رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 11 فبراير، 2014 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 76 )باب: القُــــنـــوت في صـــــــلاة الصُـــــبح



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وبعد:

 فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

358.عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه  قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ، حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}(آل عمران: 128).

الشرح: قال المنذري: باب: القُنوت في صلاة الصُبح. والحديث أخرجه مسلم في المساجد (1/466-467) وبوب عليه النووي: باب استحباب القنوت في جميع الصلوات، إذا نزلت بالمسلمين نازلة.

والحديث أخرجه البخاري في الاستسقاء (1/1007) باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : «اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وأبواب كثيرة غيره. قوله: كَان رسولُ اللَّهصلى الله عليه وسلم  يَقُولُ حينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْر مِنْ الْقِرَاءة فيه القنوت في صلاة الفجر للنازلة.

والنازلة: «هي الشديدة من شدائد الدهر» كما في كشاف القناع (1/421). قوله: ثُمَّ يقولُ وهو قَائمٌ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوليدَ بن الْوليد، وسلَمةَ بن هشامٍ، وعيَّاشَ بن أَبي ربيعَةَ فيه: جواز القنوت والدعاء لأشخاص بأسمائهم في الصلاة، وهي قولٌ للإمام أحمد وغيره واختاره ابن المنذر. (المغني 2/238).

والوليد وسلمة وعياش رضي الله عنهم، حبسهم المشركون في مكة لما أسلموا، ومنعوهم من الهجرة، وقد تواعدوا جميعاً للهروب من المشركين، فدعا لهم النبيصلى الله عليه وسلم .

     والمراد «بالمستضعفين من المؤمنين» هم ضعفاء المؤمنين بمكة وغيرها، الذين حبسهم الكفار عن الهجرة، وآذوهم وعذبوهم. قوله: «اللهم اشددْ وطأتك على مُضر» أصل الوَطأة: الدَّوس بالقَدم، ومَنْ وطأ الشيء برجله بشدة، فقد استقصى في إهلاكه وإهانته، فيكون المعنى: اجعل بأسك وعذابك الشديد عليهم.

     قوله: «اللهم اجْعلها عليهم سَنين كسني يوسف» الضمير في اجعلها يعود على المدة التي تقع فيها الشدّة، وهي المشار إليها في قوله تعالى من سورة يوسف: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ} (يوسف: 48). فأتت عليهم سبعة أعوام، عمّهم فيها القحط، ونقص الطعام، فيكون المعنى هنا: هو الدعاء عليه بالقحط العظيم والجوع. قوله: ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} (آل عمران: 128). قال ابن جرير رحمه الله: وتأويل قوله: «ليس لك من الأمر شيء» ليس إليك يا محمد، مِن أمر خَلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري، وتنتهي فيهم إلى طاعتي، وإنما أمرهم إليّ، والقضاء فيهم بيدي دون غيري، أقضى فيهم وأحكمُ بالذي أشاء، من التوبة على من كفر بي، وعصاني وخالف أمري، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة، وإما في آجل الآخرة بما أعدّدت لأهل الكفر بي.ومن الأحاديث في الباب: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه  قال: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم  على الذين قَتَلوا أصحابَ بئر معونة ثلاثين غداة، على رِعل وذكوان وعُصية، عصت الله ورسوله»، قال أنس: أنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنٌ قرأناه، ثم نسخ بعد «بلّغُوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه». رواه البخاري.

وعن أنس قال: قنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم  شهراً حين قُتل القراء، فما رأيت رسول الله حَزن حُزنا قط، أشدّ منه. رواه البخاري. وفي هذا الحديث وغيره من الأحكام:

1- مشروعية القنوت وهو الدعاء برفع اليدين بعد الركوع في صلاة الجماعة في النازلة. وسيأتي أن قنوته صلى الله عليه وسلم  كان في الصلوات كلها، كما في الأحاديث الصحيحة، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وابن المبارك, وسفيان الثوري, وأحمد وإسحاق.

وذهب الشافعي إلى القنوت في الفجر دائما سنّة؟!

     وهذا لم يثبت به الدليل! فحديث أنس: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا. رواه أحمد (3/162) وفيه: أبوجعفر الرازي، سيء الحفظ، فالحديث ضعيف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «القنوت مسنونٌ عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث، وهو المأثورعن الخلفاء الراشدين». (مجموع الفتاوى 23/ 108).

وقال: «.. فيشرع أنْ يقنتَ عند النوازل، يدعو للمؤمنين، ويدعو على الكفار، في الفجر وغيرها من الصلوات، وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصارى، بدعائه الذي فيه: اللهم العنْ كفرةَ أهل الكتاب» (مجموع الفتاوى 22/270).

وقال أيضاً: «وأكثر قنوته، يعني النبي صلى الله عليه وسلم  كان في الفجر». (مجموع الفتاوى 22/269).

وقال ابن القيم: «وكان هديه صلى الله عليه وسلم  القنوت في النوازل خاصة، وترْكَه عند عدمها، ولم يكن يخصّه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها». (زاد المعاد 1/273).

     والنبي صلى الله عليه وسلم  قنت في النوازل في الصلوات الخمس كلها، فقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم منها: الفجر والظهر والمغرب والعشاء، أما العصر، فقد ثبت عند أحمد وأبي داود بسند جيد. وأكثر ما رواه الصحابة في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم  في هذه الأحاديث كان في الفجر، ثم المغرب والعشاء، ثم الظهر، ثم العصر.

2- وأن قنوت النوازل إنما يكون في الركعة الأخيرة، وأنّ محله بعد الرفع من الركوع، وقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد.

3- والمشروع أن يكون القنوت يسيراً، فيبتعد الإمام عن الإطالة، لحديث أَنَسٍ رضي الله عنه لما سئل: هل قَنَتَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم  في صَلَاةِ الصُّبْحِ ؟ قَالَ: «نَعَمْ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا» أخرجه مسلم.

ومن نظر في الأحاديث السابقة، يجد أن قنوت النبي صلى الله عليه وسلم  كان جُمَلاً قليلة، والسعيد منْ وُفق للعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم .

4 - الاقتصار في الدعاء على النازلة، فلا يزيد في قنوته أدعية أخرى، وإنما يقتصر على النازلة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .

والذي يظهر من الأدلة السابقة وغيرها، أّن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يكرر الدعاء نفسه في قنوته حينما قنت شهراً، وربما كان بينها اختلاف يسير.

5- قنوت النوازل ليس له صيغةٌ معينة، وإنما يدعو في كل نازلةٍ بما يُناسب تلك النازلة. أما الدعاء الذي علّمه النبي صلى الله عليه وسلم  للحسن رضي الله عنه: «اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت..إلخ» فإنما هو في قنوت الوتر، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا به في قنوت النوازل؟!

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فالسُنة أنْ يقنت عند النازلة، ويدعو فيها بما يناسب القوم المحاربين». (مجموع الفتاوى 21/155). وقال أيضاً: «وينبغي للقانت أنْ يدعو عند كل نازلة، بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سمّى مَنْ يدعو لهم من المؤمنين، ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين، كان ذلك حسناً».(مجموع الفتاوى 22/271).

وقال أيضاً: «عمر رضي الله عنه قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة، ودعا في قنوته دعاءً يُناسب تلك النازلة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم  لما قنت أولاً على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء، دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده، ثم لما قنتَ يدعو للمستضعفين من أصحابه صلى الله عليه وسلم ، دعا بدعاء يناسب مقصوده، فسُنة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وخلفائه الراشدين تدل على شيئين:

أحدهما: أن دعاء القنوت مشروعٌ عند السبب الذي يقتضيه، ليس بسنةٍ دائمة في الصلاة.

الثاني: أنّ الدعاء فيه ليس دعاء راتباً، بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم  أولاً وثانياً، وكما دعا عمر رضي الله عنه لما حارب منْ حاربه في الفتنة، فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده». انتهى (مجموع الفتاوى 23/109).

     وللإمام أنْ يدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بما يناسب نوازل المسلمين، كأن يقول في مثل مصابنا هذه الأيام: «اللهم أنج إخواننا المسلمين في الشام، اللهم انصرهم، اللهم اشدد وطأتك على طغاة النصيرية ومن شايعهم وأعانهم، اللهم العنهم، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، وهذا اقتباسٌ حسن؛ لأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم  أفضل وأحسن وأجمع ما يُدعى به الله تعالى.

6- القنوت مشروعٌ عند وجود سببه - وهو النازلة بالمسلمين - فإذا زال السبب تُرك القنوت، أما قنوت النبي صلى الله عليه وسلم  شهراً، فليس مقصوداً منه تحديد المدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم  إنما ترك القنوت لما زال سببه، وذلك بقدوم منْ قنتَ لهم، كما دلّ على ذلك حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم  قَنَتَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ فِي صَلَاةٍ شَهْرًا.. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم  تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ، فَقُلْتُ: أُرَى رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم  قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ! قَالَ فَقِيلَ: وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا». أخرجه مسلم.

     وروى أحمد: عن عبدالله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان يدعو على أربعة، قال: فأنزل الله {ليسَ لكَ من الأمر شيءٌ} إلى آخر الآية، قال: وهداهم الله للإسلام. قال ابن القيم: «إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قَدم منْ دعا لهم، وتخلّصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت». (زاد المعاد 1/272).

7- يسنُّ جهر الإمام في القنوت للنازلة، كما في حديث أَبِي هريرةَ رضي الله عنه : «أَنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  كَان إِذا أَرادَ أَنْ يَدْعُوَ علَى أَحَدٍ، أَو يَدْعُوَ لأحَدٍ قَنَتَ بعد الرُّكُوعِ.. اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ.. يَجْهَرُ بِذَلِكَ». أخرجه البخاري.

قال النووي: «وحديث قنوت النبي صلى الله عليه وسلم  حين قُتل القراء رضي الله عنهم، يقتضي أنه كان يجهر به في جميع الصلوات، هذا كلام الرافعي. والصحيح أو الصواب: استحباب الجهر». (المجموع 3/482).

     وقال ابن حجر: «وظهر لي أنّ الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود، مع أن السجود مظنة الإجابة كما ثبت» أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد «وثبوت الأمر بالدعاء فيه: أنّ المطلوب من قنوت النازلة أنْ يشارك المأموم الإمام في الدعاء، ولو بالتأمين، ومن ثمَّ اتفقوا على أنه يجهر به» (فتح الباري 2/570).

8- يسن تأمين المأموم على دعاء الإمام في قنوت النازلة، لحديث ابن عباس رضي الله عنه  في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه: «.. يَدْعُو علَى أَحْيَاءٍ مِنْ بني سُلَيْمٍ، علَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، ويُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ» أخرجه أحمد، و أبو داود بإسناد جيد.

9- يسن رفع اليدين في دعاء قنوت النازلة، لحديث أنس رضي الله عنه  قال: «.. فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم  وَجَدَ عَلَى شَيءٍ قَطُّ، وَجْدَهُ عَلَيْهِمْ يعني القرَّاء فَلقَد رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم  في صلَاةِ الْغَدَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا علَيهم». أخرجه أحمد بإسناد صحيح. وعن أبي رافع قال: «صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه  فقنت بعد الركوع، ورفع يديه، وجهر بالدعاء». أخرجه البيهقي وقال «هذا عن عمر صحيح» (سنن البيهقي 2/212).

     قال النووي: «وعن أبي عثمان قال: كان عمر رضي الله عنه  يرفع يديه في القنوت. وعن الأسود أن ابن مسعود رضي الله عنه  كان يرفع يديه في القنوت.. رواها البخاري في كتاب» رفع اليدين». بأسانيد صحيحة، ثم قال في آخرها: هذه الأحاديث صحيحة عن رسول الله[ وأصحابه «(المجموع 3/490).

تنبيهات:

- أولاً: لا يشرع مسح الوجه بعد دعاء القنوت، فما ورد في المسح ضعيف لا يحتج به. قال البيهقي رحمه الله: «فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء، فلست أحفظه عن أحدٍ من السلف في دعاء القنوت، وإنْ كان يُروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة، وقد رُوي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم  حديثٌ فيه ضعفٌ، وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة، وأما في الصلاة فهو عملٌ لم يثبت بخبرٍ صحيح، ولا أثر ثابت، ولا قياس، فالأولى أنْ لا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين، دون مسحهما بالوجه في الصلاة، وبالله التوفيق». (سنن البيهقي 2/212).

وبين النووي رحمه الله ضعف ما ورد في مسح الوجه بعد الدعاء في الصلاة. وقال: «وله يعني البيهقي رسالة مشهورة كتبها إلى الشيخ أبي محمد الجويني أنكر عليه فيها أشياء، من جملتها مسحه وجهه بعد القنوت» (المجموع 3/480).

وقال ابن تيمية: «وأما مسحُ وجهه بيديه، فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان، لا يقوم بهما حجة» (مجموع الفتاوى 22/519).

- ثانياً: الذي ثبت في الأحاديث: هو القنوت في الصلوات الخمس في الجماعة.

     أما القنوت في صلاة الجمعة، أو النوافل، أو للمنفرد فلم يثبت القنوت فيها للنازلة في حديثٍ أو أثر صريح. وقد بوّب عبد الرزاق في مصنفه (3/194): «باب القنوت يوم الجمعة»، وكذا ابن أبي شيبة في مصنفه (2/46) وابن المنذر في الأوسط (4/122) وذكروا آثاراً عن بعض الصحابة والتابعين، عامتها في ترك القنوت وذمّه في الجمعة عموما.

     وقال المرداوي: «وعنه يقنت في جميع الصلوات المكتوبات خلا الجمعة، وهو الصحيح من المذهب، نص عليه، اختاره المجد في شرحه، وابن عبدوس في تذكرته، والشيخ تقي الدين، وجزم به في الوجيز، وقدمه في الفروع، وقيل: يقنت في الجمعة أيضاً. اختاره القاضي، لكن المنصوص خلافه» (الإنصاف 2/175).

واختار ابن تيمية مشروعية القنوت للمنفرد (انظر الإنصاف 2/175). والله أعلم.

- ثالثاً: قال ابن تيمية: «ينبغي للمأموم أن يتابع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد؛ فإذا قنتَ، قنت معه، وإنْ ترك القنوت لم يقنت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم  قال «إنما جُعل الإمام ليؤتم به» وقال: «لا تختلفوا على أئمتكم» وثبتَ عنه في الصحيح أنه قال: «يُصلّون لكم، فإنْ أصابوا فلكم ولهم، وإنْ أخطؤوا فلكم وعليهم» (مجموع الفتاوى: 23/115ـ116).

- رابعاً: قال فقهاء الحنابلة: إنّ القنوت للإمام الأعظم فقط، أما غيره من الناس فلا يقنتون إلا بإذنه، قالوا: لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم  هو الذي قنت حين قُتل القرَّاء، ولم يأمر أحداً بالقنوت في مساجد المدينة، ولا علمنا أنّ أحداً من مساجد المدينة قنت، فالقنوت لولي الأمر الذي له السلطة على كل المسلمين. انظر فتاوى لقاء الباب المفتوح (226/17) للشيخ ابن عثيمين.

     وقال العلامة صالح الفوزان حفظه الله: أما القنوت في الفريضة، فهذا لا بد من الرجوع فيه إلى أهل العلم وأهل الفتوى؛ لأنهم هم الذين يُقدّرون النوازل التي يُشرع من أجلها القنوت، والنوازل التي لا يقنت فيها، والصلاة كما تعلمون عبادة، لا يجوز أن يضاف إليها شيء ويدخل فيها شيء،إلا عن طريق أهل العلم الراسخين في العلم، الذين يقدّرون الحوادث والنوازل التي تستدعي القنوت في الفرائض، وليس هذا مفتوحاً لكل أحد يتلاعب في الصلاة ويزيد فيها، وقد يدعو في حالة لا تستدعي القنوت، وقد يدعو لأناسٍ لا يستحقون الدعاء بما عندهم من المخالفات العظيمة، فالذي يُقدر هذا هو أهل العلم، والمرجع في هذا أهل العلم، ويكون بأمر ولي الأمر بعد فتوى العلماء. (شريط: فتاوى العلماء في الجهاد).

- خامسا: هذه الأحاديث الصحيحة توضح لنا سنةً من سنن النبي صلى الله عليه وسلم  في الأزمات والملمات، وعند حلول الكوارث التي تنزل بالأمة المسلمة، في أي مكانٍ وزمان، وهي في نفس الوقت مظهر من مظاهر العبودية لله عز وجل، والتعلق به سبحانه وتعالى، والتضرع إليه، والرغبة فيما عنده، واليقين بأنه هو النافع الضار وحده سبحانه، وأنّ النصر بيده، فإنه مالك الملك، وبيده الأمر كله، وأنهم يأوون إلى رُكن شديدٍ، وأنّ لهم إلها قادرٌا حكيما عليما، لا يهزم جنده، ولا يخلف وعده، وإذا قال للشيء كن فيكون، وغيرها من العبادات القلبية، والمعاني العظيمة، والأصول المتينة في هذه السُنة المباركة، والمُؤثرة في نفوس أفراد الأمة الإسلامية وجماعتها، التي تربي فيهم العديد من القيم والأسس والمعاني الجليلة.

     ولاسيما ونحن في هذه الأيام، نقف على حرب ضروس، وهجمة شرسة على الإسلام والمسلمين في كل مكان، فجديرٌ بأمتنا أنْ تلتفت لهذه السنة النبوية المباركة، التي تربى عليها الجيل الأول من هذه الأمة، يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم  يقنت بأصحابه، في غير ما نازلةٍ حلّت بهم في زمنهم، كما بينتها النصوص المتقدمة، حتى ينجي الله -عز وجل- المسلمين من الشرور والفتن، ويكتب لهم الفرج العاجل، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(يوسف: 21).

- سادساً: في سُنة القنوت تتضح لُحمة الأمة الإسلامية، وأنها جسد واحد، وأمة واحدة، فهي تطبيقٌ عملي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : «مثلُ المؤمنينَ في تَوادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجَسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تَداعَى له سائرُ الجسدِ بالسّهر والحمّى».

فما تحلُّ بالمسلمين نازلة أو كارثة أو حرب، في مشارق الأرض ومغاربها، إلا ونسمع الدعوات هنا وهناك من هذه الأمة العريقة، ونجد الجميع يرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى ليكشفها الله عنهم، ويحفظ المسلمين منها؛ مما يجسد روح الأخوة الإسلامية بأجمل صورها.

- سابعا: كذلك نجد أن هذا التشريع الإلهي (قنوت النوازل) يحثُّ المسلمين جميعاً على الاهتمام بقضايا الأمة، وتفقد أحوالها، وينهاهم عن التفرق والأنانية، ولاسيما عند الأزمات؛ حيث يكون المسلم أحوج ما يكون إلى أخيه المسلم، ولو بالدعاء، فبقنوت النوازل، تتحقق كل هذه المطالب العالية.

فقنوت النوازل توحيد للكلمة، وجمع للرأي الإسلامي العام، ولاسيما أن هذه السنة النبوية مرتبطة بالفريضة التي يجتمع فيها المسلمون كل يوم وليلة؛ حيث لا نزاع ولا افتراق فيها، بل الكل في تيار واحد ضد النازلة.

- ثامناً: قنوت النوازل نوع من أنواع إرهاب العدو في الحروب، فعندما يشعر العدو أو يسمع عن هذا التلاحم في الدعاء، وهذا التوافق المطبق من كل من ينتمي للإسلام في كل بقاع العالم، وأن الكل يبتهل إلى الله أن يخزي العدو، ويدحر الظالمين، فلاشك أن ذلك سيؤثر على نفسيات العدو، وإنْ كانوا كفارا، والدعاء سلاح المؤمن يشهره في وجه كل ظالم وباغٍ معتدٍ.

وبالجملة: فإن هذه السنة العظيمة إذا أداها المسلمون بصدقٍ وإخلاص، فإنها بإذن الله تحقق الأمل المنشود بنصر الإسلام والمسلمين، وهزيمة الكافرين والظالمين، وتكون سبباً لرفع البلاء، ودرء المحن عن أمة الإسلام، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، يا أرحم الراحمين، والله أعلى وأعلم.

155- باب: القنوت في الظهر وغيرها

359.عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه  يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الظُّهْرِ، وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ.

الشرح: قال المنذري: باب: القنوت في الظهر وغيرها. وأخرجه مسلم في الموضع السابق. قوله «وَاللَّهِ لَأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ[» أي: لأصلين بكم صلاة تشبه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم .

قوله: «فَكَانَ أَبُو هُريرة يَقْنُتُ في الظُّهر، والْعِشَاء الْآخِرَةِ، وصَلَاةِ الصُّبْحِ» فيه جواز القنوت في هذه الصلوات، كما سبق.

أما العصر فيمكن قياسه على الظهر، وقد ثبت عند أحمد وأبي داود، قنوته في العصر.

156- باب: القنوت في المغرب

360.عن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ.

قال المنذري: باب: القنوت في المغرب. وأخرجه مسلم في الموضع السابق، وفيه جواز القنوت في هذه الصلوات، كما سبق، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم  لم يكن يخص الصبح بالقنوت.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك