رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 11 سبتمبر، 2023 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: الصَّومُ والفِطْر في الشُّهُور

  • إذا اجتمع جِهادٌ وصيام فهذا من أفضل الأعمال وهذا يدُلُّ على بُعدِ النَّارِ عنِ المُجاهِدِ الصَّائِمِ أوِ الصائِمِ المُحتَسِبِ للهِ عَزَّ وجَلَّ
  • أعْمالُ التطوُّعِ ليستْ مَنوطةً بأوقاتٍ مَعلومةٍ وإنَّما هي على قدْرِ الإرادةِ لها والنَّشاطِ فيها
  • المُداوَمةُ على العَملِ الصَّالحِ تُبلِّغُ العَبدَ إلى رَحمةِ اللهِ والنَّجاةِ مِن النارِ وقد كان النبي [ هو القدوة في ذلك
 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رضي الله عنها-: «أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ شَهْرًا كُلَّهُ؟ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُهُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إِلَّا رَمَضَانَ، ولَا أَفْطَرَهُ كُلَّهُ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ - صلى الله عليه وسلم -». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/809) باب: صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان، واسْتحباب ألا يُخلي شهراً عن صوم.

  تُخبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَصومُ شَهراً كاملًا إلَّا شَهرَ رَمضانَ؛ وذلك لأنَّه شَهرُ الفَريضةِ، والتَّنبيهُ عليه مِن بابِ النَّفْيِ لغَيرِه، وهو أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَصومُ شَهْرًا كاملًا تَطوُّعًا، بلْ يَصومُ مِن كلِّ شَهرٍ مِن شُهورِ السَّنةِ أيامًا منه، ولمْ يَستكمِلْ صِيامَ شَهرٍ غَيرِ رمضانَ؛ لِئلَّا يُظَنَّ وُجوبُه، وكان أكثرُ الشُّهورِ الَّتي يَصومُ فيها شَعبانَ، فكان يَصومُ غالِبَه؛ لئلَّا يَلتبِسُ ذلك بالفَرْضِ، ولكيلا يَعُدَّه مَن لا يَعلَمُ منه.

ولا صَامَ شَهْراً كاملاً غيرَ رمضان

         وفي رواية له أيضا: عنها قالت: «ما رَأيتُه صَامَ شَهْرا كاملاً منذْ قَدِم المَدينة، إلا أنْ يكونَ رَمضان». وفي رواية له أيضاً: أنها قالت: «لا أعْلمُ نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرَأ القرآن كلَّه في لَيلةٍ، ولا صَامَ شَهْراً كاملاً غيرَ رمضان»، وفي رواية له أيضا: قالت: «ما رَأيتُه قامَ لَيلةً حتّى الصّباح، ولا صَامَ شَهْراً مُتَتابعاً إلا رَمَضَان»، وفي الصحيحين: عن ابن عباس قال: ما صَامَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - شَهْراً كاملاً غير رمضان. وكان ابن عباس يَكرهُ أنْ يَصومَ شَهْراً كامِلاً غير رمضان. وروى عبد الرزاق: عَنْ عَطَاءٍ قال: كانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ الشَّهْرِ كامِلًا، وَيَقُولُ: «لِيَصُمْهُ إِلَّا أَيَّاماً»، وكانَ يَنْهَى عَنْ إِفْرَادِ الْيَوْمِ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ، وعنْ صِيَامِ الْأَيَّامِ المَعْلُومَةِ، وكانَ يَقُولُ: «لَا يَصُمْ صِيَاماً مَعْلُوماً». قولها: «حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ - صلى الله عليه وسلم -»، وفي رواية له: «حتى مَضى لوجهه» كناية عن الموت، أي: إلى أنْ مات.

كيفَ تَصُومُ؟

وعن أبي قتادة قال: رَجُلٌ أَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: كيفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلَمَّا رَأَى عُمَرُ - رضي الله عنه - غَضَبَهُ، قالَ: رَضِينَا باللَّهِ رَبًّا، وبالإسْلَامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ باللَّهِ مِن غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يُرَدِّدُ هذا الكَلَامَ حتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ بمَن يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قالَ: «لا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ، أَوْ قالَ: لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ»، قالَ: كيفَ مَن يَصُومُ يَومَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْماً؟ قالَ: «ويُطِيقُ ذلكَ أَحَدٌ؟!» قال: كيفَ مَن يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قالَ: «ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ -عليه السَّلَام-»، قالَ: كيفَ مَن يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَومَيْنِ؟ قالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذلكَ»، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثٌ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، فَهذا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، والسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ، وصِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ». رواه مسلم (2/819). فإنْ قيل: فقد قال النبي -  صلى الله عليه وسلم -: «أفضلُ الصّيامِ صيامُ داود، كانَ يَصُوم يوماً، ويُفْطرُ يوما»، ولم يَصمْ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، بل كان يَصُوم سَرْداً، ويُفْطر سَرْداً، ويصُوم أكثر شعبان، وكلّ اثنين وخميس، وأيّام البيض؟

صَيامُ داود عليه السّلام

         قال العلماء: صَيامُ داود -عليه السّلام- الذي فضّله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على الصّيام، قد فَسّره النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر، بأنّه: صَومُ شَطْر الدَّهْر، وهكذا صيامُ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا جُمِعَ، يَبْلغُ نِصْفَ الدّهر، أو يَزِيد عليه، فقد كان يَصوم -مع ما سبقَ ذِكره- يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجة، وإنما كان يُفرّق صِيامَه ولا يَصُوم يوماً ويُفْطرُ يوماً، لأنه كان يَتحرّى صيام الأوْقات الفاضلة، ولا يضرّ تفريق الصّيام، والفِطر أكثر من يوم، إذا كان القصد منه التقوّي على ما هو أفضل من الصيام، مِنْ أداءِ الرّسالة وتبليغها، والجهاد في سبيلها، والقيام بحقوقها، والاشتغال بما هو أهمّ منه وأفضل، فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك، والله أعلم.

فوائد الحديث

1- أنَّ أعْمالَ التطوُّعِ ليستْ مَنوطةً بأوقاتٍ مَعلومةٍ، وإنَّما هي على قدْرِ الإرادةِ لها، والنَّشاطِ فيها. 2- وفيه: مَشروعيَّةُ صَومِ التَّطوُّعِ في كلّ شَهرٌ مِن شُهورِ العام. 3- أنّ المُداوَمةُ على العَملِ الصَّالحِ تُبلِّغُ العَبدَ إلى رَحمةِ اللهِ، والنَّجاةِ مِن النارِ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة في ذلك.  

 باب: فَضلُ الصّومِ في سَبيلِ الله

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ، سَبْعِينَ خَرِيفاً». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/808) باب: فضل الصّيام في سبيل الله لمَن يُطيقه، بلا ضَررٍ ولا تفويت حق، ورواه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2840) باب: فضل الصوم في سبيل الله.

قوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ»

        قوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ» اختلف العُلماء -رحمهم الله- في معنى «في سبيل الله»، فيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ، ويَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ صَامَ حَالَ كَوْنِهِ غَازِياً، قال ابن الجوزي: إذا أُطْلق ذكر سبيل الله، فالمُراد به الجِهاد اهـ. لأ‌نّه يَجْمع بين مُجاهدة العَدو وبين الصّيام؛ فالصّيام من العبادات البدنية، والجِهاد من العِبادات الماليّة والبدنيّة، فيَجمع بين الأ‌مرين، فيحصُل بذلك على الثواب والأ‌جر الجزيل. وهو اختيار النووي -رحمه الله- إذْ يقول: «فيه فَضيلة الصّيام في سبيل الله، وهو محمولٌ على مَنْ لا يتضرّر به، ولا يفوّت به حقاً، ولا يختلّ به قتاله، ولا غيره منْ مهمات غزوه، ومعناه: المُباعدة عن النار، والمعافاة منها، والخَريف: السَنَة، والمراد: سبعين سنة». شرح مسلم (8 / 33).

العُرْف الأكثر اسْتِعماله في الجهاد

        قال ابن دقيق العيد: «العُرْف الأكثر، اسْتِعماله في الجهاد، فإنْ حُمِل عليه، كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، ويحتمل أنْ يُراد بسبيل الله طاعتُه كيفَ كانت، والأول أقرب، ولا يُعارض ذلك أنّ الفِطْر في الجهاد أولى، لأنّ الصّائم يَضْعُف عن اللقاء، لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفاً، ولا سيما من اعتاد به، فصار ذلك من الأمور النّسبية، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل؛ ليجمع بين الفضيلتين» اهـ. وقال ابن الأثير: «سَبِيلُ اللَّهِ عَامٌّ، يَقَعُ عَلَى كل عمل خَالِصٍ لِلَّهِ سَلَكَ بِهِ طَرِيقَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، بِأَدَاءِ الفَرَائِضِ والنَّوَافِلِ، وأَنْوَاعِ التَّطَوُّعَاتِ، وإِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ فِي الغَالِبِ وَاقِعٌ عَلَى الجِهَادِ، حَتَّى صَارَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، كأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَيه». «النهاية» (239/2).

المُراد في سبيل الله

        ورجَّح القرطبي: أنَّ المُراد في سبيل الله، أي: في مَرْضاة الله، فيَصُوم قاصداً بذلك وجهَ الله، وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أنْ يكون ما هو أعمّ من ذلك، ثم وجدته في فوائد أبي طاهر الذهلي: من طريق عبد الله بن عبد العزيز الليثي عن المقبري عن أبي هريرة بلفظ: «ما مِنْ مرابط يرابط في سبيل الله، فيصوم يوما في سبيل الله». الحديث. «فتح الباري» (6/48). ومِنْ أقْوَى الأدلة على أنّ المُراد منْ قوله: «في سبيل الله» أي: في الجهاد أو الغزو أو الرّباط، ما رواه ابن خزيمة في صحيحه: من حديث ابي سعيد الخدري مرفوعا: «مَا مِنْ عبدٍ يصومُ يومًا في سبيل الله؛ ابتغاءَ وجْه الله، إلَّا باعدَ الله بينه وبين النَّار سبعين خريفًا». قال الشَّيخ الألبانيُّ في تعليقه على ابن خزيمة: إسناده صحيح، رجاله رجال الصَّحيح. فقوله: «في سبيل الله؛ ابتغاءَ وجْه الله» يدلُّ دلالةً واضحة على أنَّ «سبيل الله» في الحديث ليس بمفهومه العام، وإنّما بمفهومه الخاص عند إطلاقه، ألا وهو القتال الشرعي، أو الرباط في سبيل الله.

التأسيس مُقدَمٌ على التوكيد

كما أنّ التأسيس في الكلام، مُقدَمٌ على التوكيد، فَسبيل الله في الحديث، ليست مرادفه: لابتغاء وجْه الله، أي: إخْلاص العمل لله، إنّما تَحْمل معنى آخر مغايراً، وهو الجهاد أو الغزو أو الرّباط سبيل الله. وممن ذهب من العلماء المعاصرين الى أن معنى «سبيل الله» في الحديث هو الجهاد، الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ زيد المدخلي -رحمهما الله-، والشيخ العلامة صالح الفوزان -حفظه الله. وقوله: «إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ، سَبْعِينَ خَرِيفا» معنى سبعين خريفًا، أي: سبعين سنة. فإن قيل: لماذا خصَّ الخَريف من بين فصول العام؟ فالجواب أنه خَصَّه؛ لأ‌نه أزكَى الفُصُول، وفيه تُجْنى الثمار، ذكره ابن حجر -رحمه الله-، والمُراد بالخَريف هنا العام، أي: باعَد الله وجْهه عن النار سَبعين عاماً.    

فوائد الحديث

  • فضيلة الصّيام على وجْه العُموم، سواءٌ أكانَ صِيامَ فَرضٍ أو صِيامَ نافِلةٍ، والحَثُّ والتَّرغيبُ على صيامِ التَّطوُّعِ.
  • فضيلة الصيام في الجَهاد في سبيل الله.
  • فضيلة الجهاد في سَبيل الله، فإذا اجتمع جِهادٌ وصيام، فهذا من أفضل الأ‌عمال، وهذا يدُلُّ على بُعدِ النَّارِ عنِ المُجاهِدِ الصَّائِمِ، أوِ الصائِمِ المُحتَسِبِ للهِ -عَزَّ وجَلَّ-.
  • فيه أنّ الأ‌عمال الصالحة، سببٌ للبُعد عن النيران.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك