهري أنّ عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان طلقَ امرأته، بنت سعيد بن زيد ألبتة، وأمها حزمة بنت قيس، فأمرتها خالتها فاطمة بنت قيس بالانتقال، فسمع ذلك مروان - وهو أمير المدينة - فأنْكر، فذكرتْ أنّ خالتها أخبرتها أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفتاها بذلك، فأرسلَ مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة، يَسألها عن ذلك، فذكرت الحديث، ورجع به ابن ذؤيب إلى مروان، فأبى مروان أنْ يُصدّقه، وقال- كما في رواية لمسلم (2/1117)-: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعِصمة التي وَجَدنا الناس عليها.

     قال النووي: هكذا هو في معظم النّسخ بالعصمة بكسر العين، وفي بعضها: بالقضية بالقاف والضاد، وهذا واضح، ومعنى الأول: بالثقة، والأمر القوي الصحيح.

     فقالت فاطمة بنت قيس حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن، قال الله -عز وجل-: {لا تخرجوهن من بيوتهن} الآية، الطلاق: قالت: هذا لمن كانت له مُراجعة. تقول: هذا في المطلقة رجعيا، لأنّها محبوسة على زوجها، تحل له في أيّ وقت يشاء، فتبقى في بيته، لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً، فيكون قُرْبها منه، ووجودها في بيته وفي جِواره مُساعداً لرجعتها، أمّا المطلقة ثلاثًا لا يحدث بينها وبين زوجها أمر، فلِمَ تُحْبس في بيت مَنْ طلقها؟ أليس هذا ممّا يُؤيّد حديثي، وأنَّ المُطلقة ثلاثًا تعتدّ خارجَ بيت مُطلقها؟

 

من فوائد الحديث

- أنّ اللهُ -تعالى- شرَعَ الطَّلاقَ إذا اخْتارَ الزَّوجانِ الفِراقَ، بعدَ بذْلِ الوُسعِ في الصُّلحِ بينَهما، وجعَلَ أقصاه ثَلاثَ تَطْليقاتٍ؛ حتَّى يُراجِعَ كُلٌّ مِنَ الزَّوجَيْنِ نفْسَهُ في كلّ طلقة، وإلَّا كان الفِراقُ النّهائي بيْنَهما بعد الطَّلْقةِ الثَّالثةِ، فلا تَحِلُّ له بَعدَ ذلك حتَّى تَنكِحَ زوجًا غيرَهُ.

- وقد نظَّمَ الإسْلامُ أيضاً الحُقوقَ والواجِباتِ بينَ الزَّوجَينِ بعدَ الطَّلاقِ، فأمَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- المُطلَّقةَ -سواءٌ أكانت رَجعيَّةً أم بائنةً- أنْ تَقضيَ العِدَّةَ في بَيْتِها، قال -عزَّ وجلَّ-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} (الطلاق: 1).

- يقول الله -تعالى-: يا أيّها النبي إذا أردتم- أنتَ والمؤمنون- أنْ تطلِّقوا نساءكم فطلقوهن مستقبلات لعدتهن -أي في طُهْر لم يقع فيه جماع، أو في حَمْل ظاهر- واحفظُوا العدة؛ لتعلموا وقتَ الرجعة إنْ أردتم أنْ تُراجعوهن، وخافوا الله ربكم، لا تخرجوا المطلقات مِنَ البيوت التي يسكنَّ فيها إلى أنْ تَنْقضي عدّتهن، وهي ثلاثُ حيضات لغير الصغيرة والآيسة والحامل، ولا يجوز لهن الخروج منها بأنفسهن، إلا إذا فعلن فعلة منكرة ظاهرة بالأقوال أو الأفعال كالزنى، وتلك أحكام الله التي شرعها لعباده، ومن يتجاوز أحكام الله فقد ظلم نفسه، وأوردها مورد الهلاك.

- (لا تَدْري) أيها المُطلِّق، لعلّ الله يُحْدث بعد ذلك الطلاق أمْراً لا تتوقعه، فتُراجعها.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك