رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 17 يوليو، 2023 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم باب: الصَّومُ والفِط

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- قَال: سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَشَرِبَهُ نَهَاراً لِيَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أَفْطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-: فَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ»؛ وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَامَ الفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ: بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: «أُولَئِكَ العُصَاةُ، أُولَئِكَ العُصَاةُ».

       الحديثان رواهما مسلم في الصيام (2/784) باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأنّ الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أنْ يصوم، ولمن يشقّ عليه أنْ يُفطر، وروى الحديث الأول البخاري في الصوم (1944) إذا صام أياماً من رمضان ثمّ سافر. ورواه أيضاً (1948) باب: من أفطر في السفر ليراه الناس.

الحَديثِ الأول

      في الحَديثِ الأول: يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ مِن المَدينةِ في العام الثامن قاصِداً مكة، وذلك في فَتْحَ مكَّةَ في شَهرِ رَمَضانَ، وكان صائِماً هو ومَن معَه مِن النَّاسِ، وكان هذا في العامِ الثَّامِنِ مِن الهِجْرةِ.

فصام حتى وصل إلى عسفان

        قوله: «فصام حتى وصل إلى عسفان» وفي الرواية الثانية: «فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ» قَالَ ابْن الْأَثِير: وعُسْفَان قَرْيَة جَامِعَة بَين مَكَّة والْمَدينَة، وكراع الغميم أَيْضا مَوضِع بَين مَكَّة والْمَدينَة، والكراع جَانب مستطيل من الحرَّة، مشتبها بِالكُرَاعِ، والغميم، بِفَتْح الْغَيْن المُعْجَمَة: وادٍ بالحجاز.

      أمّا عسفان فبثمانية أَمْيَال يُضَاف إِلَيْهَا هَذَا الكراع، قيل: جبل أسود مُتَّصِل بِهِ، والكراع: كل أنف سَالَ من جبل أَو حرَّة، وقديد، بِضَم الْقَاف: مَوضِع قريب من مَكَّة فَكَأَنَّهُ فِي الأَصْل تَصْغِير: قد.

       وقَال القَاضِي عِيَاض: اخْتلفت الرِّوَايَات فِي الموضع الَّذِي أفطر - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ، والكل في قَضِيَّة وَاحِدَة، وكلهَا مُتَقَارِبَة، والجميع من عمل عسفان. انْتهى. وقَال أبُو عَبْدِ الله البخاري: والكَدِيدُ ماءٌ بيْنَ عُسْفَانَ وقُدِيدٍ. اهـ، والكَديدَ هو الماءُ الَّذي بيْنَ قُدَيْدٍ وعُسْفَانَ، واسمُها اليومَ «الحَمضُ»، وتَبعُدُ عن مكَّةَ قُرابةَ (90) كيلومترًا.

ووَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: عَن ابْن عَبَّاس: أَنّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - خرج فِي رَمَضَان فصَام حَتَّى أَتَى قديداً، ثمَّ أَتَى بقدح من لبنٍ فشربه فَأفْطر هُوَ وَأَصْحَابه.

وقَوْله: «خَرَج إِلَى مَكَّة لعشر مَضَين من رَمَضَان»

      وقَوْله: «خَرَج إِلَى مَكَّة لعشر مَضَين من رَمَضَان» كَانَ ذَلِك في غَزْوَة الفَتْح، خرج يَوْم الْأَرْبَعَاء بعد العَصْر لعشر مضين من رَمَضَان، فَلَمَّا كَانَ بالصّلصل، )جبل عِنْد ذِي الحليفة(، نَادَى مناديه: منْ أحبّ أَنْ يُفْطر فليُفطر، ومَنْ أحبّ أَن يَصُوم فليَصُم، فَلَمَّا بلغ الكديد أفطر بعد صَلَاة الْعَصْر على رَاحِلَته ليراه النَّاس.

       فيقول ابنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ظلَّ صائماً، فلمَّا بلَغَ الكديد، أفطَرَ، وأفطَرَ النَّاسُ معَه، وكان فِطرُه - صلى الله عليه وسلم - بعْدَ العَصرِ، وكان قدْ شقَّ على النَّاسِ الصَّومُ، فلمْ يزَلْ مُفطِراً حتَّى انْقَضى الشَّهرُ، فأرادَ - صلى الله عليه وسلم - الرِّفقَ بهم، والتَّيْسيرَ عليهم، أخْذًا بقَولِه -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185)، فأخبَرَ -تعالى- أنَّ الإفْطارَ في السَّفَرِ أرادَ به التَّيْسيرَ على عِبادِه.

       أي: لمّا صام الناس قيل له: إنّ الصّوم شقّ عليهم وهم ينظرون إلى فِعْلك، فدعا بماء فرفعه حتى يَنظر الناسُ إليه، فيقتدوا به في الإفطار، وكان لا يأمن الضعف عن القتال عند لقاء عدوهم، ثم أفطر طول الطريق إلى مكة، فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر، وابن عباس لم يشاهد هذه القصة؛ لأنه كان بمكة حينئذ فهو يرويها عن غيره من الصحابة.

الرِّواية الثانية

       وفي الرواية الثانية عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ -رَضيَ اللهُ عنه- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ عامَ الفَتحِ إلى مكَّةَ في رَمَضانَ، فصامَ حتَّى بلَغَ كُراعَ الغَميمِ، فصامَ النَّاسُ، ثمَّ دَعا بقَدَحٍ من ماءٍ فرفَعَه، حتَّى نظَرَ النَّاسُ إليه، ثمَّ شَرِبَ، فقيلَ له بعدَ ذلك: إنَّ بعضَ النَّاسِ قد صامَ، فقال: «أولئك العُصَاةُ، أولئك العُصاةُ».

      وكُراعُ الغَميمِ مَوضِعٌ يَبعُدُ عن مكَّةَ (64) كيلومترًا، وتُعرَفُ اليومَ: ببَرْقاءِ الغَميمِ، واخْتِلافُ المَكانِ الَّذي أفطَرَ فيه رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيْن الحَديثَينِ راجِعٌ للتَّقارُبِ النِّسبيِّ بيْن المَكانَينِ، فذكَرَ ابنُ عبَّاسٍ مَوضِعًا، وذكَرَ جابرٌ الآخَرَ، وقيلَ: قدْ يكونُ عَلِمَ - صلى الله عليه وسلم - حالَ النَّاسِ ومَشقَّتَهم في مكانٍ، فأفطَرَ وأمَرَهم بالفِطرِ في مكانٍ آخَرَ.

السّفرُ الذي يُجِيز الإفطار

       والسّفرُ الذي يُجِيز الإفطار: اخْتلف فيه الفقهاء باخْتلاف أنظارهم في السّفر، الذي توجد فيه مشقة فتوجد فيه الرخصة، فقيل: سفر يوم وليلة. وقال أبو حنيفة: ثلاثة أيام، بالسّير المُعْتاد للإبل، بحيثُ يسير نِصف النهار، ويستريح النّصف الآخر.

       وهنا بحث: أيُّهما الأفضل في المرض والسفر: الفطر، أم الصوم؟ وقد أجاب عن ذلك العلماء: بأنّه إذا لمْ يجدْ مشقةً شديدة في المَرض أو السفر؛ فالأفضلُ له أنْ يصوم، ولا يكون بذلك معانداً لرخصة الله -تعالى. ولكن يكون محتاطاً في معنى المرض الذي يسوغ الرُّخصة، وإلا فالرُّخصة أفضل، وكذلك في حال السفر، إذا كان يرى أنه يستطيع الصوم من غير إجهاد، فالأفضل الصوم، ولا يكون ذلك معاندة للرخصة.

       والسّفر المجرد في هذه الأيام لا مشقة فيه؛ ولذا فالأفضل الصّوم، منْ غيرِ أنْ نُقرّر وجوبه، حتى لا نكون معاندين لرخص الله، فإن الله -تعالى- يحبُّ أنْ تُؤتى رُخَصه، كما تُؤتَى عَزَائمه، كما صح في الحديث.

السَّفَرُ أقْسامٌ ثلاثة

 - الأوّل: سفرٌ للجهاد في سبيل الله، وهذا لا يَحْسن فيه الصّوم، وإلا خالف السُّنّة وعارض الرخصة؛ لأنّ الله -تعالى- اخْتبر المؤمنين في غزوتين كانتا في رمضان، وهما: غَزْوة بدر الكبرى، وفتح مكة، كانت الأولى في السابع عشر من رمضان، والثانية في الثالث عشر، وقد أفْطرً فيهما النّبي - صلى الله عليه وسلم - هو ومن معه منَ الصّحابة المجاهدين.

- والقسم الثاني: السَّفر في مباحٍ كالتّجارة والزيارة، ويُتْرك الأمرُ فيه إلى حال المُسافر، إنْ وجد مشقة أفْطر وإلا صَام.

- والقسم الثالث: السّفر للمعصية، وكثير من الفقهاء لا يرون أنّ الرّخصة تشمله؛ لأنّه عاصٍ بسفره، والرّخصة نعمة وتخفيف، والمعصية لا تبيح له النعمة ولا التخفيف.

 

فوائد الحديث

1- مشروعيّة الغَزو في رَمضانَ، ومَشْروعيَّةُ الفِطرِ في نَهارِه؛ لئِلَّا يَضعُفوا عنِ الحَربِ.

2- وفيه: بَيانُ ما كان عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن الشَّفَقةِ بأُمَّتِه.

3- وفيه: سَماحةُ الشَّريعةِ، وسُهولةُ تَكاليفِها؛ حيث أباحَتِ الفِطرَ للمُسافِرِ؛ لمَا يَلحَقُه منَ التَّعبِ بسَببِ عَناءِ السَّفرِ.

4- أنّ الجِهادُ والغَزوُ مِنَ المَواطنِ الَّتي يُطلَبُ فيها كلُّ مَعاني الصِّحَّةِ والقوَّةِ، ولا سيما عندَ لِقاءِ العَدوِّ، ولقدْ رُخِّصَ في الفِطرِ للمُسافرِ؛ ليَتقوَّى به على سَفرِه، والجِهادُ أوْلى؛ لمَا يَحتاجُ مِن مَزيدِ قوَّةٍ، ولَكونِه سَبباً للنُّصرةِ على العَدوِّ.

5- فيه بَيَان صَرِيح أَنه -صلى الله عليه وسلم - صَامَ فِي السّفر، وفِيه رد على مَنْ لمْ يجوز الصَّوْم فِي السّفر.

6- وفِيه: بَيَان إِبَاحَة الْإِفْطَار فِي السّفر.

7- وفِيه: دَلِيل على أَن للصَّائِم فِي السّفر الْفطر بعد مُضِيّ بعض النَّهَار.

8- وفِيه: رد لقَوْل مَنْ زَعم أَن فطره بالكديد كَانَ فِي الْيَوْم الَّذِي خرج فِيهِ من المَدِينَة، وذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه لَا يجوز الفطر فِي ذَلِك اليَوْم، وإِنَّما يجوز لمن طلع علَيْهِ الفجْر فِي السّفر.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك