رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 16 مايو، 2023 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: {حَتَّى يَتَب

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - صلى الله عليه وسلم - قَال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (البقرة: 187). قَال: فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، وَالْخَيْطَ الْأَبْيَضَ، فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رِئْيُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنْ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ: اللَّيْلَ والنَّهَارَ. الحديث رواه مسلم في الصيام (2/766-767) باب: بيان أنّ الدخول في الصّوم يحصل بطُلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلّق به الأحْكام منَ الدخول في الصَّوم، ودخول وقت صلاة الصُّبح، وغير ذلك، ورواه البخاري في الصوم (1917) باب: قول الله -تعالى- {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ثمّ أتموا الصيام إلى الليل} (البقرة: 187).

     قوله: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} البقرة: 187». يُبيِّنُ الصَّحابيُّ الجَليلُ سَهْلُ بنُ سَعْدٍ - رضي الله عنه - كيف نزلَتْ بعضُ آياتِ الصِّيامِ، حيثُ نزَلَ أوَّلًا قولُه -تعالى-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (البقرة: 187)؛ ففَهِم بَعضُ الصَّحابةِ لَفظَ الآيةِ على ظاهِرِه، فكان أحدُهم إذا أراد أنْ يَصومَ، أحضَرَ خَيطينِ: خَيطًا أبيضَ، وآخَرَ أسودَ، وربَطَهما في قَدَمِه، وكان يَأكُلُ ويَشرَبُ حتَّى يَظهَرَ له الفرْقُ بيْن اللَّونينِ، بعْدَ طُلوعِ الصُّبحِ ودُخولِ النَّهارِ، فأنزَل اللهُ بعْدَ ذلك قولَه: {مِنَ الْفَجْرِ} فعَلِم الصَّحابةُ أنَّ المقصودَ بالخَيطِ الأبيضِ والخيطِ الأسودِ، هو بَياضُ النَّهارِ، وسَوادُ اللَّيلِ، وأنَّ دُخولَ الفَجرِ هو الحدُّ الفاصلُ بيْن انتهاءِ اللَّيلِ وبِدايةِ النَّهارِ؛ ليُمسِكَ كلُّ مَن أراد الصِّيامَ عنِ الأكلِ والشُّربِ، مع هذه العلامةِ البارزةِ الواضحةِ.

من أدلة نزول القرآن مفرقًا

     فقوله -تعالى-: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، بيّنه قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} والعرب تُسمّي ضوء الصُّبح خيطاً، وظلام الليل المُختلط به خيطاً، لأنَّ أولَ ما يبدو مِنَ الفجر المُعترض في الأفق، كالخَيط المَمْدود، وهذا ممّا يدل على أنّ القرآنُ الكريمُ كان يَنزِلُ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُفرَّقًا مُنجَّماً، ولم يَنزِلْ جُملةً واحدةً، وكانت الآياتُ تَنزِلُ يُفسِّرُ بَعضُها بعضًا، وكان الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم يُسارِعُون في تَحقيقِ أوامرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- المُنزَّلةِ في كَلامِه أوَّلًا بأوَّلٍ، واجْتناب نواهيه فيها.

إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وبَيَاضُ النَّهَارِ

     وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أنّ عَدِىُّ بْنُ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - ممن فعل ذلك، فقد قال: لمّا نزل قوله -تعالى-: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قَالَ عَدِىُّ بْنُ حَاتِمٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ، عِقَالاً أَبْيَضَ، وعِقَالاً أَسْوَدَ، أَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ وِسَادَتَكَ لَعَرِيضٌ، إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ، وبَيَاضُ النَّهَارِ»؛ معناه: إنْ كان وسادك وهي الوسادة والمخدّة، يسع الخيطين الأبيض والأسود، وهما الليل والنهار، إنّه لوسادٌ عريض ضخم. قال ابن كثير: ومعنى قوله: «إنّ وِسَادك لعَريض» أي: إنْ كان يَسعُ تحته الخيطين المرادين من هذه الآية، فيَقْتضي أنْ يكون بعَرْض المشرق والمغرب.

وقوله: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رِئْيُهُمَا» أي: منظرهما، ومنه قوله -تعالى-: {أحسنُ أثاثاً ورئياً} (مريم: 74).

مسألة (1)

     يسأل بعضُهم سؤالاً فيقول: في كتاب الله -عزّوجل- جاء بيان أنّ الصّوم يبدأ منْ ظُهور الخيط الأبيض من الأسود، فلماذا نرى الناس الآن يبدؤون الصوم مع أذان الفجر، مع أنّ النص القرآني صريح؟

     والجواب: نعم الآية واضحة في أنّ الصّوم يبدأ من تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وكلامٌ صحيح، والمراد بالخيط الأبيض هو بياض النهار، وبالخيط الأسود سواد الليل، كما فسّره بذلك مَنْ أنزل عليه القرآن، وهو النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الوقت الذي يُؤذّن عليه المؤذّنون، بالتوقيت الذي تضعه إدارات المَساجد، فما عليه الناس اليوم من ترك الأكل والشرب مع أذان الفجر، هو الصّواب الذي يجبُ على كل مسلم أنْ يفعله، ولصُعوبة تمييز الخَيط الأبيض منَ الخيط الأسْود اليوم، بظلّ كثرة المنازل، وتطاول البنيان في المُدن، وكثرة الأضْواء المانعة مِنَ الرُّؤية.

مسألة (2)

هل يصح القول أنّ الوقت الصحيح لبيان الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، هو كما جاء عن بعضِ السّلف بطُلوع الشمس؟

     والجواب: ما روي عن بعض السلف مِنْ أنّهم أباحوا الأكل حتى طلوع الشمس، فهو وإنْ كان مَروياً عن حذيفة - رضي الله عنه - وغيره، إلا أنّهم مَحْجُوجون بالنُّصوص الدالة على وجوب الإمساك من طلوع الفجر، فهو اجتهادٌ أخطؤوا فيه -رضي الله عنهم-، قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في حاشيته على (سُنن أبي داود): «وقد اختلفَ في هذه المسألة: فروى إسحاق بن راهويه عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول: لولا الشُّهرة لصليت الغداة، ثمّ تسحّرت؟ ثمّ ذكر إسحاق عن أبي بكر الصديق وعلي وحذيفة نحو هذا، ثمّ قال: وهؤلاء لمْ يروا فرقاً بينَ الأكل، وبين الصّلاة المكتوبة. هذا آخر كلام إسحاق. وقد حكي ذلك عن ابن مسعود أيضاً.

     وذهبَ الجمهور إلى امتناع السُّحور بطُلوع الفجر، وهو قول الأئمة الأربعة، وعامة فقهاء الأمَصار، وروي معناه عن عمر وابن عباس، واحتج الجمهور بقوله -تعالى-: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}.  وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلُوا واشْربوا حتى يُؤذّن ابن أم مكتوم».

     وبقوله: «الفَجْرُ فَجْران: فأمّا الأوّل، فإنّه لا يُحرّم الطّعام، ولا يُحلّ الصّلاة، وأمّا الثاني: فإنَّه يُحرّم الطَّعام، ويُحلّ الصّلاة». رواه البيهقي في سننه. انْتهى.

     وفي المُجموع للنووي ذكر الخِلاف في ذلك، وفصّل أدلّة الجُمهور بأوْسع من هذا، وهذا ما عليه عملُ المُسْلمين قاطبة؛ من الإمساك عن المفطرات بأذانِ الفَجر الثاني.

باب: إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا

     عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهمَا- قَال: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنَانِ: بِلَالٌ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ». قَالَ: ولَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا، ويَرْقَى هَذَا. رواه مسلم في الباب السابق نفسه.

     قوله: «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنَانِ: بِلَالٌ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى» فيه أنّ مِن هَدْيِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يكون للفجْرِ أذانينِ؛ الأوَّلُ: أذانٌ باللَّيلِ قبْلَ دُخولِ الوقتِ بمُدَّةٍ لِيَستيقظَ النائمُ، ويَنتبِهَ القائمُ لصلاة الليل، ويَتسحَّرَ مَن أراد الصِّيامَ.

والأذان الثاني: هو عندَ دُخولِ وَقتِ الفجْرِ، وهو الذي يُمسِكُ الناسُ فيه عن الطَّعامِ والشَّرابِ، ويَبدَأُ به الصَّومُ.

     وفي هذا الحَديثِ بَيانُ ذلك، حيثُ يُبيِّنُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ بِلالًا يُؤذِّنُ في آخِرِ اللَّيلِ قبْلَ طُلوعِ الفَجْرِ، وعليه فلا تَنقطِعوا عن طَعامِكم وشَرابِكم، ولا تَبدؤوا صِيامَكم حتَّى يُؤذِّنَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ، واسْمُه عَبدُ اللهِ، وقيل: عمْرُو بنُ زائدةَ؛ لأنَّه هو الذي يُؤذِّنُ بعْدَ طُلوعِ الفَجْرِ، وكان ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ رجُلًا أعْمَى لا يُؤذِّنُ بصَلاةِ الصُّبحِ حتَّى يَتحقَّقَ طُلوعَ الفَجرِ، ويُناديَ عليه النَّاسُ، ويُخبِروه بأنْ دخَلْتَ في الصَّباحِ، أو طلَعَ الصَّباحُ، فيَعلَمُ ابنُ أمِّ مَكتومٍ بذلك دُخولَ وَقتِ الفجْرِ بيَقينٍ، فيُؤذِّنُ.

     قوله: «ولَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا، ويَرْقَى هَذَا» قال العلماء: معناه أنّ بلالاً كان يؤذن قبل الفجر، ويتربّص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهّب ابنُ أمّ مكتوم للطّهارة وغيرها، ثمّ يرقى ويَشرع في الأذان مع أول طُلوع الفجر.

 

من فوائد الحديث

الصِّيامَ إلى آخِرِ وَقتٍ قَبْلَ الفَجْرِ، ولا يوجد ما يُسمّى: وقت الإمساك.

- وفيه: مَشروعيَّةُ اتِّخاذِ مُؤذِّنيْنِ لمَسجدٍ واحدٍ.

- وفيه: مَشروعيَّةُ كَونِ المُؤذِّنَ أعْمى، إذا كان عنده مَنْ يُنبهه لدخول وقت الصلاة، مِنْ شخصٍ أو ساعة ونحوها.

- وفيه: جواز ذِكرُ الإنْسانِ بما فيه مِن العاهاتِ للتعريف به؛ ليُستدَلَّ بذلك على ما يُحتاجُ إليه منه، إذا كان مَشهوراً بها، ولم يُذكَرْ على سَبيلِ الذَّمِّ أو التَّنقُّصِ له.

- وفيه: مَشروعيَّةُ أنْ يُنسَبَ الرَّجلُ إلى أُمِّه إذا كان مَعروفًا بذلك، مِثل ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وغيره.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك