رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 17 أغسطس، 2022 0 تعليق

شرح كتاب الطَّلاق من مختصر مسلم – باب: الطَّلاق ثل

الطَّلاقُ في الإسْلامِ له ضَوابطُ يَجبُ التقيّد بها ومُراعاتها ويَترتَّبُ عليه حُقوقٌ وواجبات ويَحْرُم تعدّي حُدود الله تعالى فيه

لإمام المُسْلمين أنْ يَسنّ مِنَ الأوامر والزّواجر ما يكون سبباً في صَلاح الرّعية ما دام ذلك في حُدُود قواعد الشَّرع الحكيم

 

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَال: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأَبِي بَكْرٍ، وسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ؛ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ؛ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. الحديث رواه مسلم في الطلاق (2/1099) باب: طلاق الثّلاث.

     قوله: «كان طلاقُ الثلاث في عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة»، وفي رواية عن أبي الصهباء: أنه قال لابن عباس: أتَعلم إنَّما كانت الثلاث تُجعلْ واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وثلاثاً مِنْ إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم».

     وفي رواية: أن أبا الصّهباء قال لابن عباس: هاتِ مِنْ هَنَاتك، ألمْ يكنِ الطّلاقُ الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر، تَتَايع الناس في الطَّلاق، فأجازه عليهم. وتتايع أي تتابع، كما في رواية.

مَن طلَّقَ امْرأتَه ثلاثًا في مجلِسٍ واحدٍ

     ففي هذا الحَديثِ يَرْوي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنَّ الطَّلاقَ كانَ على عهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بَكرٍ، وسَنَتَينِ من خِلافةِ عُمَرَ، أنَّ مَن طلَّقَ امْرأتَه ثلاثًا في مجلِسٍ واحدٍ، أو زمنٍ واحدٍ، يقَعُ طَلْقةً واحدةً، مثلَ أنْ يقولَ: أنتِ طالقٌ ثلاثًا، أو يقولَ: أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ، فيحِقُّ للزَّوجِ أنْ يُراجِعَ زَوجتَه في مدَّةِ العِدَّةِ، فإنِ انتَهَتِ العِدَّةُ، رجَعَتْ إليه بعقدٍ جديدٍ، ولم يَقَعْ ثَلاثَ طلَقاتٍ تَحرُمُ بها امرأتُه عليه حتَّى تَنكِحَ زوجاً آخَرَ، وكانَ تكرار الطلاق مَحمُولًا على إِرادةُ التَّأْكيدِ، وليسَ استِئْنافَ العَدَدِ.

     قوله: «فقال عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنّ الناسَ قد اسْتَعجلوا في أمْرٍ كانتْ لهم فيه أناة، فلو أمْضَيناه عليهم، فأمْضَاه عليهم».

     وقال: «إنَّ النَّاسَ قَدِ استَعْجَلوا في أمْرٍ قدْ كانتْ لَهُم فيه أَناةٌ»، كانتْ لهم فيه أناة، هو بفتح الهمزة أي: مُهْلة، وبقية استمتاع لانتظار المراجعة، أي: كان لهُمُ الطَّلاقُ ثَلاثًا مِن أجْلِ أنْ يُعْطوا لأنفُسِهم وقْتاً؛ يَقدِرونَ فيه على مُراجَعةِ أُمورِهم؛ فربَّما ظهَرَ لهم المصلحة في إرْجاعُ زَوْجاتِهِمْ.

وقولُه: «فَلَوْ أَمْضَيْناهُ علَيْهم»

     يَعني: أنَّه شاوَرَ مَن مَعَهُ منَ الصَّحابةِ -رِضوانُ اللهِ عليهم-، في أنْ يُنفَّذَ على مَن وقَعَ منه الطَّلاقُ ثلاثًا في مَرَّةٍ واحدةٍ، فيَجعَلَه طَلاقًا بائنًا ثَلاثًا كما نطَقَ به؛ زجْراً لهم عَن الِاسْتِعْجالِ في الطَّلاقِ، فأنْفَذَه على النَّاسِ بعدَ اسْتِشارةِ كِبارِ الصَّحابةِ ومُوافَقَتِهم له، وهذا مَحْمولٌ منه - رضي الله عنه - على الاجْتهادِ، ووَضْعِ الضوابطِ الَّتي تَعودُ بالمصلَحةِ على رَعِيَّتِه، فيما يَسمَحُ به الشَّرعُ، لا تَشديداً عليهم.

من قال لامرأته: أنتِ طالقٌ ثلاثاً

     قال النّووي: وقد اختلفَ العُلماء فيمنْ قال لامرأته: أنتِ طالقٌ ثلاثاً، فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء من السلف والخلف: يقع الثلاث، وقال طاوس وبعض أهل الظاهر: لا يقع بذلك إلا واحدة. وهو رواية عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق.

     واحتج هؤلاء بحديث ابن عباس هذا، وبأنّه وقع في بعض روايات حديث ابن عمر: أنّه طَلّق امرأته ثلاثاً في الحَيض؟ ولمْ يُحْتسب به، وبأنّه وقع في حديث رُكانة أنه طلّق امرأته ثلاثاً؛ وأمَرَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برجعتها.

     قال: واحتج الجمهور: بقوله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} الطلاق: قالوا: معناه أنَّ المُطلّق قد يَحْدث له ندمٌ، فلا يُمْكنُه تَدَاركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تَقْع؛ لمْ يقع طلاقه هذا إلا رجعياً فلا يَنْدم.

     واحتجُّوا أيضا: بحديث رُكانة: أنَّه طَلّقَ امرأته ألْبتّة، فقال له النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: «آلله ما أرَدْتَ إلا واحدة؟» قال: آلله ما أردتُ إلا واحدة. فهذا دليلٌ على أنَّه لو أراد الثلاث؛ لوقَعْن، وإلا فلمْ يَكنْ لتَحْليفه معنى.

الرواية التي رواها المخالفون

     وأما الرواية التي رواها المخالفون: «أنَّ رُكانة طَلّق ثلاثاً، فجعلها واحدة»، فروايةٌ ضعيفة عن قوم مجهولين. وإنَّما الصحيحُ منها ما قدَّمناه: «أنَّه طلقها ألْبتّة». ولفظ «ألبتة» محتمل للواحدة، وللثلاث، ولعلَّ صاحب هذه الرواية الضعيفة؛ اعتقد أن لفظ «ألبتة» يقتضي الثلاث، فرواه بالمعنى الذي فهمه، وغلط في ذلك.

وأمّا حديث ابن عمر: فالرِّواياتُ الصّحيحة التي ذكرها مسلم وغيره: أنَّه طلّقها واحدة.

حديث ابن عباس -رضي الله عنه

     قال النووي: وأما حديث ابن عباس (أي حديث الباب) فاختلف العلماء في جوابه وتأويله، فالأصح: أن معناه أنّه كان في أول الأمر، إذا قال لها: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنت طالق، ولمْ ينو تأكيداً ولا استئنافاً؛ يُحْكم بوقوع طلقة، لقلّة إرادتهم الاسْتئناف بذلك، فحُمِل على الغَالب الذي هو إرادة التأكيد، فلمّا كان في زمن عمر - رضي الله عنه -، وكثُرَ استعمالُ الناس بهذه الصيغة، وغَلَب منهم إرادة الاسْتئناف بها، حُمِلت عند الإطلاقِ على الثلاث، عَملاً بالغالب السابق إلى الفهم منها، في ذلك العصر.

     وقيل: المرادُ أنّ المعتاد في الزمن الأول: كان طلقةً واحدةً، وصار الناسُ في زمن عمر يُوقعون الثلاث دفعة؛ فنفذه عُمر، فعلى هذا يكونُ إخْباراً عن اختلافِ عادة الناس، لا عن تَغيّر حُكْمٍ في مسألة واحدة.

     قال المازري: وقد زَعَم مَنْ لا خِبْرة له بالحقائق: أنّ ذلك كان ثم نُسِخ؟ قال: وهذا غلطٌ فاحش، لأنّ عُمر - رضي الله عنه - لا يَنْسَخ، ولو نُسِخ وحاشاه؛ لبادرت الصحابة إلى إنْكاره، وإنْ أرادَ هذا القائل أنّه نُسِخ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فذلك غير ممتنع، ولكنْ يخرج عن ظاهر الحديث، لأنّه لو كان كذلك، لم يَجُز للرّاوي أنْ يُخْبر ببقاءِ الحُكْم في خلافة أبي بكر، وبعض خلافة عمر.

     فإنْ قيل: فقد يُجْمع الصّحابة على النَّسخ فيُقْبل ذلك منهم. قلنا: إنّما يُقبل ذلك لأنَّه يَسْتدل بإجماعهم على ناسخ، وأمّا أنّهم ينْسخون مِنْ تَلقاء أنفسهم، فمعاذ الله، لأنَّه إجماعٌ على الخطأ، وهم مَعصومون من ذلك.

     فإنْ قيل: فلعلّ النَّسخ إنَّما ظَهَر لهم في زمن عمر. قلنا: هذا غلطٌ أيضاً، لأنّه يكون قد حَصلَ الإجْماع على الخَطأ في زمن أبي بكر، والمُحقّقون مِنَ الأصوليين لا يشترطون انقراض العصر في صحّة الإجماع، والله أعلم.

     وأمَّا الرواية التي في سنن أبي داود: أنّ ذلك فيمن لمْ يدخل بها، فهذه الرواية ضعيفة، رواها أيوب السختياني عن قومٍ مَجهولين عن طاووس عن ابن عباس فلا يحتج بها، والله أعلم.

القول الثاني وهو الأصَحّ

     والقول الثاني وهو الأصَحّ المُوافق لحديث الباب: تقَعُ ثلاثُ التَّطليقاتِ بلَفظٍ واحِدٍ؛ طَلقةً واحِدةً، وهو الذي عليه العمل في العهد النبوي، وعهد أبكر - رضي الله عنه -، ولقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1).

     وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الطَّلاقَ الثَّانيَ وما بَعدَه يَقَعُ لِغَيرِ العِدَّةِ، فيَكونُ مَردوداً؛ مُخالفا للآية. ولِقَولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ». متفق عليه، فاللهَ -تعالى- إنَّما شَرَع الطَّلاقَ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، ولمْ يَشرَعْه كُلَّه مرَّةً واحِدةً؛ فمن جمَعَ الثَّلاثَ في مَرَّةٍ واحدةٍ فقد تَعدَّى حُدُودَ اللهِ

وأنَّ إمْضاءَ الثَّلاثِ مِن اجتِهاداتِ عُمَرَ، وأنَّه - رضي الله عنه - إنَّما صَنَع ذلك سياسةً للناس، وقَصداً لردْعهم وزَجْرهم.

     والقول بأنّ الثلاثَ بلفظٍ واحدِ تقعُ واحدة، هو قَولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ، وهو قَولُ المَجْدِ مِن الحنابِلةِ، واخْتاره شيخا الإسْلام ابنُ تَيميَّةَ، وابنُ القَيِّم، والصَّنعانيُّ، والشَّوكانيُّ، وابنُ باز، وابنُ عثيمين -رحِم الله الجميع.

 

فوائد الحديث

- جعَلَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- في الطَّلاقَ مَرّةً بعد مرّةٍ فُسْحةً للزَّوجَينِ، إذا استَحالَتِ الحياةُ بينَهما، فمَنْ خالفَ في ذلك فقد عَصَى ربّه، وخالفَ شَرْعه.

- الطَّلاقُ في الإسْلامِ له ضَوابطُ يَجبُ التقيّد بها ومُراعاتها، ويَترتَّبُ عليه حُقوقٌ وواجبات، ويَحْرُم تعدّي حُدود الله -تعالى- فيه؛ ولهذا قال -تعالى- فيه: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1).

- مُخالفةُ شَرْع الله -تعالى- تَأتي بالضِّيق والعُسْر، فشَرعُ اللهِ -تعالى- مَبْنيٌ على اليُسْر والسُّهولة.

- لإمام المُسْلمين أنْ يَسنّ مِنَ الأوامر والزّواجر ما يكون سبباً في صَلاح الرّعية، ما دام ذلك في حُدُود الشَّرع الحكيم وقواعده.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك