رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 سبتمبر، 2014 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 102 ) باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وبعد:

 فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

402.عَنْ أَبِي هريرةَ قال: قال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ونَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَاخْتَلَفُوا، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فيه مِنْ الْحَقِّ، فهذَا يَوْمُهُمْ الَّذي اخْتَلَفُوا فيه، هَدَانَا اللَّهُ لَهُ «قال: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَالْيَومَ لَنَا، وغدًا للْيَهُودِ، وبعدَ غدٍ لِلنَّصَارَى».

الشرح: قال المنذري: باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة.

والحديث أخرجه مسلم في كتاب الجمعة (2/585) وبوب عليه النووي: باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة.

ورواه البخاري في أول كتاب الجمعة (876) باب فرض الجمعة.

وهو الحديث الأول هنا في أبواب الجمعة.

     والجُمُعة: بضم الجيم والميم، هي اللغة الفصحى، ويصح أن تخفف الميم بالإسكان، أي: اليوم المجموع فيه؛ لأنّ فُعلة بالسكون للمفعول كهمزة، وبفتحها بمعنى فاعل، أي: اليوم الجامع، فتاؤها للمبالغة، كضُحَكة للمكثر من ذلك، لا للتأنيث، وإلا لما وصف بها اليوم. وقيل: سُميت بذلك: لأن خلق آدم  جُمع فيها، قال الحافظ ابن حجر (2/353): وهذا أصح الأقوال.

وقيل: لاجتماعه بحواء في الأرض في يومها، وقيل: لما جُمع فيه من الخير .

والضم والفتح قراءتان شاذتان أيضا في يوم الجمعة. وقال النووي: بفتح الميم وضمها وإسكانها حكاه الفراء، وجه الفتح أنها مجمع الناس ويكثرون فيها، كما يقال: (هُمُزة لُمزة) وكانت تُسمى في الجاهلية بالعروبة.

     قوله «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يومَ الْقِيَامَةِ» نحن: أي: أنا وأمتي «الآخِرون» في الدنيا وجودا وزماناً «السابقون» منزلة ومقاما وشهودا «يوم القيامة»، وفي رواية البخاري «نحن الآخرونَ السابقون». وفي حديث حذيفة عند مسلم: «نحنُ الآخرون منْ أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المَقْضيّ لهم قبل الخلائق» قال الحافظ: والمراد أنّ هذه الأمة وإنْ تأخّر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، بأنهم أول مَن يُحشر، وأولُ من يحاسب، وأولُ من يقضي بينهم، وأول من يدخل الجنة. وقيل: المراد بالسبق هنا، إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة.

وقيل: المراد بالسبق، أي: إلى القَبول والطاعة التي حُرِمها أهلُ الكتاب، فقالوا: سمعنا وعصينا، والأول أقوى.

قوله «بَيْد» بفتح الباء وسكون الياء، أي: غير، وزنا ومعنى، وهو الأشهر، أو بمعنى: على أنهم، أو: مع أنهم، أو: من أجل أنهم.

     قوله «أنهم» أي: غيرنا من اليهود والنصارى وغيرهم، «أوتوا» أي: أُعطوا «الكتاب» المراد به جنس الكتاب، والمراد التوراة والإنجيل. «من قبلنا» أي: في الدنيا. «وأوتيناه من بعدهم» أي: الكتاب وهو القرآن، فإنا متقدمون عليهم في الفضل والمنزلة، ولو أعطوه قبلنا، والتقدّم الزماني، لا يُوجب فضلاً ولا شرفاً على هذه الأمة، فهذا ردٌ ومنع لفضل الأمم السالفة، ثم إننا وإياهم متساوية أقدامنا في إنزال الكتاب.

قال ابن حجر: ثم إنه من باب: «ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم»، أي: نحن السابقون بما منحنا من الكمالات، غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وتأخر كتابنا من صفات المدح والكمال؛ لأنه ناسخٌ لكتابهم، ومعلم لفضائحهم، فهو السابق فضلاً، وإن سُبق وجوداً.

قال بعض العارفين: ومنْ بديع صنع الله: أنْ جعلهم عبرةً لنا، وفضائحهم نصائحنا، وتعذيبهم تأديبنا، ولم يجعلْ الأمرَ منعكسا، والحال ملتبسا، وأيضا فنحن بالتأخير، تخلصنا عن الانتظار الكثير، ففضله تعالى علينا كبيرٌ، وهو على كل شيء قدير، ونعم المَولى ونعم النصير. (المشكاة).

     قوله «ثم» أتى بها إشعاراً بأنّ ما قبلها كالتوطئة، والتأسيس لما بعدها «هذا» أي: هذا اليوم، وهو يوم الجمعة «يومهم الذي فُرض عليهم» والمراد بفرضه: فرض تعظيمه، وقد أشير إليه بهذا كما عند مسلم: عن أبي هريرة ومن حديث حذيفة قالا: قال رسول الله   صلى الله عليه وسلم : «أضلّ الله عن الجمعة مَنْ كان قبلنا» الحديث.

قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فُرضَ عليهم بعينه فتركوه؛ لأنه لا يجوز لأحدٍ أنْ يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل - والله أعلم - أنه فُرض عليهم يومٌ من الجمعة وُكِل إلى اختيارهم، ليُقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أيّ الأيام هو؟ ولم يهتدوا ليوم الجمعة؟

ومال عياض إلى هذا ورشّحه، بأنه لو كان فُرض عليهم بعينه، لقيل: فخالفوا، بدل: فاختلفوا.

وقال النووي: يمكن أنْ يكونوا أُمروا به صريحاً، فاختلفوا هل يلزم تعينه؟ أم يَسوغ إبداله بيومٍ آخر؟ فاجتهدوا في ذلك فأخطوا انتهى.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح: عن مجاهد في قوله تعالى {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ } (النحل: 124)، قال: أرادوا الجمعة فأخطؤوا، وأخذوا السبت مكانه.

ويحتمل أنْ يُراد بالاختلاف: اختلاف اليهود والنصارى في ذلك.

     ونقل في المشكاة عن بعض المحققين قوله: فَرَض الله على عباده أنْ يجتمعوا يوماً، ويعظموا فيه خالقهم بالطاعة، لكن لم يُبيّن لهم، بل أمرهم أنْ يستخرجوه بأفكارهم، ويُعينوه باجتهادهم، وأوجبَ على كل قبيل أن يتبع ما أدى إليه اجتهاده، صواباً كان أو خطأ، كما في المسائل الخلافية، فقالت اليهود: يوم السبت؛ لأنه يوم فراغ وقطع عمل؛ لأن الله تعالى فرغ عن خلق السموات والأرض فيه، فينبغي أنْ ينقطع الناس فيه عن أعمالهم، ويتفرغوا لعبادة مولاهم، وزعمت النصارى: أنّ المراد يوم الأحد؛ لأنه يوم بدء الخلق، الموجب للشكر والعبادة، فهدى الله المسلمين، ووفقهم للإصابة حتى عينوا الجمعة، وقالوا: إنّ الله تعالى خلق الإنسان للعبادة، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56). وكان خلق الإنسان يوم الجمعة، فكانت العبادة فيه لفضله أولى؛ لأنه تعالى في سائر الأيام أوجد ما يعود نفعه إلى الإنسان، وفي الجمعة أوجد نفسَ الإنسان، وال شكر على نعمة الوجود، أهم وأحرى انتهى. وانظر الفتح (2/355).

فقوله «فاختلفوا فيه» أي: أهل الكتاب، أي: في تعيينه للطاعة، وقبوله للعبادة، وضلوا عنه، وأما نحن بحمده «فهدانا الله له»، أي: لهذا اليوم وقبوله والقيام بحقوقه، وفيه إشارة إلى سبق الأمة المعنوي، كما أن في قوله السابق: «بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا» إشعاراً إلى سبقهم الحسي.

قوله «فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فيه مِنْ الْحَقِّ» يحتمل أن الله -تعالى- نص لهم عليه. ويحتمل أن يراد بالهداية إليه، توفيقهم بالاجتهاد له.

     قال الحافظ ابن حجر: ويشهد للثانى: ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح: عن محمد بن سيرين قال: جَمع أهل المدينة قبل أنْ يقدمها رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، وقبل أنْ تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إنّ لليهود يوماً يجتمعون فيه، كل سبعةِ أيام، وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر الله تعالى، ونُصلى ونشكره، فجعلوه يوم «العروبة» واجتمعوا إلى أسعد بن زُرارة، فصلّى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (الجمعة:9).

قال: وهذا وإنْ كان مرسلا، فله شاهد بإسناد حسن، أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة، وصححه ابن خزيمة وغير واحد من حديث كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله  صلى الله عليه وسلم المدينة: أسعد بن زرارة. الحديث.

فمرسل ابن سيرين، يدل على أنّ أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد.

قال: ولا يمنع ذلك أنْ يكون النبي  صلى الله عليه وسلم  عَلِمه بالوحي، وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، فقد ورد فيه حديث عن ابن عباس عند الدارقطني، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة، بجهتى البيان والتوفيق. انتهى.

قلت: وقد قال تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } البقرة: 213.   قوله «فهذَا يَوْمُهُمْ الَّذي اخْتَلَفُوا فيه، هَدَانَا اللَّهُ لَهُ، يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فالْيَومَ لَنَا، وغدًا للْيَهُودِ، وبعدَ غدٍ لِلنَّصَارَى» وفي رواية ابن خزيمة «فهو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد». وقوله «فهو لنا» أي: بهداية الله تعالى لنا.

وفي الحديث: دليل على فَرَضية الجُمعة، كما قال النووي وغيره، لقوله «فهذا يومهم الذي فُرض عليهم، فهدانا الله له» فإنّ التقدير: فُرض عليهم وعلينا، فضلوا وهُدينا. وقد وقع في رواية مسلم بلفظ: «كتب علينا».

والحديث فيه: أنّ الهداية والإضلال من الله تعالى، كما هو قول أهل السنة والجماعة، يدل عليه آيات الكتاب، كقوله تعالى مراراً {يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} (النحل:93).

وفيه: أنّ سلامة الإجماع من الخطأ، مخصوصٌ بهذه الأمة، لقوله   صلى الله عليه وسلم  : «إنّ اللهَ تعالى، لا يَجمعُ أمتي على ضَلالة» رواه الترمذي وغيره.

وفيه: أنّ استنباط معنى من الأصل، يعود عليه بالإبطال، باطل.

وفيه: أنّ القياس مع وجود النص، فاسد.

وفيه: أن الاجتهاد في زمن نزول الوحي، جائز.

وفيه: أن الجمعة أول الأسبوع شرعا، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يُسمون الأسبوع سبتا، كما في حديث الاستسقاء في حديث أنس، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود فتبعوهم في ذلك.

وفيه: بيانٌ واضح، لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السابقة، زادها الله -تعالى- شرفا. (انظر الفتح).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك