رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 15 نوفمبر، 2014 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 110 ) بــــــــاب: الإيــــجــــــــاز فــــــي الخـــطــبــــــة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وبعد:

 فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

414.عن أَبي وائِلٍ قال : خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يا أَبا الْيَقْظَانِ، لقد أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فلو كُنْتَ تَنَفَّسْتَ، فَقَال: إِنِّي سَمِعْتُ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، واقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا».

 الشرح:  قال المنذري: باب: الإيجاز في الخطبة. والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (2/594) في الباب السابق: باب: تخفيف الصلاة والخطبة.

قوله: «خَطَبَنَا عَمَّارٌ « عمار هو ابن ياسر بن عامر العنْسي، أبو اليقظان، مولى بني مخزوم، صحابيٌ جليل مشهور ، من السابقين الأولين، ومن البدريين، قُتل مع علي -رضي الله عنه- في صفين سنة سبعٍ وثلاثين، روى له الستة.

قوله: «فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ» أي: أطلت قليلا.

قوله: «إِنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ، وقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِه» مئنة: أي علامة .

قوله: «فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ» ليس هذا مخالفاً للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة؛ لأن المراد هنا: أن تكون الصلاة طويلة بالنسبة إلى الخطبة، وليس تطويلاً يشق على المأمومين؛ لأن هذا يُخالف سنته المعروفة .

 وجاء في حديث جابرِ بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال: «كنتُ أُصَلِّي مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، فكانتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا ، وخُطْبَتُهُ قَصْدًا» . رواه مسلم (866) .

وفي رواية: «كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم لا يُطِيلُ الْمَوعظَةَ يوم الْجُمُعَة، إنما هُنَّ كلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ». رواه أبو داود (1107) .

 قوله: «واقْصُرُوا الْخُطْبَةَ» واقْصُرُوا بهمزة وصل.

فهذه الأحاديث تدل على إقصار الخطبة، وإطالة الصلاة، وعامة الفقهاء على استحباب ما جاءت به الأحاديث من إقصار الخطبة، وعدم إطالتها.

     والإطالة والإقصار من الأمور النسبية، التي لا يمكن تحديدها إلا بالنسبة لغيرها، والإقصار هنا لم يرد حدٌّ لأقله، ونُقل عن الشافعي في القديم: أنّ أقل الخطبة: كأقصر سورة في القرآن، وذكر الماوردي: إنْ حَمِد الله تعالى، وصلى على نبيه ووعظ أجزأه ، ونُقِل عن ابن العربي أن أقلَّها: حمد الله، والصلاة والسلام على نبيه، وتحذير وتبشير وقرآن. الحاوي الكبير (2/443).

     وقال البغوي رحمه الله تعالى: «وأقل ما يقع عليه اسم الخُطبة : أنْ يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويُوصي بتقوى الله، هذه الثلاث فرضٌ في الخُطبتين جميعاً، ويجب أنْ يقرأ في الأولى آية من القرآن، ويدعو للمؤمنين في الثانية، فلو ترك واحدًا من هذه الخمس، لا تصح جمعته عند الشافعي رحمه الله»  شرح السنة (4/ 364) .

 وأحال ابن جُزي المالكي في مقدارها على عُرف العرب فقال: «وأقل ما يسمى خُطبة عند العرب، وقيل: حمدٌ وتصلية ووعظ وقرآن» القوانين الفقهية (ص56).

وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: «وأما قصر الخُطبة فسنةٌ مسنونة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك ويفعله».

وقال أيضاً: «وأهل العلم يكرهون من المواعظ، ما يُنسي بعضُه بعضاً لطوله، ويستحبون من ذلك: ما وقف عليه السامع الموعوظ، فعده بعد حفظه له؛ وذلك لا يكون إلا مع القلة» الاستذكار(2/363-364 ).

وانظر: الأوسط لابن المنذر: 4/60، والمغني لابن قدامة (2/78) .

لكن ذلك لا يعني المبالغة في إقصارها، كما نقل النووي -رحمه الله- عن فقهاء الشافعية: «قال أصحابنا: ويكون قصرها معتدلاً، ولا يبالغ بحيث يمحقها». المجموع (4/448).

وقال زكريا الأنصاري رحمه الله: «القصر والطول من الأمور النسبية، فالمراد بإقصار الخطبة إقصارها عن الصلاة، وبإطالة الصلاة إطالتها على الخطبة» أسنى المطالب (1/260) .

وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام فقد قال: «الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة»  مجموع الفتاوى (22/597).

      فالأصل هو الإقصار، وقد أجاز بعض الفقهاء الإطالة إذا اقتضى الحال ذلك، قال الأذرعي من الشافعية: «وحَسَنٌ أن يختلف ذلك باختلاف أحوالٍ وأزمان وأسباب، وقد يقتضي الحال الإسهاب، كالحث على الجهاد، إذا طرق العدو والعياذ بالله -تعالى- البلاد، وغير ذلك من النهي عن الخمر، والفواحش والزنا والظلم، إذا تتابع الناس فيها» نهاية المحتاج (2/326).

      وهذه الإطالة الطارئة لا تخرج الخطيب عن مئنة الفقه؛ كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «وأحيانا تستدعى الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبى، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب أحياناً بسورة (ق)، وسورة (ق) مع الترتيل والوقوف على كل آية تستغرق وقتاً طويلاً». الشرح الممتع (5/65).

والحديث الذي ذكره: هو حديث بِنْت حَارِثَةَ بن النُّعْمَانِ رضي الله عنها  قالت: «ما حَفِظْتُ ق إلا منْ فِي رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، يَخْطُبُ بها كُلَّ جُمُعَةٍ» رواه مسلم (873).

 ومعلوم أن سورة (ق) ليست بالقصيرة، فكيف إذا ضُم إليها افتتاحه الخطبة بخطبة الحاجة، وربما أنه ذكّر ووعظ كما هو هديه صلى الله عليه وسلم في الخطبة.

وكذلك ما نقل عن عمر رضي الله عنه، وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد منهم:

     وهو حديث رَبِيعَةَ بن عبد الله بن الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ: «أنه حضر عمَرَ بن الْخطابِ رضي الله عنه قَرَأَ يوم الْجُمُعَةِ على الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حتى إذا جاء السَّجدةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ الناس، حتى إذا كانت الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بها، حتى إذا جاء السَّجْدَةَ قال: يا أَيُّهَا الناس، إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، ومَنْ لم يَسْجُدْ فلا إِثْمَ عليه، ولم يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه» رواه البخاري (1027) .

وظاهر الحديث أنه قرأ السورة كلها في الجمعتين، ومعلوم أن سورة النحل طويلة جداً، وبعيد أنْ يطيل الصلاة أكثر من الخطبة، وإلا لشق على الناس، وكانت خطبتاه بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُعرف منكر عليه هذا التطويل. 

     الذي يظهر - والله أعلم - أن تحديد خطبة الجمعة بمقدار معين من الكلام أو بزمن معين ليس مراداً، وأن ذلك تُرك لأحوال الناس والزمان والمكان، وأُنيط باجتهاد الخطباء؛ بحيث يأتون بما ينفع الناس، مع مراعاة الأصل العام وهو التخفيف؛ لأنه مئنة الفقه، دون تحديد مقدار هذا التخفيف، وأن لا تكون الخطبة طويلة مملة غير نافعة، ولو كانت قصيرة، بل تكون نافعة ولو كانت أطول من غيرها.

وبهذا تجتمع الأدلة، ولا يُضرب بعضها ببعض، ويبطل حجة من يقول: الخطباء يدعون الناس في خطبهم للالتزام بالسنة ثم يخالفونها هم في خطبهم . 

ومما يعين على قصر الخطبة: أن يتصور الموضوع تصوراً صحيحاً، وذلك بجمع مادته قبل الخطبة، وكتابتها وتقسيمها وترتيبها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك