رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 29 يناير، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: أفضلُ الصّيام صيام داود صومُ يومٍ وإفْطار يوم

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَام-، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، ويَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، الحديث رواه مسلم في الصيام (2/816) في الباب السابق نفسه.

      في هذا الحديثِ يُخبِرُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - بأفضلِ كَيفيَّةٍ في قِيامِ اللَّيلِ، وصَيامِ النَّافلةِ، وهما قِيامُ نَبيِّ اللهِ داودَ عليه السَّلامُ وصَومُه؛ فأمَّا قِيامُه: فكان يَنامُ نصْفَ اللَّيلِ الأوَّلَ، ثمَّ يَقومُ ثُلثَ اللَّيلِ، ثمَّ يَنامُ سُدسَه الأخيرَ، وأمَّا صِيامُه فكان يَصومُ يَومًا ويُفطِرُ يومًا، فهذا أكثَرُ ما يكونُ القِيامُ والصِّيامُ مَحبوباً للهِ -عز وجل-، ويَنالُ به صاحبُه أعْلى الدَّرجاتِ، وإنَّما كانتْ هذه الطَّريقةُ أحَبَّ إلى اللهِ -عز وجل-؛ مِن أجْلِ الأخذِ بالرِّفقِ على النُّفوسِ الَّتي يُخشَى منها السَّآمةُ والملَلُ، والَّذي هو سَببٌ إلى تَرْكِ العِبادةِ، واللهُ يُحِبُّ أنْ يُديمَ العبدُ العبادة، ليدوم فضْل الله عليه، ويُواليَ إحسانَه إليه أبدًا، وإنَّما كان ذلك أرفَقَ؛ لأنَّ النَّومَ بعدَ القِيامِ يُريحُ البدَنَ، ويُذهِبُ ضرَرَ السَّهرِ، وذُبولَ الجِسمِ، بخِلافِ السَّهرِ إلى الصَّباحِ.

المصالح المترتبة على صيام داود

      وفيه مِن المصلحةِ أيضاً: استِقبالُ صَلاةِ الصُّبحِ وأذكارِ النَّهارِ بنَشاطٍ وإقبالٍ، وأنَّه أقرَبُ إلى عدَمِ الرِّياءِ؛ لأنَّ مَن نام السُّدسَ الأخيرَ من الليل، أصبَح ظاهرَ اللَّونِ، سَليمَ القُوى؛ فهو أقربُ إلى أنْ يُخفيَ عمَلَه الماضيَ على مَن يَراهُ. وكذلك صِيامُ يَومٍ وإفطارُ يَومٍ، أفضَلُ مِن صِيامِ الدَّهرِ كلِّهِ؛ إذْ بصِيامِ الدَّهرِ يَضعُفُ البَدَنُ، ويَقصُرُ المُسلِمُ عن أداءِ الحُقوقِ لأصْحابِها، من أهلٍ وولد وضيف، وغير ذلك من الفوائد والمصالح. وأيضاً: فإنَّ سَرْدَ الصِّيامِ طَوالَ العامِ تَألَفُه النَّفْسُ وتَعْتادُه، فيَفقِدُ الصِّيامُ أثَرَهُ في تَهْذيبِ نفْسِ الصَّائمِ، أمَّا إعْطاءُ النَّفْسِ حظّها يوماً، وحِرمانُها آخَرَ، فهو أشدُّ عليها وأقْوى في تَهْذيبِها، وبذلِكَ يكونُ الصَّومُ أنفَعَ لصاحِبِه، وأحَبَّ إلى اللهِ -تعالَى. وقد بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: السَّبَبَ في تَفضيلِ صِيامِ نَبيِّ اللهِ داودَ على غَيرِه، فقالَ: «كان يَصومُ يَومًا ويُفطِرُ يَومًا، ولا يَفِرُّ إذا لاقَى»، كما في رِوايةِ الصَّحيحَينِ. أي: لا يَفِرُّ مِن العَدوِّ إذا لَقِيَه في الحربِ؛ لقُوَّةِ نفْسِه بما أبقَى فيها، من غَيرِ إنهاكٍ وإضعافٍ لها بصَومٍ مُستمر.

الْأَخْذ بِالرِّفْقِ لِلنَّفْسِ

       قال الحافظ -رحمه الله-: «قَالَ المُهَلَّب: كَانَ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَام- يُجِمّ نَفْسه بِنَوْمٍ أَوَّل اللَّيْل، ثُمَّ يَقُوم فِي الْوَقْت الَّذِي يُنَادِي اللَّه فِيهِ: هَلْ مِنْ سَائِل فَأُعْطِيَهُ سُؤْله، ثُمَّ يَسْتَدِرْك بِالنَّوْمِ مَا يَسْتَرِيح بِهِ مِنْ نَصَب القِيَام فِي بَقِيَّة اللَّيْل. وإِنَّمَا صَارَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَة أَحَبّ مِنْ أَجْل الْأَخْذ بِالرِّفْقِ لِلنَّفْسِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا السَّآمَة، وقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّه لَا يَمَلّ حَتَّى تَمَلُّوا». واَللَّه أَحَبَّ أَنْ يُدِيم فَضْله ويُوَالِي إِحْسَانه، وإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَرْفَق؛ لِأَنَّ النَّوْم بَعْد الْقِيَام يُرِيح الْبَدَن وَيُذْهِب ضَرَر السَّهَر، ودُبُول الجِسْم بِخِلَافِ السَّهَر، إِلَى الصَّبَاح، وفِيهِ مِنْ المَصْلَحَة أَيْضاً: اِسْتِقْبَال صَلَاة الصُّبْح وَأَذْكَار النَّهَار؛ بِنَشَاطٍ وإِقْبَال، وأَنَّهُ أَقْرَب إِلَى عَدَم الرِّيَاء، لِأَنَّ مَنْ نَامَ السُّدُس الْأَخِير، أَصْبَحَ ظَاهِر اللَّوْن، سَلِيم القُوَى، فَهُوَ أَقْرَب إِلَى أَنْ يُخْفِي عَمَله الْمَاضِي عَلَى مَنْ يَرَاهُ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ اِبْن دَقِيق العِيد». انتهى. وقال الإمامُ ابنُ القيم -رحمه الله-: «وهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ أَحَبّ إِلَى اللَّه؛ لِأَجْلِ هَذَا الوَصْف، وَهُوَ مَا يَتَخَلَّل الصِّيَام والقِيَام، مِنْ الرَّاحَة الَتِي تجمّ بها نَفْسه، ويَسْتَعِين بِهَا علَى القِيَام بِالحُقُوقِ». «تهذيب سنن أبي داود» (1 /475).

فوائد الحديث

  • الاقتداءُ بالأنبياءِ قبْلَ نبيِّنا مُحمَّدٍ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- في العِباداتِ، كما قال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90).
  • وفيه: الحَثُّ على قِيامِ اللَّيلِ، وصِيامِ التَّطوُّعِ.
  • وفيه: أنَّ صَومَ يَومٍ وفِطرَ يَومٍ أحَبُّ إلى اللهِ -تعالَى- مِن غَيرِه، وإنْ كان أكثَرَ منه.
  • وأنّ الإقبال على اللهِ -عزَّوجلَّ- بالعمَلِ الصالحِ، والاجتِهادِ في العِبادةِ باللَّيلِ والنَّهارِ، سَمْتُ الصالحينَ الأبرارِ، وقد وجَّهَ النبيُّ -[- أُمَّتَه لأخْذِ النَّفْسِ بما تُطيقُ، وكان أنبياءُ اللهِ همُ القُدوة في هذا الشَّأنِ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك