رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 29 أغسطس، 2023 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: قَضَاءُ الصّيام  عَن المَيّت

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، وعن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وإِنَّهَا مَاتَتْ، قَالَ فَقَال: «وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْها صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْها؟ قَال: «صُومِي عَنْهَا». قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْها؟ قَال: «حُجِّي عَنْها».

     في الباب حديثان: أما الأول: فحديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، وقد رواه مسلم في الصيام (2/803) باب: قضاء الصّيام عن الميت، ورواه البخاري في الصوم (1952) باب: مَنْ مات وعليه صومٌ، وفي هذا الحَديثِ يُبيِّنُ النَّبيُّ  صلى الله عليه وسلم  أنَّ مَن مات وكان عليه صَومٌ، سواءٌ كان صوم نَذْرٍ، أم كفَّارةٍ، أو أيَّامٍ مِن رَمَضانَ، وقد تمكَّنَ من القضاءِ، ولم يَقْضِ حتى مات؛ فإنَّ لِوَليِّه وهو كلُّ قَريبٍ له، مِنْ عَصَبَتُه مِن الرِّجالِ مِن الآباءِ والأبْناءِ، أنْ يَصومَ عنه، ويَسقُطُ عن الميِّتِ ذلك الفرضُ الَّذي عليه، ويكونُ قَضاؤُه عنه بمَنزلةِ قَضائِه هو عن نفْسِه.

مَنْ ماتَ وعليه صَوم

قال العلماء: مَنْ ماتَ وعليه صَوم، فهو على إحدى حالين:
  • الحال الأولى
- الأولى: إنْ مات قبْلَ أنْ يَتَمكَّنَ مِن القَضاءِ لعُذرٍ، كمَن استمَرَّ به المرَضُ حتَّى ماتَ، فلا شَيءَ عليه، ولا يَقضي أولياؤُه عنه شَيئًا؛ وهذا لِعُمومِ قولِ اللهِ -تعالَى-: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185)، فجعَلَ اللهُ -تعالَى- الواجِبَ عليه عدَّةً مِن أيَّامٍ أُخَرَ، فإذا ماتَ المريضُ في مرَضِه؛ فإنه لا يَجِبُ أنْ يَصومَ عنه وليه ولا غيره، ولا يَجِبُ أنْ يُطعَمَ عنه؛ لأنَّ الإطعامَ بدَلٌ عن الصِّيامِ، فإذا لم يَجِبِ الصِّيامُ لم يَجِبْ بَدلُه.
  • الحال الثانية
- الثانية: مَن تَرَك الصِّيامَ تَفريطًا وإهمالًا، ولم يَكُنْ له عُذرٌ ثمَّ مات، ففي هذه الحالة اختلف أهل العلم على قولين: القول الأول: أنه يُصام عنه، وهو قول لأهل الحديث، مُستدلين على ذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- هذا، وأمر الولي بالصوم محمولٌ على النَّدْب، لقوله -تعالى-: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. والقول الثاني: أنه يُطعم عنه، عن كلّ يوم مدّ طعامٍ من غالبِ قوت البلد الذي هو فيه، فهذا لا يَلزَمُ أولياءَه القَضاءُ ولا يَصِحُّ منهم؛ لِفَواتِ وقْتِه.

أقوال العلماء

وهذه أقوال العلماء في هذا الشأن:
  • قول ابن قدامة -رحمه الله
- قال ابن قُدامة: وجملة ذلك أن مَنْ مَاتَ وعليه صِيامٌ من رمضان؛ لم يَخلُ من حالين: - أحدهما: أنْ يموتَ قبلَ إمْكان الصيام، إمّا لضِيقِ الوقت، أو لعُذْرٍ مِنْ مَرض، أو سفر، أو عَجز عن الصوم: فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم، وحُكي عن طاووس وقتادة أنّهما قالا: يجبُ الإطعام عنه، ثمّ ذكر عِلّة ذلك وأبطلها. ثم قال: الحال الثاني: أنْ يموتَ بعد إمكانِ القَضَاء، فالواجب أنْ يُطعَمَ عنه لكل يوم مسكين، وهذا قولُ أكْثرِ أهل العلم، رُوي ذلك عن عائشة وابن عباس، ثم قال: وقال أبو ثور: يُصَام عنه، وهو قول الشافعي، ثمّ استدلّ له بحديث عائشة الذي ذكرناه أولاً. (المغني) (/241).
  • قول النووي -رحمه الله
وقال النووي: «فرعٌ في مذاهب العلماء فيمن ماتَ وعليه صومٌ فاته بمَرَض، أو سفر، أو غيرهما مِنَ الأعذار، ولمْ يتمكّن منْ قضائه حتى مات: ذكرنا أن مذهبنا لا شيء عليه، ولا يصام عنه، ولا يطعم عنه، بلا خِلاف عندنا. وبه قال أبو حنيفة ومالك والجمهور، قال العبدري: وهو قول العلماء كافةً إلا طاووساً وقتادة، فقالا: يجبُ أنْ يُطعِمَ عنه لكل يوم مسكيناً، ثم ذكر علةَ ذلك وأبطلها، قال: واحتج البيهقي وغيرُه من أصحابنا لمذهبنا بحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما اسْتطعتم». رواه البخاري ومسلم. «شرح المهذب» (6/ 343). وقال في (الفروع): «وإنْ أخّر القضاء حتى مات: فإنْ كان لعُذر فلا شَيء عليه، نصّ عليه، وفاقاً للأئمّة الثلاثة؛ لعدم الدليل». (3/ 39)، وقال في (عون المعبود) (7/26): «واتفق أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض والسفر، ثمّ لم يُفرط في القضاء حتى مات، فإنّه لا شيء عليه، ولا يجب الإطعام عنه، غير قتادة فإنه قال: يطعم عنه. وحُكي ذلك أيضا عن طاووس». انتهى.
  • فتاوى اللجنة الدائمة
وجاء في «فتاوى اللجنة الدائمة» السؤال الآتي: كانت والدتي مريضة في شهر رمضان عام 97 هـ ولمْ تستطع صيام ثمانية أيام منه، وتوفيت بعد شهر رمضان بثلاثة أشهر، فهل أصُومُ عنها ثمانية الأيام، وهل يمكن تأجيلها إلى ما بعد رمضان 98هـ أو أتصدق عنها؟ فكان الجواب: «إذا كانت والدتك شفيت بعد شهر رمضان الذي أفطرت فيه ثمانية أيام، ومرّ بها قبل وفاتها وقتٌ تستطيع القضاء فيه، وماتت ولمْ تَقْض، استُحبّ لك أو لأحد أقاربها صيام ثمانية الأيام عنها؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ مَاتَ وعليه صِيام، صَامَ عنه وليّه». متفق عليه. ويجوز تأجيل صيامها، والأَوْلى المبادرة به مع القُدرة. أمّا إنْ كان المَرَضُ استمرّ معها، وماتت ولمْ تَقْدر على القَضَاء، فلا يُقضَى عنها لعدم تمكّنِها مِنَ القَضَاء، لعموم قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}». انتهى .(10/372).

فوائد الحديث

وفي الحديثِ فوائد منها: 1- الحِرصُ على الوفاءِ بحُقوقِ اللهِ -تعالَى. 2- وفيه: الحثُّ على صِلةِ الأرْحامِ، فإن كلمة «وليّه» تشمل كلّ قريب، ولو كان غيرَ وارثٍ.

الحديث الثاني

      أما الحديث الثاني فيَرْوي بُرَيدةُ بنُ الحُصَيبِ الأسلميُّ - رضي الله عنه -: أنَّه كان ذاتَ مرَّةٍ جالِساً عندَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فجاءتْه امرأةٌ، فأخْبَرَتْه أنَّها تَصدَّقتُ على أُمِّها في حَياتِها بِجَارِيَةٍ، وهي الأَمةُ المملوكةُ، فمَلَّكَتْها إيَّاها بالصَّدَقَةِ، ثمَّ ماتتْ أُمُّها وتَرَكَتْ تلك الجارِيَةَ مِن جُملةِ المالِ الَّذي تَملِكُه، وكانت الوارثةُ لها بِنتَها؛ فهلْ يَحِقُّ للبنتِ أنْ تَأخُذَ الجاريةَ وتَعُودَ إلى ملْكِها بالمِيراثِ أمْ لا؟ فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَجَبَ أجرُكِ»، أي: ثَبَت أجرُكِ عندَ الله بالصِّلَةِ والصَّدَقَةِ على أُمِّكِ، ورَدَّ الميراث الجاريةَ وأَرْجَعَها إليكِ بمِيراثُكِ مِن أُمِّكِ، وهو سَبَبٌ لا دَخْلَ لكِ فيه؛ فلا يكونُ سَبباً لِنُقصانِ الأجْرِ في الصَّدَقةِ، وهذا ليْس مِن بابِ الرُّجوعِ في الصَّدَقةِ والهِبةِ؛ لأنَّه ليْس أمْراً اختِيارِيّاً. ثم قالتِ المرأةُ السَّائلةُ: إنَّه كان على أُمِّها صِيامُ شَهرٍ -وفي رِوايةٍ: «شَهرينِ»- فهلْ تَصومُ عنها؟ -ولم يُبَيَّنْ أنَّه صَوْمُ رَمَضَانَ، أو نَذْرٍ، أو كَفَّارَةٍ- فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومِي عنها»، أي، اقْضِي عنها الأيَّامَ الَّتي ترَكَتْها أُمُّكِ؛ لأنَّه دَيْنٌ في رَقَبَتِها، ودَيْنُ اللهِ أحَقُّ أنْ يُقْضَى.

الصَّوم الَّذي على الميِّتِ كالدَّينِ

       وقدْ شبَّهَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّومَ الَّذي على الميِّتِ بالدَّينِ، وهو واجبُ القَضاءِ؛ لأنَّه حقٌّ للآدميِّينَ، والصِّيامُ الواجبُ -سواءٌ كان من رَمضانَ، أو بنَذرٍ، أو كفَّارةٍ- حَقٌّ للهِ -تعالَى-، فكان قَضاءُ حقِّه -تعالَى- أَوثَقَ وأَوْلى مِن قَضاءِ حَقِّ الآدميِّينَ، واللهُ أحقُّ بالوفاءِ، كما ورَد في بَعضِ الرِّواياتِ عندَ البُخاريِّ. وكما في حديث عائشةَ -رضي الله عنها- السابق. وللوليِّ إذا لم يَقضِ عنه الصَّومَ أنْ يُطعِمَ عنه لكُلِّ يَومٍ مِسكينًا، ويَسقُطُ بهذا عن الميِّتِ ذلِكَ الفَرضُ الَّذي عليه، ويكونُ قَضاؤُهُ عنه بمَنزلةِ قَضائِهِ هو عن نفْسِهِ، وهذا لمَن قدَرَ على الوفاءِ أو القضاءِ ولم يَفعَلْ، وأمَّا إنْ ماتَ قبْلَ أنْ يتَمكَّنَ مِن القَضاءِ -كمَنِ استمَرَّ به المَرضُ حتَّى ماتَ- فلا شَيءَ عليه، ولا يَقضي أولياؤُه عنه شيئًا، ولا يَجِبُ الإطعامُ عنه، ثمَّ أخبَرَتْه المرأةُ أنَّ أُمَّها ماتتْ ولَمْ تَحُجَّ قَطُّ، وظاهرُه أنَّها كانت قادرةً على الحجِّ، فوجَبَ عليها؛ لأنَّ الحجَّ ساقطٌ عمَّن ليس عنده استطاعةٌ، ولكنَّها لم تَحُجَّ؛ فهلْ يَصِحُّ أنْ تَحُجَّ عَنْها؟ فقالَ لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «حُجِّي عَنْهَا». ولعلَّ إذن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها بالحَجِّ نِيابةً عن أمِّها، مَفْهومٌ منه أنَّ المرأةَ قدْ حجَّتْ عن نَفْسِها أوَّلًا، ثُمَّ أرادَت أنْ تَحُجَّ عن أُمِّها؛ لحَديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجُلًا يقولُ: لبَّيْكَ عن شُبْرُمةَ. قال: مَنْ شُبْرُمةُ؟ قال: أخٌ لي، أو قَريبٌ لي. قال: حجَجْتَ عن نفسِك؟ قال: لا. قال: حُجَّ عن نَفسِكَ، ثمَّ حُجَّ عن شُبْرُمةَ». رواه أبو داودَ. وفي صَحيحِ ابنِ خُزَيمةَ: «هذه عنْكَ، ثُمَّ حُجَّ عن شُبْرُمةَ». فإذا وجَب الحجُّ على شَخصٍ ومات قبْلَ أدائِه، ثمَّ أدَّى شَخصٌ آخَرُ هذا الحجَّ عنه؛ سقَطَ عنه، وهذا مِن كَرمِ اللهِ وفضْلِه أنَّه إذا حجَّ الوليُّ عن الميِّتِ، أنْ يَعفُوَ اللهُ عن الميِّتِ بذلك، ويُثيبَه عليه، أو لا يُطالبَه بتَفريطِه.  

فوائد الحديث

1-أنَّ مَن تَصدَّق بشَيءٍ ثُمَّ وَرِثَه، فله أَخْذُه والتَّصرُّفُ فيه، مِن غيرِ أنْ يَنقُصَ أجْرُه بذلك. 2- وفيه: مشروعية الصِّيامُ عَنِ الميِّتِ. 3- وفيه: النِّيابةُ في الحجِّ عن الميِّتِ. 4- وفيه: بِرُّ الوالدَينِ بقَضاءِ نَذْرِهما ودَينِهما. 5- وأن الصَّحابةُ -رِضوانُ اللهِ عليهم- كانوا يَسْتَفتونَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في كثيرٍ مِن عِباداتِهم ومُعاملاتِهم، فيُفْتيهِم، ويُظهِرُ لهم أوجُهَ الصَّوابِ.  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك