رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: forqan 6 سبتمبر، 2023 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: في قوله -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} (البقرة:184)

عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184). كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ ويَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا؛ فَنَسَخَتْهَا. الحديث (رواه مسلم في الصيام 2/802) باب: بيان نسخ قوله -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}، بقوله: {فمَن شهدَ منكم الشهرَ فليصمه}. ورواه البخاري في التفسير (4507) باب: {فمن شَهدَ منكم الشهر فليصمه}.

        يَقولُ سَلمةُ بنُ الأكْوَعِ - رضي الله عنه -: لمَّا نَزلَت آيةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184)، ومعناها: أنّ مَن يُطيقونَ الصَّومَ، أي: الذين يَسْتطيعون الصّوم، ولَيسَ لَهُم عُذرٌ، وهُمُ الأصحَّاءُ، ومَن لَيسَ بِهِم مَرَضٌ أو عِلَّةٌ، وأرادوا الفِطر؛ فَفديَةُ ذَلكَ: إطعامُ مِسكينٍ عَن كُلِّ يَومٍ، فَكانَ مَن أرادَ أنْ يُفطِرَ؛ يَفتَدي بأنْ يُطعِمَ مِسكينًا عن كُلِّ يومٍ، وكانَ هذا الأمرُ في بَدءِ الإسلامِ؛ حيثُ جعلَ اللهُ -تعالى- الصّيام على التّخيير، مَنْ شَاءَ صَام، ومَنْ شَاء أفْطَرَ وفَدَى، وهو تيسيرٌ مِنَ الله -تعالى- على عِبَاده، وتَدَرّج في فَرْض الصّوم، حتَّى نَزلَتِ الآيَةُ الَّتي بعْدَها، وهيَ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185)، فنَسخَتِ- في قول جمهور أهل العلم- تَخييرَ القادرِ على الصّيام في الصِّيامِ أو عَدَمِه، وصارَ الصِّيامُ فرْضاً على الكلِّ، إلَّا مَنْ لم يَستطِعْ، ويدل على هذا المعنى ما رواه سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - هنا. الصحيحُ المُقِيم الذي يُطيق الصّيام قال الحافظ ابن كثير:... وأمّا الصحيحُ المُقِيم الذي يُطيق الصّيام، فقد كان مُخيراً بين الصّيام وبين الإطعام، إنْ شاء صام، وإنْ شَاء أفْطر، وأطعمَ عن كلّ يوم مسكيناً، فإنْ أطْعمَ أكثرَ مِنْ مسكين عن كلِّ يومٍ، فهو خير، وإنْ صَامَ فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وطاووس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم من السلف؛ ولهذا قال -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 184).انتهى. وقال السّعدي في تفسير هذه الآية: هذا في أولِ الأمر وفي ابتداء فَرْض الصيام، لمّا كانوا غير مُعتادين للصّيام، وكان ابتداءُ فَرْضه حَتماً فيه مَشقّة عليهم، درَّجَهم الربُّ الحَكيم بأسْهل ما يكون، وخُيّر المُطِيق للصّوم بين أنْ يَصُوم وهو الأفضل والأكمل، أو يُطْعم ويُجْزئه، ثمّ لمّا تَمَرّنوا على الصّيام، وكان ضَرورياً على المُطيقين فَرْضه عليهم حتماً. وقيل إنْ قوله: وعلى الذين يُطِيقونه.. أي: يَتكلّفون الصّيام، ويَشقّ عليهم مشقةً لا تُحْتَمل، كالكبير والمريض والمَيئوس مِنْ بُرْئه، فديةٌ طَعامُ مِسْكين عن كلّ يومٍ يفطره. انتهى. حال الصَّحابة -رَضي اللهُ عنهُم- في أوَّلِ أمرِ الصِّيامِ وفي هذا الحَديثِ: بَيانُ أنَّ الصَّحابةَ -رَضي اللهُ عنهُم- في أوَّلِ أمرِ الصِّيامِ لَم يَكونوا قدْ تَدرَّبوا على الصِّيامِ، فَلمَّا أُمِروا به رَحمةً مِنَ اللهِ -سُبحانَه- بِهم، كانَ الخيارُ لهم: إمَّا أنْ يَصوموا، وإمَّا أنْ يُفطِروا ويُطعِموا مَكانَ كُلِّ يَومٍ مِسكينًا.   أَحْوَالُ الصِّيَامِ وروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ؛... قال: وأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المَدِينَةَ، فَجَعَلَ يصومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وصَامَ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْه الصِّيَامَ، وأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (البقرة: 183). إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا، فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فَأَثْبَتَ اللهُ صيامَه عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، ورخَّصَ فِيهِ لِلمَرِيضِ والمُسَافِرِ، وثَبَتَ الإطعامُ لِلكَبِيرِ الذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ، فَهَذَانَ حَالَانِ. كَانُوا يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ قَال: وكَانُوا يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ ويَأْتُونَ النِّسَاءَ ما لَمْ يَنَامُوا، فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: صِرْمَةُ، كَانَ يَعْمَلُ صَائِماً حَتَّى أَمْسَى، فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ صَائِماً، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وقَدْ جَهِدَ جَهْداً شَدِيداً، فَقَالَ: ما لِي أَرَاكَ قَدْ جَهِدْت جَهْداً شَدِيدا؟ قَال: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ، فجئتُ حِينَ جئتُ فألقيتُ نَفْسِي، فَنِمْتُ فَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صَائِماً. قَال: وكانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ ما نَامَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، إِلَى قولِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}. وأَخرجَه أَبو دَاوُدَ، والحاكمُ. صيام عاشوراء وأَخْرَجَ البُخاريُّ ومسلمٌ: مِنْ حَدِيثِ عائِشَةَ أَنَّها قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ، فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ رَمَضَانَ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ، وممّن اختار أنّ الآية مَنْسوخة: الإمام الطّبري، وأبو حيان، وابن كثير وغيرهم، وذهبَ جَمعٌ مِنَ العُلماء إلى أنّ الآية مُحْكمةٌ وغيرُ مَنْسُوخة. قال الطّبري: «وقالَ آخرون- ممن قرأ ذلك {وَعلى الذين يُطيقونه}- لم يُنسخْ ذلك ولا شيء منه، وهو حُكم مُثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام السّاعة، وقالوا: إنّما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه - في حالِ شَبابهم وَحَداثتهم، وفي حال صحّتهم وقوتهم- إذا مَرضُوا وكبروا، فَعَجَزوا مِنَ الكِبَر عن الصّوم، فديةٌ طَعام مِسكين، لا أنَّ القومَ كان رُخِّص لهُم في الإفْطار، وهُم على الصّوم قَادرُون إذا افْتدوا. وروى السدي: {وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين} قال: أما الذين يطيقونه، فالرجلُ كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له. وروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إذا خَافت الحاملُ على نفسِها، والمُرضع على ولدها في رمضان، قال: يُفْطران ويُطْعمان مكانَ كل يومٍ مسكينًا، ولا يقضيان صومًا. انتهى؛ وقالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: {وعلى الذين يُطَوَّقُونه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، هُوَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا، فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. والذي يَظْهر والله أعلم: أنّ الآيةَ مُحْكمة وليستْ مَنْسُوخة، وأنّ معنى {يُطِيقُونه}: لا يُطيقونه؛ بتقدير «لا» النّافية، وعليه فتَكونُ الآية مُحْكمة، ويكونُ وُجُوب الإطعام على العَاجز عن الصّوم، كالهَرِم والزّمِن. قَواعدِ تَعْضدُ هذا التَّرْجيح ومِنَ القَواعدِ التي تَعْضدُ هذا التَّرْجيح، قاعدة: «القولُ الذي يَدلُّ عليه السّياق، أوْلى مِنَ غيره»، وسياق الآية في أوّله؛ يُخاطبُ المُكلّفينَ بالصّيام، فالله -تعالى- يقول في الآية قبلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، أي: فُرِضَ، وجاءت الآية بعد ذلك في أحْكام المَريض والمُسَافر، وأنّه إذا تَعذّر عليهما الصّوم، فلهُما القَضاء في أيامٍ أخَر، فمن المُفترضِ أنْ تكونَ الآيةُ بعدها فيمنْ لا يَقْدرُون على الصّيام، كالهَرِم، أو المُرْضع، أو الحامل. فمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا المَعنَى: الحَامِلُ والمُرْضِعُ، إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِما أَوْ وَلَدَيْهِما، ففِيهِما خِلَافٌ كثِيرٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ، فَمِنهُم مَنْ قالَ: يُفْطِرَانِ ويَفْدِيانِ ويَقْضِيانِ. وقِيلَ: يَفْدِيَانِ فَقَطْ، ولَا قَضَاءَ. وقِيلَ: يَجِبُ عليهما القَضَاءُ بِلَا فِدْيَةٍ، وهو الصّحيح.

فوائد الحديث

1- ثُبوتُ النّسخ في القُرآن، وقد أجْمَعت الأُمّة على ذلك، ودلّ عليه قوله -تعالى-: {ما نَنْسخْ مِنْ آيةٍ أوْ نُنْسِها نَأتِ بِخَيرٍ مِنْها أو مِثْلها} (البقرة: 106). 2- بيانُ نَسْخ التّخيير بينَ الصّوم والفِدْية لمَن أطاقَ الصّوم. 3- التّدرّج في تَشْريع الصّوم، تسهيلًا على المُكلّفين، فكانَ أول ما شُرع: مَنْ أراد أنْ يَصومَ صَام، ومَنْ أرادَ أنْ يُطْعم أطْعمَ وأفْطَر، حتّى إذا ألِفُوه، وسَهُلَ عليهم، نَزَلَ قوله -تعالى-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكم الشَّهْرَ فَليَصُمه}، فأوجبَ اللهُ عليهم صِيامه، ونَسَخ الفِدْية. 4-الدّلالة على أنّ تَرتيبَ الآياتِ في القرآنِ توقيفي.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك