رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 4 نوفمبر، 2013 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 64 )باب : التغليظ في المرور بين يدي المصلي


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

340.عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ : أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ رضي الله عنه أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ : مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي؟ قَالَ أَبُو جُهَيْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ، خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ»، قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لَا أَدْرِي، قَالَ: «أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً».

     الشرح: قال المنذري: باب: التغليظ في المرور بين يدي المصلي. والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/363) وبوب عليه النووي: باب منع المار بين يدي المصلي.

والحديث رواه البخاري في الصلاة (510) باب: إثم المار بين يدي المصلي. فهو من المتفق عليه.

     بسر بن سعيد، وهو المدني العابد، تابعي ثقة جليل. زيد بن خالد الْجُهنيَّ، صحابي مشهور، مات بالمدينة، وقيل: بالكوفة، سنة ثمان وستين أو سبعين، وله خمس وثمانون سنة.

أبو جهيم هو ابن الصمة الأنصاري، قيل: اسمه عبدالله، صحابي معروف، بقي إلى خلافة معاوية رضي الله عنه.

     قوله: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ» وزاد في رواية: «مِنْ الإِثْمِ»، وهذا يدل على عِظم إثم المار بين يدي المصلِّي، لكونه نكره ولم يذكر مقداره.

وليس من شرط الثواب أو العقاب أن يُعلم قَدره، بل قد يُخفى ليكون أوقع في النفوس.

     قال النووي: معناه لو يعلم ما عليه من الإثم لاختار الوقوف أربعين على ارتكاب ذلك الإثم، ومعنى الحديث النهي الأكيد ، والوعيد الشديد في ذلك. اهـ .  قوله: «بين يدي المصلي»، أي: أمامه بالقرب منه، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما، واختلف في تحديد ذلك فقيل: إذا مرّ بينه وبين مقدار سجوده، وقيل : بينه وبينها قدر ثلاثة أذرع.

     قال النووي: يعني بالمصلي موضع السجود، وفيه: أنّ السُنة قرب المصلى من سترته. وهذا يدل على أنه لا يضر المصلي مَن يَمُرّ بعد سترته، ولا من يَمُرّ بعيدا عن مُصَلاّه، ومكان سجوده.

     قوله: «ماذا عليه» زاد الكشميهني –أحد رواة صحيح البخاري- «من الإثم»، وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات عند غيره، والحديث في الموطأ بدونها. وقال  ابن عبد البر: لم يختلف على مالك  في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة، وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقا.

     لكن في مصنف ابن أبي شيبة   يعني من الإثم»، فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية، فظنها الكشميهني  أصلاً; لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ، بل كان راوية. وأنكر ابن الصلاح  في «مشكل الوسيط» على من أثبتها في الخبر، فقال: لفظ الإثم ليس في الحديث صريحا. ولما ذكره النووي  في «شرح المهذب دونها»، قال: وفي رواية رويناها في الأربعين لعبد القادر الهروي  «ماذا عليه من الإثم» (انظر الفتح 1/585).

     قوله: «لكان أنْ يقف أربعين»، يعني: أنّ المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي، لاختار أنْ يقف المدة المذكورة، حتى لا يلحقه ذلك الإثم.

 وقال الكرماني : جواب «لو» ليس هو المذكور، بل التقدير: لو يعلم ما عليه، لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيراً له.

قال الحافظ : وليس ما قاله متعينا، قال: وأبهم المعدود تفخيما للأمر وتعظيما.

     قلت: ظاهر السياق أنه عيّن المعدود، ولكن شك الراوي فيه، ثم أبدى الكرماني لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين: إحداهما: كون الأربعة أصلٌ جميع الأعداد، فلما أُريد التكثير ، ضربت في عشرة.

ثانيتهما: كون كمال أطوار الإنسان بأربعين، كالنطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الأشد. ويحتمل غير ذلك.اهـ .

     وفي ابن ماجة ( 946 ) وابن حبان (2365): من حديث  أبي هريرة: «لكان أنْ يقف مائة عامٍ، خيراً له من الخطوة التي خطاها». وهذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين.

     وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة، وقع بعد التقييد بالأربعين، زيادة في تعظيم الأمر على المار; لأنهما لم يقعا معا؛ إذ المائة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أنْ يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر . انتهى  (الفتح) .

قلت: والحديث الذي ذكره «أنْ يقف مائة عام...» حديثٌ ضعيف، فيه ضعيف ومجهول، ورواه أحمد (2/371).

     قوله : «خيراً له» كذا في رواية الصحيح بالنصب، على أنه خبر كان، ولبعضهم «خير» بالرفع، وهي رواية الترمذي، وأعربها  ابن العربي  على أنها اسم كان، وأشار إلى تسويغ الابتداء بالنكرة، لكونها موصوفة، ويحتمل أنْ يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها.

قال النووي: فيه دليلٌ على تحريم المرور، فإنّ معنى الحديث: النهي الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك. انتهى.

قال الحافظ : ومقتضى ذلك: أنْ يُعد في الكبائر. وفي الحديث: أخذ القرين عن قرينه ما فاته، من سماع الحديث وغيره، أو استثباته فيما سمع معه.

     وفيه: الاعتماد على خبر الواحد; لأن زيداً اقتصر على النزول، مع القدرة على العلو، اكتفاء برسوله المذكور.  وفيه: استعمال «لو» في باب الوعيد، ولا يدخل ذلك في النهي عن استعمال لو؛ لأنّ محل النهي أن يشعر بما يعاند المقدور.

     قال الحافظ: (تنبيهات): أحدها: استنبط ابن بطال من قوله: «لو يعلم» أنّ الإثم يختص بمن يعلم بالنهي وارتكبه. انتهى.  وأخذه من ذلك فيه بُعد، لكن هو معروف من أدلة أخرى.

     ثانيها: ظاهر الحديث أنّ الوعيد المذكور يختص بمن مرّ، لا بمن وقف عامداً مثلا بين يدي المصلي، أو قعد أو رقد، لكنْ إنْ كانت العلة فيه التشويش على المصلي، فهو في معنى المار .

     ثالثها : ظاهره عموم النهي في كل مصلّ، وخصّه بعض المالكية بالإمام والمنفرد; لأنّ المأموم لا يضره منْ مرّ بين يديه; لأنّ سترة إمامه سترةٌ له، أو إمامه سترةٌ له. ا هـ .

والتعليل المذكور لا يُطابق المدعَى; لأنّ السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي، لا عن المار، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك .

     رابعها: ذكر ابن دقيق العيد: أن بعض الفقهاء - أي المالكية - قسم أحوال المار والمصلي في الإثم وعدمه، إلى أربعة أقسام: يأثم المار دون المصلي، وعكسه يأثمان جميعا، وعكسه.

فالصورة الأولى: أن يصلي إلى سترة في غير مشرع، وللمار مندوحة، فيأثم المار دون المصلي.

الثانية: أنْ يُصلي في مشرع مسلوك بغير سترة، أو متباعد عن السترة، ولا يجد المار مندوحة، فيأثم المصلي دون المار.

الثالثة: مثل الثانية، لكن يجد المار مندوحة ، فيأثمان جميعا.

الرابعة: مثل الأولى، لكن لم يجد المار مندوحة، فلا يأثمان جميعا. انتهى.

وظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقا، ولو لم يجدْ مسلكاً، بل يجب عليه أن يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته.

ويؤيده ما جاء في قصة أبي سعيد رضي الله عنه في البخاري ومسلم: فإن فيها «فنظر الشاب فلم يجدْ مساغا»، وسيأتي الكلام عليه.

والسنة النبوية: أن يُصلي المصلِّي إلى شيء يستره من الناس، ولاسيما في الأماكن التي يمر فيها الناس، وأن لا يُعرِّض نفسه ولا غيره للإثم.

قال الإمام البخاري: باب الصلاة إلى الأسطوانة.

وقال عمر: الْمُصَلُّون أحقّ بالسواري من المتحدثين إليها. ورأى عمر رجلا يُصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صَلّ إليها .

     ثم روى بإسناده: إلى يزيد بن أبي عبيد قال: كنتُ آتي مع سلمة بن الأكوع فيُصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرّى الصلاة عندها.

وروى: عن أنس رضي الله عنه أنه قال: لقد رأيتُ كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب.

     وهذا الحديث رواه مسلم أيضا، ولفظه عنده: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري فيركعون ركعتين ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صُلِّيَتْ من كثرة من يصليهما.

وهذا يدلّ على حرصهم رضي الله عنهم على السُنة، وعلى الصلاة إلى سُترة ما أمكن.

     مسألة: استثنى جماعةٌ منْ أهل العلم المسجد الحرام من ذلك، فرخّصوا للناس المرور فيه بين يدي المصلي، وذهبوا إلى أن مرور المرأة وغيرها بين يدي المصلي، لا يقطع صلاته.

     قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في «المغني» (2/40): «ولا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة»، وروي ذلك عن ابن الزبير وعطاء ومجاهد. قال الأثرم: قيل لأحمد: الرجل يصلي بمكة، ولا يستتر بشيء؟ فقال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه صلى ثم ليس بينه وبين الطُّوَّاف سترة. قال أحمد: لأن مكة ليست كغيرها، كأنّ مكة مخصوصة.

     وقال ابن أبي عمار: رأيتُ ابن الزبير جاء يصلي، والطُّوَّاف بينه وبين القبلة، تمرّ المرأة بين يديه، فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها. رواه حنبل في كتاب «المناسك».

     وقال المعتمر: قلت لطاووس: الرجل يصلي - يعني بمكة - فيمر بين يديه الرجل والمرأة؟ فإذا هو يرى أنّ لهذا البلد حالاً، ليس لغيره من البلدان؛ وذلك لأن الناس يكثرون بمكة لأجل قضاء نسكهم، ويزدحمون فيها، فلو مَنَع المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس. «انتهى باختصار ».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك