رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 30 أكتوبر، 2023 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: تَرْكُ صِيامِ عَشْرِ ذِي الحِجّة

 

  • شَهرُ ذي الحِجَّةِ منَ الأَشهُرِ الحُرمِ وفيهِ الأيَّامُ العَشرُ والعملُ الصَّالحُ فيها له فَضلٌ عظيمٌ
  • الصّيام مِنْ أفضل الأعمال وأبرّها وهو داخلٌ في العمل الصالح المُسْتحب في هذه الأيام المباركة
 

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَائِماً فِي العَشْرِ قَطُّ. الحديث رواه مسلم في الاعتكاف (2/833) باب: صوم عَشر ذي الحجة، وفيه تُخبِرُ أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّها ما رأتْ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صائمًا في العَشْرِ الأوائلِ مِن ذي الحِجَّةِ، وَقالت في رِوايةٍ بعدها أخرَجَها مسلِمٌ: «أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لَم يَصُمِ العَشرَ»، والمُرادُ بالعَشرِ هاهُنا: الأيَّامُ التِّسعةُ مِن أوَّل ذي الحِجَّةِ، وذلك لأنَّ يومَ العيدِ يحرُمُ صيامُه كما هو معلوم.

         لكن قد ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصومها، وثبت ما يدلّ على أنّه يُستحب صيام الأيام التسعة الأولى منْ ذي الحجّة، وعلى ذلك جماهير أهل العلم، وهذه بعض الأحاديث في ذلك: ما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ، يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ». رواه البخاري (969)، وأبو داود (2438) واللفظ له، والترمذي (757)، وابن ماجة (1727).

الصّيام مِنْ أفضل الأعمال وأبرّها

           ولا شكّ أنّ الصّيام مِنْ أفضل الأعمال وأبرّها، وهو داخلٌ في العمل الصالح المُسْتحب في هذه الأيام المباركة، بنص هذا الحديث، وقال الشوكاني -رحمه الله-: «تَقَدَّمَت أَحَادِيثُ تَدُلُّ علَى فَضِيلَةِ العَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ عَلَى الْعُمُومِ، والصَّوْمُ مُنْدَرِجٌ تَحْتِهَا». «نيل الأوطار» (4/283). وما جاء في فَضْلِ صِيامِ يومِ عَرَفةَ لغَيرِ الحاجِّ، وهو ما رَواه مسلِمٌ مرفوعاً: «صيامُ يومِ عَرَفةَ، أحتَسِبُ على اللهِ، أنْ يُكفِّرَ السَّنةَ الَّتي قبلَه، والسَّنةَ الَّتي بعدَه»، واستحبابه متأكّد، وفضله عظيم. ما روى هُنَيْدَةَ بن خالد - رضي الله عنه - عن امرأته: عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عن الجميع، قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ». قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «إسناده صحيح» في «صحيح سنن أبي داود».

توجيه أهل العلم لحديث عائشة -رضي الله عنها

أمّا توجيه أهل العلم: لحديث عائشة -رضي الله عنها- أنّها ما رأتْ النّبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم في العَشر من ذي الحجّة. فللعلماء في هذه المسألة أقوال، منها:
  • أولا: أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرتْ بما عَلمت، وأخبرَ غيرها بخلافِ خَبرها، ومَن عَلِم حُجة على من لم يعلم. والمثبت مقدم على النافي.
  • ثانيا: أنّ القولَ مُقدّم على الفعل، وحديث ابن عباس من القول، وحديث عائشة منَ الفعل، فيقدّم القولُ لاحتمال خُصُوصية الفعل، أو لحُصول عذر، ونحوه.
قال العلامة الألباني -رحمه الله-: «القول الصّادر من الرسُول -عليه السلام- المُوجّه إلى الأمّة هو شَريعة عامة، أمّا الفعل الذي يفعله هو، فيمكن أنْ يكونَ شريعة عامّة حينما لا يُوجد مُعارض له، ويمكن أنْ يكون أمراً خاصّاً به - صلى الله عليه وسلم ».
  • ثالثا: يحتمل أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - تَرَك صيام هذه الأيام لعارض، من سفرٍ أو مرض أو شغل ونحوه، فحدّثت عائشة -رضي الله عنها- بما رأته من ذلك.
قال النووي -رحمه الله-: «وأَمَّا حَدِيثُ عائِشَةَ قالتْ: «ما رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَائِماً فِي الْعَشْرِ قَطُّ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ»، رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فقالَ العُلَمَاءُ: وهُوَ مُتَأَوِّلٌ علَى أَنَّها لَمْ تَرَهُ، ولَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَرْكُهُ في نَفْسِ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَكُونُ عِنْدَهَا فِي يَوْمٍ مِنْ تِسْعَةِ أَيَّامٍ، والْبَاقِي عِنْدَ بَاقِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنهن-، أَوْ لَعَلَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومُ بَعْضَهُ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وكُلَّهُ في بَعْضِها، ويَتْرُكُهُ فِي بَعْضِها لِعَارِضِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ». «المجموع» (6/441).
  • رابعا: أنْ يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يترك صيام هذه الأيام أحياناً؛ لأنّه كان يحبّ أنْ يفعل العمل ويتركه، خشية أنْ يفرض على الأمة، كتركه صلاة التراويح جماعة بأصحابه في رمضان، وربّما ترك الشيء وسهّل فيه شفقة على الأمة.
فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «ما رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا، وإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ». رواه البخاري (1128)، ومسلم (718). قال الحافظ -رحمه الله-: «واسْتُدِلَّ بِهِ - أي بحديث ابن عباس - عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي العَمَلِ، ولَا يَرد عَلَى ذَلِكَ ما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وغَيْرُهُ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَائِماً الْعَشْرَ قَطُّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ، وهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ». «فتح الباري» (2/460).
  • خامسا: أنّها نفت صيامه - صلى الله عليه وسلم - على وجه الوجوب: قال الأثرم: فأمّا حديث عائشة الأول، فإنّه ليس فيه بيان مذهب، وذلك أنّها لمّا حَكت أنّها لمْ تَره صائم العشر، فقد يكون ذلك على أنّها لم تَرَه هي، ورآه غيرها، وذلك أنّه إنّما كان يكون عندها في الأيام يوماً، وقد يكون ذلك على أنْ يكون لمْ يَصمْ العَشر على أنّه ليس بواجب، ومَنْ صَامه فله فضل، فليس في هذا بيان، «ناسخ الحديث ومنسوخه» (ص 180).
  • سادسا: تأويل حديث حفصة -رضي الله عنها- المُثْبت للصوم: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة»، بأنّ المراد به اليوم التاسع فقط.
ويُجاب عنه بأن الحديث عند النسائي بلفظ: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ العَشْرَ»، سنن النسائي (2418).

هل صام النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ذي الحجة كاملة

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: هل ورد عن الرسُول - صلى الله عليه وسلم - صيام عشر ذي الحجة كاملة؟ فأجاب: «ورد عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما هو أبلغُ مِنْ أنْ يَصُومها، فقد حثّ على صِيامها بقوله -عليه الصّلاة والسلام-: «ما مِنْ أيامٍ العَملُ الصّالح فيهنّ أحبّ إلى الله، مِنْ هذه الأيام العشر»، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجُلٌ خرج بنفسه وماله فلمْ يَرجع منْ ذلك بشيء»، ومِنَ المعلوم أنّ الصّيام من أفضل الأعمال الصّالحة.

فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه

           أمّا فعله - صلى الله عليه وسلم - هو بنفسه: فقد جاء فيه حديثان: حديث عائشة، وحديث حفصة، أمّا حديث عائشة فقالت: «ما رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - صام العشر قط»، وأمّا حديث حفصة فإنّها تقول: «إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لمْ يكنْ يدع صيامها»، وإذا تعارض حديثان، أحدهما: يثبِت، والثاني: ينفي، فالمثبتُ مُقدّم على النافي، ولهذا قال الإمام أحمد: حديث حفصة مثبت، وحديث عائشة نافي، والمثبت مقدم على النافي.

قاعدة مهمة

وأنا أريد أن أعطيك قاعدة: إذا جاءت السّنُّة في اللَّفظ، فخُذْ بما دلَّ عليه اللّفظ، أمّا العمل فليس في الشّرط أنْ نَعلم أنّ الرسُول فعله، أو فعله الصّحابة، ولو أنّنا قلنا: لا نَعملُ بالدليل، إلا إذا علمنا أنّ الصّحابة عَمِلوا به، لفاتَ علينا كثيرٌ منَ العبادات، ولكنْ أمامنا لفظ، وهو حُجّة بالغة واصل إلينا، يجبُ علينا أنْ نَعْملَ بمدلوله، سواءً علمنا أنّ الناسَ عَمِلوا به فيما سبق، أمْ لم يعملوا به». «لقاء الباب المفتوح» (92 /12).  

فوائد الحديث

1- الحَديثُ قد يُفهَمُ مِنه كَراهةُ صومِ العَشرِ، لكن قدْ جاءَ ما يدُلُّ على فَضلِ العَملِ الصَّالحِ- ويَدخُلُ فيهِ الصَّومُ- في هَذه العَشرِ. 2- عَدمُ صِيامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - هَذه الأَيَّامَ، لاحْتمالِ أنْ يَكونَ ذلكَ لكونِه كان يَترُكُ العَملَ وهوَ يُحِبُّ أنْ يَعمَلَه، خَشيةَ أنْ يُفرَضَ عَلى أُمَّتِه، أو أنّه كان يَصُومها أحياناً. 3- شَهرُ ذي الحِجَّةِ منَ الأَشهُرِ الحُرمِ، وفيهِ الأيَّامُ العَشرُ في أوَّلِه، والعملُ الصَّالحُ فيها له فَضلٌ عظيمٌ، وفيها يومُ عَرفةَ في التَّاسعِ مِنها، وفيها يومُ عيدِ الأَضْحى يومُ العاشرِ، وقد وَردتْ رِواياتٌ في فَضلِها.  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك