رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 8 يونيو، 2023 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: كفّارةُ مَنْ

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟»، قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَال: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَال: لَا، قَال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟»، قَالَ: لَا، قَال: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟» قَال: لَا، قَال: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَال: «تَصَدَّقْ بِهَذَا»، قَال: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ؛ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَال: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»، وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: احْتَرَقْتُ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «لِمَ؟»، قَال: وَطِئْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ نَهَاراً، قَال: «تَصَدَّقْ تَصَدَّقْ»، قَال: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ، فَجَاءَهُ عَرَقَانِ فِيهِمَا طَعَامٌ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. الحديثان رواهما مسلم في الصيام (2/781) بَاب: تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ على الصَّائِمِ، ووُجُوبِ الكَفَّارَةِ الكُبْرَى فيه وبَيَانِها، وأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى المُوسِرِ والمُعْسِرِ، وتَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ المُعْسِرِ حَتَّى يَسْتَطِيعَ.

     يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم -، وهذا الصحابي: هو سلمة بن صَخْر البياضي، فقال: «هَلَكْتُ!» أي: فَعَلْتُ ما هو سَبَبٌ لِهَلاكي، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- أيضاً في الصحيحين: أنه قال: «احترقت» فأقرّه النبيّ -[- على قوله: «هلكت، واحترقت» ولو لمْ يكن الأمر كذلك، لهوَّن عليه النبي -صلى الله عليه وسلم - الأمْر، فدلّ هذا على أنّ الوطء في نهار رمضان مُحرّم ومن أعظم المُفطرات إثماً وجُرْماً، وأيضاً لوجُوب الكفارة فيه خاصّة.

للذَّنب حَرارة عند المُؤمن

      وللذَّنب حَرارة عند المُؤمن، ولهذا قال الرجل كما في بعض الروايات: «احْترقت» وهكذا حال المؤمن مع الذنوب، فيرى أنّها تُحْرقه أو تُهلكه، فسَألَه - صلى الله عليه وسلم -: قَال: «ومَا أَهْلَكَكَ؟» وفي رواية: «ما شَأنُك؟» فأخبره أنَّه جامع امرأتَه في نهارِ رَمَضانَ  فسَألَه - صلى الله عليه وسلم - عن استطاعتِه أنْ يُعتِقَ رَقبةً، ويُرادُ بها العبْدُ المملوكُ أو الأَمَةُ، وعتق الرقبة عند جمهور أهل العلم: لا بدّ أنْ تكون مؤمنة، وقال الحنفية: لا فرق بين مؤمنة أو كافرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الإيمان في الحديث، ولكن الصحيح هو ما عليه الجمهور، أنه لا بدّ مِنْ إيمان هذه الرقبة، ويكون هذا الحديث مقيداً بالنُّصوص التي فيها ذكر الإيمان، ككفارة قتل الخطأ.

العجز عن أنواع الكفارات الثلاث

       قوله: «فقالَ: لا أسْتَطيعُ» فسَألَه -صلى الله عليه وسلم - عن استطاعتِه أنْ يَصومَ شَهْرَينِ مُتَتابِعَين، أي: لا يَفصِل بيْنَ الشَّهرَيْنِ بأيَّامِ فِطْرٍ لغيرِ عُذرٍ، فقالَ: لا أسْتَطيعُ، فسَألَه -صلى الله عليه وسلم - عن استطاعَتِه أن يُطعِمَ سِتِّين مِسكينًا، قال: لا، فأوضَحَ الرَّجُلُ أنَّه فقيرٌ، ومن أفقر أهل المدينة، أي: هو عاجِزٌ عن أداءِ أيٍّ نوعٍ مِنْ أنواعِ الكَفَّاراتِ الثَّلاثةِ.

المسألة الأولى

      هل تسقط الكفّارة عن الإنسان المُعْسر الذي لا يجد الكفارة؟ لأنّه قال: «يا رسولَ الله، والله ما بين لابتيها أهل بيتٍ أفقر مني»، فعذَرَه النّبي - صلى الله عليه وسلم - وأسْقطها عنه، ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا قدرت كفّر، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وأحد قولي الإمام الشافعي، أمّا جمهور أهل العلم فيقولون: أنّها لا تَسْقط مع الإعْسَار، بل تبقى دَيناً في ذمّته، كما هو قول النووي هنا وتبويبه. قالوا: وأَمَّا الحَدِيثُ فَلَيْسَ فيه نَفْيُ اسْتِقْرَارِ الكَفَّارَةِ، بَلْ فيه دَلِيلٌ لِاسْتِقْرَارِها، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الكَفَّارَةِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الخِصَالِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقِ التَّمْرِ فَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِهِ، فَلَوْ كَانَتْ تَسْقُطُ بِالعَجْزِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيه شَيءٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِه، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي ذِمَّتِهِ.

المسألة الثانية

      ومن المَسائل المهمة: أن الإنسان إذا كان عالماً مختاراً غير مُكره، فإنّه يؤاخذ بعمله، وتجبُ عليه الكفارة إنْ كان هناك كفارة، أمّا إذا كان ناسياً أو مُكرهاً فإنه لا يؤاخذ، لأنّ الله -تعالى- يقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286)، ولذلك النّبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعذر هذا الرجل؛ لأنّ هذا الرجل قال: «أصَبتُ امرأتي في نهار رمضان»، وقال: «وقعتُ على امْرأتي وأنا صَائم» وقال: «هلكت» وقال: «احترقت»، فهذا كلُّه يدلُّ على أنّه كان عامداً وعالماً بالحُكم الشرعي، وإلا لما أخَذَ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر.

المؤاخذة في ارتكاب المَحْظُورات

فالمؤاخذة في ارتكاب المَحْظُورات، إنّما تتمّ بثلاثة أشياء:

1- العِلمُ وضِدّه الجهل.

2- الذِّكْر وضِدّه النسيان.

3- العَمْدُ وضدّه الخَطأ.

      أما الجاهل أو الناسي أو غير المختار، فإنّه لا يُؤاخذ، ولذلك لو فعل الإنسان شيئاً من المُفْطرات: أكل أو شرب أو جامع ناسياً، لمْ يؤاخذ ولا تجب عليه كفارة، حتى في الجماع، وهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده.

المسألة الثالثة

      ومن المسائل التي يستفاد منها في هذا الحديث: الرّفقُ بمن جاء تائباً ونادماً، ولا سيما إذا كان هذا الخطأ في حقّ الله -تبارك وتعالى-، بخلافِ ما إذا كان هذا الحقّ مُتعلقاً بالمَخلوقين، فهذا الرجل مع كونه أتى جُرْماً عظيماً وهو أعظم المفطرات، مع ذلك لم يُعنِّفه النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وشواهدُ هذا في تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم - كثيرة، وهو ممّا يدلّ على حُسن خُلُق النبي -صلى الله عليه وسلم -، وعظيم تربيته، وكرم وفادته، فهذا الرجلُ جاء خائفاً وجِلاً، فذهب من عند النبي -صلى الله عليه وسلم - فرحَاً مسروراً، ومعه المِكتل والزنبيل من التّمر الذي يُطعم به أهله، وكذلك كلُّ مَنْ ارتكب مَعْصية لا حَدّ فيها، ثمّ جاء نادماً تائباً راجعاً، يقول أهل العلم: إنه لا يُعزَّر ولا يُعنَّف.

المسألة الرابعة

      لمْ يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن امرأة الرّجل، ولهذا اختلف أهل العلم في هذه المسألة: هل على المَرأة كفارة؟ على قولين، والصّحيح: عدم وجُوب الكفارة على المَرأة، والحجة لمَن لمْ يُوجب هي: تركُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الاسْتفصال عن المرأة في هذا الحديث، وهل المرأة كانت موافقة أو مُكرهة؟ فدلّ على أنها لا كفارة عليها في كل الأحوال. والقاعدة في هذا: أنّ تَرْك الاسْتِفصال في مَقام الاحْتمال، يُنَزّل مَنْزلةَ العُموم في الأقوال.

قوله -صلى الله عليه وسلم - له: «اجْلِسْ»

      وإنّما أمَره بالجُلوسِ؛ لانتظارِ الوَحْيِ في حَقِّه، وقيل: أنّه عرَف أنَّه سيؤتى بشَيءٍ يعينُه به، ليُكفّر به عنْ نفسه، فانتظَرَ الرَّجُلُ حتى أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فيه تَمْرٌ، أو عَرقان، والعَرَقُ: المِكتَلُ أو الوِعاءُ الضَّخمُ يَسَعُ خَمْسةَ عَشَرَ صاعاً مِنَ الطّعام أو التّمر، وهِيَ سِتُّونَ مُدًاً لِسِتِّينَ مِسْكِيناً، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ.

      فقال - صلى الله عليه وسلم - له: «خُذْ هذا» أي: هذا العَرَقَ بِتَمْرِه «فتَصدَّقْ به» على الفُقَراءِ والمحتاجين، فقال الرَّجُلُ: «أعلى أفْقَر منَّا؟» أي: أتصَدَّقُ به على شَخصٍ أفقَرَ مِنَّا؟ كأنَّه قال: ليس هناك في المدينةِ من هو أفقَرُ مِن أهلِ بيتي، فأنا أَوْلى بهذه الصَّدَقةِ من غيري.

 قَوْلُهُ: «فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا»

      هُمَا الحَرَّتَانِ، والمَدِينَةُ بين حَرّتين، والحَرّة الأرض الملبسة حجارة سَوداء، يُقَالُ: لَابَةٌ ولُوبَةٌ، ونَوْبَةٌ بِالنُّونِ، حَكَاهُنَّ أَبُو عُبَيْدٍ والجَوْهَرِيُّ وغيرهما مِنْ أَهْلِ اللُّغَة.

      قوله: «فضَحِكَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى ظَهَرَت نَواجِذُه» والنّواجذ هي آخِرُ الأسْنانِ أو هي الأضراسُ؛ تَعجُّباً مِن حالِه؛ حيث إنّه جاءه خائفاً على نَفْسِه، راغبًا في فدائِها، فلمَّا وجد الرُّخصةَ؛ طَمِعَ أن يأكُلَ ما أُعطِيَه منَ الكَفَّارةِ!

وقيل: ضحك مِنْ حسْنِ بيانِ المتكَلِّمِ وتلَطُّفِه في الخِطابِ، وتوَسُّلِه في التوَصُّلِ إلى مَقصِدِه.

ثُمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: «أطعِمْه عِيالَك» فهم أولى من غيرهم لقربهم.

 

فوائد الحديث

1- رَمَضانُ شَهرٌ كَريمٌ، وصيامُه فَرْضٌ على العاقِلِ البالِغِ القادِرِ، وللفِطْرِ العَمْدِ فيه أحكامٌ، وفي هذا الحَديثِ بيانٌ للكَفَّارةِ لِمن جامَعَ أهْلَه في نهارِ رَمَضانَ.

2- وفيه: أنَّ كَفَّارةَ الجِماعِ في نَهارِ رَمَضانَ مُرَتَّبةٌ إعتاقًا، ثُمَّ صَوماً، ثُمَّ إطعاماً.

3- وفيه: إعانةُ المُعسرِ في الكَّفارةِ.

4- وفيه: ضحكِ النبي عندَ التَّعجُّبِ.

5- وفيه: استِعمالُ الكِنايةِ فيما يُستَقْبَح ظُهورُه بصَريحِ لَفظِه، وأنّ على المسلم أنْ يسأل عن دينه ولو كان سؤاله مما يستحيا منه، فلا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر. وفيه: الرِّفقُ بالمُتعلِّم، والتَّلطُّفُ في التَّعليمِ، والتَّأليفُ على الدِّين.

6- وفي الحديث: دلالة على أنّ المُسْتفتي يذهب إلى المفتي في مكانه، ويسعى حتى يصل إليه؛ لأنّ الأمر يتعلَّق بدينه، فالرجل ذهب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله.

7- وأنّ العالمَ بالشّرع عليه أنْ ينفع الناس، ويفتي في كلّ وقتٍ يستطيعه، فالرجل عندما وقعتْ عليه الواقعة، ذَهبَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - واسْتفتاه، وهذا ممّا يجعل الناس يتعلَّقون بالعالم، ويكون أقرب إلى قلوبهم.

8- وفيه: ما كان عليه الصحابة من النَّدم على المَعصيةِ، واستِشعار الخَوفِ.

9- وفيه: جواز المَسألة لمنْ كان مُحتاجاً.

10- دلّ الحديث على أنّ حُدود المدينة النبوية، هو ما بين الحرّتين، لقوله «ما بينَ لابتيها» يُريد الحَرّتين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك