رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 9 سبتمبر، 2013 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 58 ) باب: أفضل الصلاة طول القنوت

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وبعد:

 فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

333.عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «طُولُ الْقُنُوتِ».

الشرح:

قال المنذري: باب: أفضل الصلاة طول القنوت

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة، وبوب عليه النووي: باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل...

     والمقصود هنا في الحديث بالقنوت: طول القراءة، وليس دعاء القنوت المشهور، قال الحافظ المناوي رحمه الله في شرح الحديث: قوله «‏أفضل الصلاة طول القنوت‏» أي أفضل الصلاة صلاة فيها طول القنوت‏:‏ أي القيام، أو المقصود: أفضل أحوال الصلاة طول القيام‏، لأنه محل القراءة المفروضة والمسنونة.

وللقنوت في اللغة أحد عشر معنى‏.‏

     قال النووي‏:‏ والمراد هنا: القيام، اتفاقاً، بدليل رواية أبي داود ‏: ‏أي الأعمال أفضل، قال: «طول القيام‏»‏، وأخذ به أبو حنيفة والشافعية ففضلا تطويل القيام على تطويل السجود، وعكس آخرون تمسكاً بخبر: «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد»، وتوسط قوم فقالوا بالأول ليلاً وبالثاني نهاراً‏.

‏      قال الزين العراقي ‏:‏ وهذا في نفل لا يشرع جماعة، وفي صلاة الفذ ‏.‏ أما إمام غير المحصورين فالمأمور بالنخفيف المشروع، لخبر: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف‏».انتهى

فالخلاف في التفضيل بين السجود والقيام على قولين:

الأول: أن القيام أفضل من الركوع والسجود. واستدلوا بقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين}.

وبقوله تعالى: {أمن هو قانت أناء الليل...} الآية.

وبحديث الباب.

والقول الثاني: أن كثرة السجود أفضل. واستدلوا بأدلة كثيرة، يأتي بسطها.

ويمكننا تقسيم حالات القيام مع الركوع والسجود إلى حالات أربع:

الحالة الأولى: تطويل القيام، وتقصير الركوع والسجود.

الحالة الثانية: تقصير القيام، وتطويل الركوع والسجود.

الحالة الثالثة: تطويل القيام، وتطويل الركوع والسجود.

الحالة الرابعة: تقصير القيام، وتقصيرالركوع والسجود.

     لكن في جميع الحالات السابقة جنس السجود مقدّم على القيام، وطول السجود أفضل من تقصيره، وقد صحّ أن سجود النبي صلى الله عليه وسلم كان قريبا من ركوعه وقيامه كما تقدم معنا.

ولشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (23) كلامُ جامع مفيد في تفضيل جنس السجود على غيره من أفعال الصلاة، فقال:

فصل: أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام؟

قال: تنازع الناس، أيما أفضل: كثرة الركوع والسجود، أو طول القيام، وقد ذكر عن أحمد في ذلك ثلاث روايات:

إحداهن: أن كثرة الركوع والسجود أفضل، وهي التي اختارها طائفة من أصحابه.

والثانية: أنهما سواء.

والثالثة: أن طول القيام أفضل، وهذا يحكي عن الشافعي.

فنقول: هذه المسألة لها صورتان:

     إحداهما: أن يطيل القيام، مع تخفيف الركوع والسجود، فيقال: أيما أفضل، هذا أم تكثير الركوع والسجود مع تخفيف القيام؟ ويكون هذا قد عدل بين القيام، وبين الركوع والسجود، فخفف الجميع.

     والصورة الثانية: أن يطيل القيام، فيطيل معه الركوع والسجود فيقال: أيما أفضل، هذا أم أن يكثر من الركوع والسجود والقيام؟ وهذا قد عدل بين القيام والركوع والسجود في النوعين، لكن أيما أفضل، تطويل الصلاة قيامًا وركوعًا وسجودًا، أم تكثير ذلك مع تخفيفها، فهذه الصورة ذكر أبو محمد وغيره فيها ثلاث روايات، وكلام غيره يقتضي أن النزاع في الصورة الأولى أيضًا.

والصواب في ذلك: أن الصورة الأولى: تقليل الصلاة مع كثرة الركوع والسجود، وتخفيف القيام أفضل من تطويل القيام وحده مع تخفيف الركوع والسجود.

     ومن فضل تطويل القيام احتجوا بالحديث الصحيح: أن رسول الله سئل: أي الصلاة أفضل؟ فقال: «طول القنوت». وظنوا أن المراد بطول القنوت طول القيام، وإنْ كان مع تخفيف الركوع والسجود؟! وليس كذلك.

     فإنّ القنوت هو دوام العبادة والطاعة، ويقال لمن أطال السجود: إنه قانت. قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، فجعله قانتًا في حال السجود، كما هو قانت في حال القيام، وقدم السجود على القيام.

وفي الآية الأخري قال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}، ولم يقل قنوتًا، فالقيام ذكره بلفظ القيام، لا بلفظ القنوت.

     وقال تعالى: {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}، فالقائم قد يكون قانتًا، وقد لا يكون، وكذلك الساجد. فالنبي بين أن طول القنوت أفضل الصلاة، وهو يتناول القنوت في حال السجود، وحال القيام. وهذا الحديث يدل على الصورة الثانية، وأن تطويل الصلاة قيامًا وركوعًا وسجودًا، أولى من تكثيرها قيامًا وركوعًا وسجودًا ؛ لأن طول القنوت يحصل بتطويلها لا بتكثيرها، وأما تفضيل طول القيام مع تخفيف الركوع والسجود، على تكثير الركوع والسجود فغلط، فإنّ جنس السجود أفضل من جنس القيام، من وجوه متعددة:

     أحدها: أن السجود بنفسه عبادة، لا يصلح أن يفعل إلا على وجه العبادة لله وحده، والقيام لا يكون عبادة إلا بالنية، فإن الإنسان يقوم في أمور دنياه، ولا ينهى عن ذلك.

     الثاني: أن الصلاة المفروضة لا بد فيها من السجود، وكذلك كل صلاة فيها ركوع لابد فيها من سجود، لا يسقط السجود فيها بحال من الأحوال، فهو عماد الصلاة، وأما القيام فيسقط في التطوع دائمًا، وفي الصلاة على الراحلة في السفر، وكذلك يسقط القيام في الفرض عن المريض، وكذلك عن المأموم إذا صلى إمامه جالسًا، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة.

     وسواء قيل: إنه عام للأمة، أو مخصوص بالرسول، فقد سقط القيام عن المأموم في بعض الأحوال، والسجود لا يسقط لا عن قائم ولا قاعد، والمريض إذا عجز من إيمائه أتي منه بقدر الممكن، وهو الإيماء برأسه، وهو سجود مثله، ولو عجز عن الإيماء برأسه، ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد:

أحدهما: أنه يومئ بطرفه، فجعلوا إيماءه بطرفه هو ركوعه وسجوده، فلم يسقطوه.

     والثاني: أنه تسقط الصلاة في هذه الحال، ولا تصح على هذا الوجه، وهو قول أبي حنيفة، وهذا القول أصح في الدليل ؛ لأن الإيماء بالعين ليس من أعمال الصلاة، ولا يتميز فيه الركوع عن السجود، ولا القيام عن القعود، بل هو من نوع العبث الذي لم يشرعه الله تعالى.

     وأما الإيماء بالرأس، فهو خفضه، وهذا بعض ما أمر به المصلي. وقد قال النبي في الحديث المتفق على صحته: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وهو لا يستطيع من السجود إلا هذا الإيماء، وأما تحريك العين فليس من السجود في شيء.

وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه لابد في الصلاة من السجود.

     الوجه الثالث: أن القيام إنما صار عبادة بالقراءة، أو بما فيه من ذكر ودعاء، كالقيام في الجنازة. فأما القيام المجرد، فلم يشرع قط عبادة مع إمكان الذكر فيه، بخلاف السجود فإنه مشروع بنفسه عبادة، حتى خارج الصلاة، شرع سجود التلاوة، والشكر، وغير ذلك.

 وإذا كان السجود عبادة بنفسه علم أنه أفضل من القيام.

     الوجه الرابع: أن يقال: القيام يمتاز بقراءة القرآن، فإنه قد نهى عن القراءة في الركوع والسجود، وقراءة القرآن أفضل من التسبيح، فمن هذا الوجه تميز القيام، وهو حجة من سوي بينهما، فقال: السجود بنفسه أفضل، وذكر القيام أفضل، فصار كل منهما أفضل من وجه، أو تعادلا.

     لكن يقال قراءة القرآن تسقط في مواضع، وتسقط عن المسبوق القراءة والقيام أيضا كما في حديث أبي بكرة. وفي السنن: «من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة» وهذا قول جماهير العلماء، والنزاع فيه شاذ.

     أيضًا: فالأمي تصح صلاته بلا قراءة باتفاق العلماء، كما في السنن أن رجلا قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزيني منه. فقال: «قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله». فقال: هذا لله، فما لي؟ قال: «تقول: اللهم اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واهدني».

الوجه الخامس: أنه قد ثبت في الصحيح: «إن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود». فتأكل القدم، وإنْ كان موضع القيام.

     الوجه السادس: أن الله تعالى قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: «إنه إذا تجلى لهم يوم القيامة سجد له المؤمنون، ومن كان يسجد في الدنيا رياء يصير ظهره مثل الطبق».

فقد أمروا بالسجود في عرصات القيامة، دون غيره من أجزاء الصلاة، فعلم أنه أفضل من غيره.

     الوجه السابع: أنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا طلب منه الناس الشفاعة يوم القيامة قال: «فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن»، فهو إذا رآه سجد وحمد، وحينئذ يقال له: «أي محمد، ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع». فعلم أنه أفضل من غيره.

     الوجه الثامن: أن الله تعالى قال: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، وهذا نصٌ في أنه في حال السجود أقرب إلى الله منه في غيره، وهذا صريح في فضيلة السجود على غيره.

     الوجه التاسع: ما رواه مسلم في صحيحه: عن مَعْدان بن أبي طلحة قال: لقيت ثوبان مولي رسول الله فقلت: أخبرني بعمل يدخلني الله به الجنة، أو قال: بأحب الأعمال إلى الله، فسكت. ثم سألته الثانية، فقال: سألت عن ذلك رسول الله فقال: «عليك بكثرة السُجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدةً، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة»، قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء، فسألته. فقال لي مثلما قال لي ثوبان.

     فإنْ كان سأله عن أحب الأعمال، فهو صريحٌ في أن السجود أحب إلى الله من غيره، وإنْ كان سأله عما يدخله الله به الجنة، فقد دله على السجود دون القيام، فدل على أنه أقرب إلى حصول المقصود.

     وهذا الحديث يحتج به من يرى: أن كثرة السجود أفضل من تطويله، لقوله: «فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة»، ولا حجة فيه ؛ لأنّ كل سجدة يستحق بها ذلك، لكن السجدة أنواع. فإذا كانت إحدي السجدتين أفضل من الأخرى، كان ما يرفع به من الدرجة أعظم، وما يحط به عنه من الخطايا أعظم. كما أنّ السجدة التي يكون فيها أعظم خشوعًا وحضورًا، هي أفضل من غيرها، فكذلك السجدة الطويلة التي قنت فيها لربه هي أفضل من القصيرة.

     الوجه العاشر: ما روي مسلم أيضا: عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: كنت أبيتُ مع رسول الله فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سلْ»، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: «أو غير ذلك؟» فقلت: هو ذاك، قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السجود».

     فهذا قد سأل عن مرتبة عليّة، وإنما طلب منه كثرة السجود. وهذا أدل على أن كثرة السجود أفضل. لكن يقال: المكثر من السجود قد يكثر من سجود طويل، وقد يكثر من سجود قصير، وذاك أفضل.

     الوجه الحادي عشر: أن مواضع الساجد تسمي مساجد، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله}، وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، ولا تسمي مقامات إلا بعد فعل السجود فيها.

فَعُلِم أن أعظم أفعال الصلاة هو السجود، الذي عبر عن مواضع السجود بأنها مواضع فعله.

     الوجه الثاني عشر: أنه تعالى قال: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. وهذا وإن تناول سجود التلاوة، فتناوله لسجود الصلاة أعظم، فإن احتياج الإنسان إلى هذا السجود أعظم على كل حال، فقد جعل الخرور إلى السجود، مما لا يحصل الإيمان إلا به، وخصّه بالذكر، وهذا مما تميز به. وكذلك أخبر عن أنبيائه أنهم: {إِذَا تُتْلَى عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}، وقال في تلك الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}.

     والدعاء في السجود أفضل من غيره، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، مثل قوله في حديث أبي هريرة: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء».

     ومثل ما روي مسلم في صحيحه: عن ابن عباس قال: كشف رسول الله الستارة، والناس صفوف خلف أبي بكر. فقال: «أيها الناس، إنّه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرى له، ألا وإني نُهيت أنْ أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع، فعظّموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم».

     وقد ثبت عن النبي الدعاء في السجود في عدة أحاديث، وفي غير حديث تبين أن ذلك في صلاته بالليل، فعلم أن قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}، وإن كان يتناول الدعاء في جميع أحوال الصلاة، فالسجود له مزية على غيره.

كما لآخر الصلاة مزيةٌ على غيرها ؛ ولهذا جاء في السنن: « أفضل الدعاء: جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات».

     قال: فهذه الوجوه وغيرها، مما يُبين أن جنس السجود أفضل من جنس القيام والقراءة، ولو أمكن أن يكون أطول من القيام، لكان ذلك أفضل، لكن هذا يشق مشقة عظيمة، فلهذا خفّف السجود عن القيام، مع أنّ السنة تطويله إذا طول القيام، كما كان النبي يصلي، فروي: أنه كان يخفف القيام والقعود، ويطيل الركوع والسجود.

ولما أطال القيام في صلاة الكسوف، أطال الركوع والسجود.

وكذلك في حديث حذيفة الصحيح: أنه لما قرأ بالبقرة والنساء وآل عمران، قال: ركع نحوا من قيامه، وسجد نحوًا من ركوعه.

     وفي حديث البراء الصحيح: أنه قال: كان قيامه فركعته فاعتداله فسجدته فجلوسه بين السجدتين فجلسته ما بين السلام والانصراف قريبًا من السواء. وفي رواية: ما خلا القيام والقعود.

وثبت في الصحيح عن عائشة: أنه كان يسجد السجدة بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية.

     فهذه الأحاديث تدل على أن تطويل الصلاة قيامها وركوعها وسجودها، أفضل من تكثير ذلك مع تخفيفه، وهو القول الثالث في الصورة الثانية، ومن سوي بينهما قال: إن الأحاديث تعارضت في ذلك، وليس كذلك! فإن قوله: «أفضل الصلاة طول القنوت»، يتناول التطويل في القيام والسجود.

     وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه: عن عمار عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة»، وقال: «من أمَّ الناس فليخفف، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء». وأحاديث تفضيل السجود قد بينا أنها لا تنافي ذلك.

ومعلوم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد.

     وأيضًا: فإنه لما صلى الكسوف كان يمكنه أن يصلي عشر ركعات، أو عشرين ركعة يكثر فيها قيامها وسجودها، فلم يفعل، بل صلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، وجعل في كل ركعة قيامين وركوعين. وعلى هذا، فكثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام الذي ليس فيه تطويل الركوع والسجود.

     وأما إذا أطال القيام والركوع والسجود، فهذا أفضل من إطالة القيام فقط، وأفضل من تكثير الركوع والسجود والقيام بقدر ذلك. والكلام إنما هو في الوقت الواحد: كثلث الليل، أو نصفه، أو سدسه أو الساعة. هل هذا أفضل من هذا، أو هذا أفضل من هذا.

انتهى المراد منه باختصار.

ومما يجب أن يعلم: أن القيام الذي اتصف الشخص فيه بالخشوع أفضل من السجود بغير خشوع.

     وذهب بعضهم إلى أن المراد بالقنوت في الحديث: الخشوع، فيكون معنى الحديث: أفضل الصلاة أكثرها خشوعاً‏.‏ وقالوا: ولو كان المراد القيام، لاستحال قوله ‏{قوموا للّه قانتين} البقرة. ألا ترى أنه أمر بالقيام ثم القنوت، فالقنوت صفة تحدث عند القيام.

 والله أعلم

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك