رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 11 مارس، 2014 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 79 ) الجلوس في المصلّى بعد صلاة الصبح


كان شيخ الإسلام ابن تيمية إذا صلى الفجر يجلس في مكانه حتى يتعالى النار جداً، يقول: هذه غَدوتي، لو لم أتغدَ هذه الغَدوة ، سقطت قُواي

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وبعد:

 فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

365.عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ : أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا، كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ - أَوْ الْغَدَاةَ - حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ.

الشرح: قال المنذري: باب: الجلوس في المصلّى بعد صلاة الصبح. والحديث أخرجه مسلم في المساجد (1/ 463)  وبوب عليه النووي (5/170): باب: فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، وفضل المساجد.

  قوله: «كَان لا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصلي فيه الصُّبْحَ». لفظ (كان) يفيد الاستمرار غالباً، وهذا يدل على كثرة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، أو على المداومة عليها.

قوله: «حتى تطلع الشمس». أي: ترتفع حسناء نقية بيضاء، وتطلع طلوعا ظاهراً بينا.

ومعناه: أنه كان يجلس متربعاً في مجلسه، إلى أنْ ترتفع الشمس حسناء، ويحل له أنْ يصلي .

     والحديث يدل على أنّ السنة: المكوث في المصلى بعد صلاة الصبح، وعدم الانتقال منه إلى بيت أو نحوه، كما ترجم النووي للحديث فقال: باب: فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد (5/170) وعلى هذا تراجم العلماء أيضا، وبه ترجم الترمذي في جامعه لحديث الباب. وقال المناوي في (فيض القدير): وفيه: ندب القعود في المصلى بعد صلاة الصبح، إلى طلوع الشمس، مع ذكر الله عز وجل. ومثله قال المباركفوري.

 وقد اختلف أهل العلم في المراد «بمصلاه الذي صلى فيه»، هل يختصُ بالبقعة التي أَوقع فيها الصلاة؛ بحيث لو انتقل إلى بقعة أخرى في المسجد، لم يكن له هذا الثواب المترتب عليه؟!

أو المراد بمصلاه: جميع المسجد الذي صلى فيه، فلو انتقل إلى موضع آخر بالمسجد، لم يكن خارجا عن مصلاه. وهذا الثاني هو الأرجح. يدل عليه أحاديث، منها:

1- حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «صلاةُ الجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وإِذا دَخَلَ المَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي - يَعْنِي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ - مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ما لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ». رواه البخاري (477) ومسلم (649) .

2- وفي الصحيحين: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه لما أخّر صلاة العشاء الآخرة، ثم خرج فصلى بهم، قال لهم: «إنكم لم تَزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة».

3- وفيهما أيضا: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الملائكة تُصلي على أحدكم ما دام في مُصلاه ما لم يحدث، اللهم اغفرْ له اللهم ارحمه، ولا يَزال أحدكم في صلاة، ما كانت الصلاةُ تحبسه، لا يمنعه أنْ ينقلبَ إلى أهله إلا الصلاة» .

4- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «القاعدُ يُراعي الصلاةَ كالقانت، ويُكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه»، وفي رواية له: «فإذا صلى في المسجد ثم قعد فيه، كان كالصائم القانت حتى يرجع». مسند أحمد(28/648) وصححه محققو المسند، وغيرها من الأحاديث الكثيرة.

5- أن المقصود من الحديث: إعمار المساجد، والمرابطة فيها، وحبس النفس في أماكن العبادة، وقطعها عن المشاغل الدنيوية، وذلك أمرٌ يتحقق لكل من بقي في المسجد، ولو انتقل من موضع صلاته.

6- أن الانتقال عن موضع الصلاة داخل المسجد، قد يكون فيه مصلحةٌ لذلك المتعبد، فقد يحتاج إلى مصحف، أو حضور درس علم في ناحية المسجد، أو ينتقل إلى مكان يخلو فيه مع ربّه، ونقص الأجر بسبب ذلك وهو من مصلحة العبادة ، فيه بُعد.

7- ثم إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في مصلاه بعد صلاة الفجر، ولكن بعد أنْ يغير جلسته فيتوجه إلى أصحابه بوجهه، ولا يعرف أنه كان يحرص على التزام مكانه وجلسته بعد الصلاة إلى الصلاة الأخرى، أو إلى طلوع الشمس، بل كان ينصرف عن القبلة كي ينصرف أصحابه من بعده.

وقد نص غيرُ واحد من أهل العلم على ترجيح هذا القول في معنى الحديث .

فقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هل المراد بـ(مُصلاه) الموضع نفسه الَّذِي صلى فيه، أو المسجد الَّذي صلى فيه كله مصلى لَهُ؟ هذا فيه تردد.

وفي صحيح مُسلم عن جابر بن سمرة: «أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا صلى الفجر، جلس فِي مصلاه حَتَّى تطلع الشمس حسناء».

ومعلوم أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن جلوسه فِي الموضع الَّذِي صلى فِيهِ؛ لأنه كَان يَنفتل إلى أصحابه عقب الصلاة، ويقبل عليهم بوجهه.

فهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن المراد بـ(مصلاه الَّذِي يجلس فِيهِ): المسجد كله. وإلى هَذَا ذهب طائفةٌ من العلماء، منهم: ابن بطة من أصحابنا وغيره.انتهى باختصار من فتح الباري لابن رجب (4/56).

     وقال الإمام زين الدين العراقي رحمه الله: «ما المراد بمصلاه؟ هل البقعة التي صلى فيها من المسجد، حتى لو انتقل إلى بقعة أخرى في المسجد لم يكن له هذا الثواب المترتب عليه، أو المراد بمصلاه جميع المسجد الذي صلى فيه؟ يحتمل كلا الأمرين، والاحتمال الثاني أظهر وأرجح « انتهى من (طرح التثريب 2/367) .

     وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: «في مصلاه». أي: في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكأنه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد، مستمرا على نية انتظار الصلاة، كان كذلك. (فتح الباري 2/136) . وهو ما رجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كما في «لقاءات الباب المفتوح». (لقاء رقم/225، ص14)

وبهذا يتبين أنه لا حرج عليك في المشي في المسجد والانتقال من مكان صلاتك الفريضة، فكل المسجد مكان مبارك، وكله يشمله الأجر الوارد في الحديث.

     أما إذا احتاج الجالس في مصلاه لانتظار الشروق إلى دخول الخلاء،  ورجع إلى المسجد بعد وضوئه ليصلي به ركعتين، فإنه يحصل على الأجر المترتب على ذلك إن شاء الله، إنْ كان من عادته أن يجلس للذكر وانتظار الصلاة؛ فهو كالمسافر والمريض اللذين يُكتب لهما أجر الطاعة، التي منعهما منها عذر السفر والمرض، ففي البخاري: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرضَ العبدُ أو سافر، كُتب له مثل ما كان يعمل، مقيماً صحيحا».

 قال الحافظ ابن حجر: وهو في حقّ منْ كان يعمل طاعة فمنع منها ، وكانت نيته - لولا المانع - أن يدوم عليها (الفتح).

 قوله: «في جماعة» وصفٌ مقيد، يخرج به مَن صلى الفجر في بيته أو في غير جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، فلا يشمله هذا الأجر وهذا الفضل الخاص، وهو أجر الحجة والعمرة التامة.

أما المرأة فالأفضل لها أنْ تصلي في بيتها وليس في المسجد، ولها من الأجر والفضل الكثير العام، فذكرُ الله من أفضل القربات، وأحب العبادات إلى الله تعالى، وإنْ صلتْ مع أختها أو بنتها أو خادمتها، كان لها الأجر المذكور في الحديث.

وللحديث شواهد كثيرة، منها:

1- عن أَنسِ بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: « مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ في جَمَاعَةٍ، ثمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صلَّى ركْعَتَيْن، كَانتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ»، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه[: «تَامَّةٍ تامَّةٍ تَامَّةٍ».

رواه الترمذي (586) وصححه الألباني في الصحيحة (3403) .

2- وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأنْ أقعد أذكر الله تعالى وأُكبره، وأحمده وأسبحه وأهلله، حتى تطلع الشمس، أحبُ إلى من أن أعتق رقبتين أو أكثر من ولد إسماعيل، ومن بعد العصر حتى تغرب الشمس: أحب إلى من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل». رواه أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.

3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر لم يقمْ من مجلسه، حتى تمكنه الصلاة»، وقال: «منْ صلى الصبحَ ثم جلسَ في مجلسه حتى تُمكنه الصلاة، كان بمنزلة عمرةٍ وحجة متقبلتين». رواه الطبراني في الأوسط ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.

4- وعن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله: هل من ساعة أقرب من الله - عز وجل - من الأخرى؟ أو: أَهَل من ساعة يبتغى ذكرها ؟ قال: «نعم، إنّ أقربَ ما يكون الربُ عز وجل من العبد: جوف الليل الآخر، فإنْ استطعتَ أنْ تكونَ ممن يذكرُ الله عز وجل في تلك الساعة فكن، فإنّ الصلاة محضورةٌ مشهودةٌ إلى طلوع الشمس، فإنها تطلع بين قرني شيطان، وهي ساعةُ صلاة الكفار، فدع الصلاةَ حتى ترتفع قيد رمح، ويذهب شعاعها، ثم الصلاة محضورةٌ مشهودة حتى تعتدل الشمس اعتدال رمح» الحديث. رواه أبو داود والترمذي والنسائي واللفظ له – صحيح الترغيب 628.

قال الشوكاني: مشهودة، أي: تَشهدها الملائكة ويحضرونها، وذلك أقرب إلى القبول والرحمة.

 مسائل تتعلق بهذه السُنة:

- الأولى: هل هاتان الركعتان هما سُنة الضحى؟ والجواب: نعم هي أول الضحى، وسمّاها بعض العلماء: بصلاة الشروق؛ لأنها تكون عند شروق الشمس وارتفاعها قدر رمح، وهو وقت انتهاء وقت النهي عن الصلاة، وإنْ صُليت بعد ذلك سُميت: ضحى.  أما أقلها فركعتان، وأكثرها ثمان، وقيل: اثنتا عشرة، ويقرأ فيها الفاتحة وما تيسر من القرآن، ولم يردْ قراءة شيء مخصوص فيهما. (انظر فتاوى الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين) .

      وقد ورد في حديث معاذ الجهني أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «منْ قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى ، لا يقول إلا خيراً، غفر الله له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».أخرجه أبو داود والبهيقي في السنن الكبرى (3/490).ولكن هذا الحديث إسناده ضعيف، ضعفه ابن عبد البر والألباني.

     وإنْ كان الأفضل لوقت صلاة الضحى، هو عند اشتداد الحر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «صَلاةُ الأَوابين، حين تَرمض الفِصال». رواه مسلم . أي: حين يجد الفصيل - وهو ولد الإبل - حرّ الشمس، ولا يكون ذلك إلا عند ارتفاعها واشتدادها، بمقدار أكبر من رمح أو رمحين، بخلاف وقت أداء هذه السُنة - صلاة الشروق -.

-  ثانياً: متى تُؤدى؟ من المعلوم أن وقتها بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح، أما قبله فهو وقت نهي، فعن عقبة بن عامر قال: «ثلاثُ ساعاتٍ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أنْ نُصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا، حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع..» رواه مسلم (831) .

فعلى هذا: يكون وقت أدائها بعد خروج وقت النهي، وهو ارتفاع الشمس قيد رمح. قال النووي في الأذكار: باب: الحث على ذكر الله تعالى بعد صلاة الصبح، ثم قال: اعلم أنّ أشرف أوقات الذكر في النهار: الذّكر بعد صلاة الصبح.  اهـ.

وكان الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية يحرص على هذه الصلاة، ويروي عنه تلميذه ابن القيم رحمه الله فيقول: كان إذا صلى الفجر يجلس في مكانه حتى يتعالى النار جداً، يقول: هذه غَدوتي، لو لم أتغدَ هذه الغَدوة ، سقطت قُواي.

     وبعد: فهذا الأجر العظيم لهذه السنة النبوية، وحرص نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلفنا على فعلها، يدعونا للسير على خُطاهم واتباعهم، وإنّ كثيراً من الدعاة إلى الله، فضلاً عن غيرهم في هذه الأيام، يشكو الإحساس بنقص الإيمان، وقسوة القلب ، ويبحث دائماً عن علاج لهذا، وإذا نظرنا لأنفسنا نظرة متجردة، رأينا تركنا لسنن كثيرة ، وتهاوننا فيها، مع أن لها أثراً كبيراً في إحياء قلوبنا، وتثبيتها على الطاعة.

والله الموفق لكل خير.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك