رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 6 نوفمبر، 2023 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: صوم يوم عرفة

  • صيام داود عليه السلام مِن أحَبِّ الصِّيامِ إلى اللهِ عزَّوجلَّ كما جاء في الصَّحيحَينِ وذلك أنَّه ليس صَوماً مُستمِرّاً ولا إفطاراً مُستمِرّاً
  • كانَ النَّاسُ يَسألونَ عن هَديِ النبي صلى الله عليه وسلم  فِيما أَشْكلَ عَليهِم أو ما أَحبُّوا أنْ يَعلَموه حتَّى يَقتَدوا به ويَفوزوا بالفلاحِ
  • كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  يُحِبُّ للمسلمِ أنْ يَفعَلَ مِن الأعمالِ ما يُطِيقُها ويُداوِمُ عليها
 

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: رَجُلٌ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ - رضي الله عنه - غَضَبَهُ، قَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ، حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقَال عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: «لَا صَامَ ولَا أَفْطَرَ» أَوْ قَالَ: «لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ»، قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْماً؟ قَال: «ويُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟»، قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً؟ قَالَ: «ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام»، قَال: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ورَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، والسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ، أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ». الحديث رواه مسلم (2/818-819) باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس.

        يَرْوي الصحابي أبو قَتادةَ الأنصاريُّ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن عادته في صَومِه، وفي رِوايةِ أحمَدَ: ذُكِر أنَّ السَّائلَ كان أعرابيًّا، وهم مَنْ يَسكُنُ الصَّحراءَ، فغَضِب - صلى الله عليه وسلم -، وظَهَر أثرُ الغضبِ على وجْهِه مِن قوْلِ الرَّجلِ وسُؤالِه، ولعلَّ سَببَ غضَبِه: أنَّه كَرِهَ مَسألتَه؛ لأنَّه يَحتاجُ إلى أنْ يُجيبَه، ويَخْشى مِن جَوابِه مَفسَدةً، وهي أنَّه ربَّما اعتقَد السَّائلُ وُجوبَ عمله - صلى الله عليه وسلم -، أو أنْ يستقَلَّه ويراه قليلا، أو يقتصَرَ عليه وحالُه يَقْتضي أكثرَ منه.

اقتصار النبي على صيامه

        وإنَّما اقتَصَر على صيامه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، لشُغلِه بمَصَالحِ المُسلِمين، والقيام بحُقوقِهم، وحُقوقِ أزواجِه، وحقوق أضيافِه والوافدينَ إليه، فلا يَقتديَ به كلُّ أحدٍ في ذلك، وكان حقُّ السَّائلِ أنْ يقولَ: كمْ أصُومُ؟ أو: كيْف أصومُ؟ فيخُصَّ السُّؤالَ بنفْسِه، ليُجِيبَه بما تَقْتضيهِ حالُه، كما أجاب غيرَه بمُقْتضى أحوالِهم. وأيضاً: لم يكُنْ صَومُه - صلى الله عليه وسلم - على مِنوالٍ واحدٍ، بلْ كان يَختلِفُ باختلافِ الأحْوالِ، فتارةً يُكثِرُ الصَّومَ، وتارةً يُقلِّلُه، ومِثلُ هذا الحالِ يَتعذَّرُ جَوابُ السُّؤالِ فيه.

رضِينا باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دِينًا وبمُحمَّدٍ رسولًا

     فلمَّا رأى عُمرُ - رضي الله عنه - غضَبَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال -أدباً وإكْراماً له  صلى الله عليه وسلم ، وشَفقةً على السَّائلِ، واعتذاراً عنه، واسْترضاءً لرسول الله  صلى الله عليه وسلم -: «رَضِينا باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبمُحمَّدٍ رسولًا». أي: رَضِينا بتَدبيرِ الله وقَضائِه لنا، واتَّخذَناه دُونَ ما سِواهُ إلَهَنا ومَعبودَنا، ورَضِينا بالإسلامِ دِينًا، فاختَرْناه مِن بيْنِ سائِرِ الأديانِ، فدخَلنا فيه راضِين مُسْتَسلِمين، ولم نَبتغِ غيرَ الإسلامِ دِينًا، ورَضِينا بِمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَسولًا، وبجَميعِ ما جاء به مِن عندِ اللهِ -تعالى-، وقَبِلنا ذلك بالتَّسليمِ والانْشراحِ، فصدَّقناه فيما أخْبَر، وأطعناه فيما أمَرَ، واجتنَبْنا ما عنه نهَى وزجَرَ، وأحبَبْناه واتَّبعْناه ونَصَرْناه. ثم قال عُمر: «نعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ، حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ» أعوذ بالله، أي: ألجأُ وأستجيرُ بالله، بما يرضَى به عنِّي، ممَّا يَسخَط ويغضَب به عليَّ، وكذا اسْتجار بالله مِنْ غَضب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، عندما شَعروا أنّهم أغْضبوه؛ لأنّهم يعلمون أنّ غَضبه مظنة الهلاك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يغضب إلا إذا انْتُهكت حُرمات الله -تعالى.

صِيام الدَّهرِ

        فلمَّا هَدَأ غَضبُه - صلى الله عليه وسلم - سَأله عُمرُ -كما في رِوايةٍ أُخرى لمُسلمٍ- بعبارة أكثَرَ إحكاماً وتَعقُّلًا، وأقرَبَ إلى الحقِّ، فجَعَله سُؤالًا عامًّا يَنتفِعُ به جَميعُ النَّاسِ، فسَأله عن صِيامِ الدَّهرِ، وهو صِيامُ كلِّ أيَّامِ السَّنةِ مُتَّصِلةً، وكيْف حالُ صائمِه، وهلْ هو مَحمودٌ أو مَذمومٌ؟ فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا صامَ ولا أفطَر؟»، أو قال: «ما صَامَ وما أفطَر». والمعنى: لم يُكابِدْ سَوْرةَ الجُوعِ وحَرَّ الظَّمأِ، لاعْتيادِه الصَّومَ حتَّى خَفَّ عليه، ولم يَفتقِرْ إلى الصَّبرِ على الجُهدِ الَّذي يَتعلَّقُ به الثَّوابُ، فصار كأنَّه لم يَصُمْ، وحيث إنَّه لم يَنَلْ راحةَ المُفطِرين ولذَّتَهم فكأنَّه لم يُفطِرْ. وقيل: مَعناه الدُّعاءُ عليه، زجْراً له، ويجوزُ أنْ يكونَ إخبارًا، يعني أنَّ هذا الشَّخصَ كأنَّه لم يُفطِرْ، لأنَّه لم يَأكُلْ شيئًا، ولم يَصُمْ، لأنَّه لم يكُنْ بأمرِ الشَّارعِ.

صيام المسلم يَومينِ ويُفطِرُ يوماً

       ثمّ سَأله عن أنْ يَصومَ المسلم يَومينِ ويُفطِرُ يوماً، فيكون صَومِه ضِعفَ فِطرُه، ويَجعَلَ العبادةَ غالِبةً على العادةِ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ومَن يُطِيق ذلك؟!»، أي: ومَن يَستطيعُ فِعلَ ذلك؟ فيَقْوى ويُتابِعُ الصِّيامَ، ويَقومُ بما عليه مِن واجباتٍ أُخرى في يومِه؟! وكأنَّه كَرِهه، لأنَّه ممَّا يُعجَزُ عنه في الغالِبِ، فلا يَرغَبُ فيه، وديننا دِينٌ سَهلٌ سمْحٌ. وقيل: فيه إشارةٌ إلى أنَّ العلَّةَ في النَّهيِ: إنَّما هو الضَّعفُ، فيكونُ المعنى: إنَّه إنْ أطاقَه أحدٌ فلا بأْسَ.

صيام الإنسانُ يومًا ويُفطِرُ يَومينِ

        ثمّ سَأله عن أنْ يَصومَ الإنسانُ يومًا ويُفطِرُ يَومينِ، فيكون صَومُه ضِعفَ فِطرِه، مُستمِرًّا على ذلك حَياتَه، فأجابه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ليْتَ أنَّ اللهَ قوَّانا لفِعلِ ذلك، فكأنَّه استَحسَنَ هذا النَّوعَ مِن الصِّيامِ وتَمنَّاه، قيل: إنَّ هذا التَّمنِّيَ لغَيرِه مِن أمَّتِه، فقدْ كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُطيقُه ويُطيقُ أكثَرَ منه، فقدْ ثبَت عنه - صلى الله عليه وسلم - الوِصالُ في الصَّومِ، وقيل: مَعناه أنَّ الرَّسولَ - صلى الله عليه وسلم - لانشِغالِه بأهلِه وضُيوفِه، وبأعمالِه وبالنَّاسِ، يَجعَلُه لا يَصومُ هذا المِقدارَ باستمرارٍ، وليْس لضَعْفِ جِبلَّتِه عن احتمالِ الصِّيامِ، أو قِلَّةِ صَبرهِ عن الطَّعامِ في هذه المُدَّةِ.

صيام الإنسان يوماً ويُفطِرُ يوماً

       ثم سَأله عن أنْ يَصومَ الإنسانُ يوماً ويُفطِرُ يوماً، وتكون هذه عادتَه، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَام»، وفي لفظ: «ذاك صَومُ أخي داودَ -عليه السَّلامُ»، وهذا كِنايةٌ عن تَرغيبِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيه، فهو صِيامٌ في غايةٍ مِن الاعتدالِ، ومُراعاةٍ لِجانبَي العبادةِ والعادةِ بأحسَنِ الأحوالِ، وهو مِن أحَبِّ الصِّيامِ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ-، كما جاء في الصَّحيحَينِ، وذلك أنَّه ليس صَوماً مُستمِرّاً، ولا إفطاراً مُستمِرّاً.

صِيام ثَلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ

        ثمَّ أخبَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ صِيامَ ثَلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، وسواء كان صِيامِ الأيَّامِ البِيضِ، وهي: الثَّالثَ عشَرَ، والرَّابعَ عشَرَ، والخامسَ عشَرَ، أو على الإطلاقَ، فيَصومُ الثَّلاثةَ في أوَّلِه، أو أوسَطِه، أو آخِرِه، على التَّوالي أو مُتفرِّقة، وصيامَ رمَضانَ مِن كلِّ سَنةٍ، أنَّ هذا يَعدِلُ صِيامَ الدَّهرِ كلِّه، أي: أنَّ اللهَ تَفضَّلَ بكَرمِه بأنْ ضاعَفَ أجْرَ كلِّ عمَلٍ مِن أعمالِ الخيْرِ والطَّاعةِ، مِن الأقوَالِ والأفعالِ إلى عَشْرةِ أمثالِه، فالحسَنةُ تُضاعَفُ إلى عشْرِ حسَناتٍ مِثلِها، فكذلك صِيامُ اليوْمِ يُكتَبُ بصِيامِ عَشَرَةِ أيَّامٍ، فإذا صام ثَلاثةَ أيَّامٍ فكأنَّه صامَ ثَلاثينَ يوماً، وهي شَهْرٌ كامِلٌ، فيكونُ بصِيامِه ثَلاثةَ أيَّامٍ كلَّ شهْرٍ، كأنَّه صامَ السَّنةَ كلَّها، مع صِيامُ الفريضةِ في شَهرِ رَمضانَ.

صَوم يومِ عرَفةَ

       ثم سَأله عن صَومِ يومِ عرَفةَ، فأجابه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مَن صامَه يَغفِرُ اللهُ له ذُنوبَ سَنتينِ: السَّنةِ الماضيةِ والسَّنةِ الآتيةِ، وهذا الصَّومُ يكونُ لغَيرِ الحاجِّ، فإنَّ الحاجَّ يُكرَهُ له صِيامُ يَومِ عَرَفةَ؛ وذلِكَ لأنَّ الصَّومَ في هذا اليَومِ يُضعِفُ الحاجَّ عنِ الوُقوفِ والدُّعاءِ، وأمَّا غَيرُ الحاجِّ فإنَّه مُخاطَبٌ بهذا الحَديثِ في الفَضلِ والنَّوالِ مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ-، والمُرادُ بيَومِ عَرَفةَ: هو يومُ التَّاسِعِ مِن ذي الِحجَّةِ، سُمِّي بذلِكَ؛ لأنَّ فيه رُكناً مِن أرْكانِ الحجِّ، وهو الوُقوفُ بعَرَفةَ بمكَّةَ.

صَوم يومِ عاشوراءَ

         ثم سَأله عن صَومِ يومِ عاشوراءَ، وهو يومُ العاشرِ مِن شَهرِ المُحرَّمِ، وهو اليومُ الَّذي أنْجى اللهُ فيه مُوسى -عليه السَّلامُ- وقَومَه مِن فِرعَونَ، فَصامَه مُوسى شُكراً للهِ على نِعمَتِه في إهْلاكِ الظَّالِمينَ، فأخبَرَ -[- أنَّ صِيامَه يَغفِرُ اللهُ به ذُنوبَ السَّنةِ الماضيةِ، وهذا التَّكفيرُ يَشمَلُ صَغائرَ الذُّنوبِ دونَ كَبائرِها، وأمَّا الكَبائرُ فلَا يُكَفِّرُها إلَّا التَّوبةُ، أو رَحمةُ اللهِ، أو يُرْجَى تَخفِيفُ الكَبائرِ، وقيل: تَكْفيرُ السَّنةِ الآتِيةِ أنْ يَحفَظَه مِن الذُّنوبِ فيها، وقيلَ: أنْ يُعطِيَه مِن الرَّحمةِ والثَّوابِ قَدْرًا يكونُ كفَّارةً للسَّنةِ الماضِيةِ، والآتيةِ إذا جاءتْ ووقَعَ في ذُنوبٍ.

فقه عُمرَ - رضي الله عنه 

         وهذه الأسئلةُ مِن عُمرَ - رضي الله عنه - تدُلُّ على فِقهِه، فقدْ هَدَّأ مِن غضَبِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أوَّلًا، ثمَّ سَأَله عن أنواعٍ مِن الصِّيامِ تَشمَلُ كلَّ ما يُمكِنُ أن يَصومَه المسلِمُ وعرَفَ أحكامَها، مع بيانِ ما يَصِحُّ منها وما لا يَصِحُّ، وبيانِ فَضلِ بعضِها، فعلَّمَنا كلَّ ذلك، فمَن شاء صامَ ما يَصِحُّ، ويَختارُ ما هو أوفَقُ لنَفسِه وقُدرتِه.

صوم الدهر

       الصيام كل يوم - عدا الأيام المنهي عن صيامها كالعيدين- يُسَمَّى في الاصطلاح الشرعي «صوم الدهر»، أو «صوم الأبد»، وقد اختلف أهل العلم في حكمه على أقوال، حتى اختلف أصحاب المذهب الواحد في هذه المسألة، وأصح ما جاء هو المنع من ذلك، فينهى عن صوم الدهر مطلقاً، إمّا على وجه الكراهة، كما هو مذهب الحنفية، واختيار ابن قدامة، وابن تيمية من الحنابلة خلافاً للمذهب، وهو اختيار اللجنة الدائمة للإفتاء (23/221)، أو على وجه التحريم، كما ذهب إليه ابن حزم، وجاء في «الدر المختار» (2/84) من كتب الحنفية، وهو الأصحّ. يقول ابن قدامة -رحمه الله-: «الذي يقوى عندي أنّ صوم الدهر مكروه، وإنْ لم يصم هذه الأيام - يعني العيد والتشريق- فإنْ صامها قد فعلَ مُحرّماً، وإنّما كره صوم الدهر؛ لما فيه من المشقة والضعف، وشبه التبتل المنهي عنه». «المغني» (3/53).، وقال ابن حزم -رحمه الله-: «لا يحلّ صوم الدهر أصلاً». «المحلى» (4/41). ويستدل لهذا القول بما يلي: 1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ». رواه البخاري (1977) ومسلم (1159). 2- ما جاء عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جَاءَ ثَلاثُ رَهطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسأَلُونَ عَن عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أُخبِرُوا كَأَنَّهُم تَقَالُّوهَا، فَقَالًوا: وأَينَ نَحنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَد غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُم: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي الَّليلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهرَ وَلَا أُفطِر، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَنتُمُ الَّذِينَ قلُتُم كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخشَاكُم للَّهِ وَأَتقَاكُم لَه، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي». رواه البخاري (5063) ومسلم (1401). فدلّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: لكني أصوم وأفطر... فمن رغب عن سنتي، فليس مني». على أنّ صيام الدهر مُخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه. 3- ما جاء عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا عبداللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا...إلى آخر الحديث. وفي رواية: فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ». رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159). ولا يصح الاستدلال بالنصوص العامة في فضل الصيام، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا». رواه البخاري (2840)، ومسلم (1153).فقد جاءت الأدلة السابقة بتخصيص صيام الدهر من عموم الاستحباب.  

فوائد الحديث

  • فضْلُ صَومِ يومِ الاثنينِ.
  • وفيه: فضْلُ صَومِ يومِ عاشوراءَ.
  • وفيه: فضْلُ صَومِ يومِ عرَفةَ.
  • وفيه: فضْلُ صَومِ شَهرِ رَمَضانَ.
  • وفيه: لُطفُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- بعبادِه، والتَّيسيرُ عليهم، ورفْعُ المشقَّةِ والحرَجِ عنهم.
  • وفيه: النَّهيُ عن صَومِ الدَّهرِ.
  • وفيه: الزَّجرُ عن التَّشديدِ على النَّفسِ في العباداتِ بما لا تُطيقُ.
  • كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ للمسلمِ أنْ يَفعَلَ مِن الأعمالِ ما يُطِيقُها ويُداوِمُ عليها، وكانَ النَّاسُ يَسألونَ عن هَديِه - صلى الله عليه وسلم - فِيما أَشْكلَ عَليهِم، أو ما أَحبُّوا أنْ يَعلَموه، حتَّى يَقتَدوا به ويَفوزوا بالفلاحِ.
 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك