رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 ديسمبر، 2014 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 113 ) باب: الإشارة بالإصْبع في الخُطبة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وبعد:

 فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

417.عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ رضي الله عنه قال: رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ على الْمِنْبَرِ، رَافِعًا يَدَيْهِ، فقال: قَبَّحَ اللَّهُ هاتَيْنِ الْيَدَيْنِ! لقد رَأَيْتُ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما يَزِيدُ على أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هكذا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ.

الشرح: قال المنذري: باب: الإشارة بالإصبع في الخطبة. والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (2/595) في الباب السابق: باب: تخفيف الصلاة والخطبة. عُمارة بن رُؤَيبةَ الثقفي، أبو زهير، صحابي، نزل بالكوفة، تأخرت وفاته إلى بعد السبعين، روى له: م د ت س.

وحصين الراوي عنه، هو ابن عبد الرحمن السلمي، أبو الهذيل الكوفي، تابعي ثقة، تغير في آخر عمره، روى له الجماعة.

     قوله «رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ على الْمِنْبَرِ» بِشر بن مروان أميرٌ أموي، أحد الأجواد، من أبناء الخليفة مروان بن الحكم، وأمه قُطَيَّة بنت بشر البدوية من بني كلاب، استعمله أخوه الخليفة عبد الملك بن مروان على الكوفة بعد مقتل مصعب بن الزبير، على صلاتها وخراجها سنة 71هـ، وفي سنة 73هـ عزل عبد الملك خالد بن أسيد عن ولاية البصرة، لإخفاقه في حرب الخوارج الأزارقة، وضم البصرة إلى أخيه بشر. 

ولما مات بشر وقف الفرزدق على قبره، ورثاه بأبياتٍ، فما بقي أحدٌ إلا بكى. قال خليفة في تاريخه: مات بالبصرة سنة خمس وسبعين، وله نيف وأربعون سنة.

قوله «رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ على المِنْبَرِ» على عادة الأمراء سابقا، أنهم يتولون خطبة الجمعة.

قوله «قَبَّحَ اللَّهُ هاتَيْنِ الْيَدَيْنِ» القبح ضد الحسن، وهو إنكارٌ شديد عليه ودعاء، لمخالفته للسنة النبوية، وإقرار البقية له.

قال النووي: فيه: أَنَّ السُّنَّة أَلا يَرْفَع الْيَد في الْخُطْبة، وهو قول مالك وأَصحابنَا وغيرهم اهـ.

فالْحديثُ يَدُلُّ علَى المنع من رفْعِ الأَيْدي علَى المِنْبَر أثناء الدُّعَاءِ، للإمام والمأموم، فإنه إذا لم يُشرع رفع اليدين للخطيب، فالمأمومون مثله؛ لأنهم يقتدون به ويتابعونه. إنما ورد في شأن الخطيب يوم الجمعة، أنه إذا دعا على المنبر، يشير بسبابته فقط، ولا يرفع يديه.

وإنْ كان الأصل أنْ يرفع الداعي يديه عند الدعاء، وهو من موجبات قبول الدعاء، لقول النبيصلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْه يَدَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» رواه الترمذي (3556). 

ففي هذا الْحديث دَلالَةٌ علَى اسْتحبابِ رَفْعِ الْيدين في الدُّعاءِ، والْأَحاديثُ فيه كثيرة.

لكن إذا دعا الإمام للاستسقاء يوم الجمعة وهو على المنبر، فالسُنة أن يرفع يديه، ويرفع المأمومون أيديهم ويدعون معه.

فقد روى البخاري (933) ومسلم (897): عن أَنسِ بنِ مالكٍ قال: أَصَابَتْ النَّاسَ سَنَةٌ على عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ في يومِ جُمُعَةٍ، قامَ أَعْرَابِيٌّ فقال: يا رسولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وجاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ.

زاد البخاري في رواية تعليقاً ووصلها البيهقي: «ورَفَعَ النَّاس أَيْدِيهمْ مع رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَ».

وهكذا قال علماؤنا المعاصرون، فقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:

ما حكم رفع اليدين في الدعاء يوم الجمعة للمأمومين، ذلكم أني أرى هذه الظاهرة منتشرة بكثرة؟

     فأجاب: أما حال الخُطبة، فلا يَرفع الإمام ولا يرفع المأمومون، يُنصتون ولا يرفعون أيديهم، ولا يرفع هو في الخُطبة، إلا في الاستسقاء، إذا استسقى طلب الغوث طلب المطر، يرفع يديه ويرفعون أيديهم معه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، لما استسقى عليه الصلاة والسلام، أما الخطبة العادية التي ليس فيها استسقاء، فإنّ السُنة أنه لا يرفع ولا يرفعون، ولو دعا يدعو لكن من دون رفع، وهكذا خطبة العيد ليس فيها رفع، إلا إذا استسقى، إذا طلب السُقيا: طلب الغوث، طلب المطر، فإنّ السُنة أن يرفع يديه، والمأمومون كذلك يرفعون أيديهم، في الجمعة وفي غيرها، إذا استسقى يرفعون أيديهم، حتى لو جلس العالم بين أصحابه واستسقى ورفع يديه، يرفعون أيديهم في حلقه العلم، أو في أي مكان، وهم محتاجون للغيث، قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، ورفعوا أيديهم، كله طيب، لا حرج في ذلك.

     قال: فرفع اليدين من أسباب الإجابة، لكن المواضع التي لم يَرفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد وُجدت في عهده، لا نرفع فيها؛ لأن تركه حجة وفعله حجة عليه الصلاة والسلام، قال: وهكذا بعد الفرائض إذا سلّم من الفريضة ما كان يرفع يديه، فلا نرفع بعد الفريضة، وهكذا في دعاء آخر الصلاة قبل أن يسلم كان يدعو، قبل أنْ يسلم، ولم يرفع يديه، وهكذا بين السجدتين كان يدعو ولا يرفع يديه، فالشيء الذي ما رفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو موجود في عهده وقد فعله، نكون مثله لا نرفع أيدينا عليه الصلاة والسلام، تأسياً به صلى الله عليه وسلم في الفعل والترك انتهى مختصرا من موقعه.

وكذلك سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم رفع الأيدي، والإمام يخطب يوم الجمعة؟

     فأجاب: رفع الأيدي والإمام يخطب يوم الجمعة ليس بمشروع، وقد أنكر الصحابة على بشر بن مروان حين رفع يديه في خطبة الجمعة، لكن يستثنى من ذلك الدعاء بالاستسقاء؛ فإنه ثبت عن النبي أنه رفع يديه يدعو الله -عز وجل- بالغيث وهو في خطبة الجمعة، ورفع الناس أيديهم معه، وما عدا ذلك فإنه لا ينبغي رفع اليدين في حال الدعاء في خطبة الجمعة اهـ. «فتاوى أركان الإسلام» (ص 392).

وفي الحديث أيضا: مشروعية الدعاء يوم الجمعة في الخُطبة، للمسلمين والمسلمات، ولأئمة المسلمين وولاتهم، وهو قول الفقهاء رحمهم الله جميعا، وقيل هي: ساعة الإجابة التي في يوم الجمعة:

     قال الشيخ أبو محمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله: «ويستحب أنْ يدعو للمؤمنين والمؤمنات والحاضرين، وإنْ دعا لسلطان المسلمين بالصلاح فحسنٌ، وقد روى منبه بن محسن: أنّ أبا موسى كان إذا خطب فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لعمر وأبي بكر، وأنكر عليه منبه البداءة بعمر، قبل الدعاء لأبي بكر، ورَفع ذلك لعمر، فقال لمنبه: «أنتَ أوثق منه وأرشد...

قال: ولأنّ سُلطان المسلمين إذا صَلَح، كان فيه صلاحٌ لهم، ففي الدعاء له دعاءٌ لهم، وذلك مستحبٌ غير مكروه» اهـ.

وقال العلامة الزركشي رحمه الله في (شرح الخرقي): «وإنْ أراد أنْ يدعو لإنسان دعا» قال: «أي: للسلطان ونحوه؛ لأنّ صلاحه صلاح للمسلمين، ولأنّ الدعاء لمعينٍ يجوز في الصلاة على الصحيح، فكيف بالخطبة» اهـ (2/182).

وقال المرداوي في الإنصاف: «يُسن أنْ يدعو للمسلمين بلا نزاعٍ، وأشار ابن عبدالهادي في (مغني ذوي الأفهام) إلى أنّ هذا: «باتفاق الأئمة الأربعة». كما في غاية المرام للشيخ العبيكان (7/216).

وكذا قال الشافعية، فقال صاحب (المنهاج) وهو يعدّد شروط الخطبة: «الخامس: ما يقع عليه اسم دعاء للمؤمنين في الثانية، وقيل لا يجب».

قال شارحه العلامة الخطيب الشربيني: «لنقلِ الخلف له عن السلف... قال: ويستحب الدعاء لأئمة المسلمين، وولاة أمورهم، بالصلاح والإعانة على الحق، والقيام بالعدل، ونحو ذلك» اهـ.

وكذا قال ابن عابدين الحنفي رحمه الله: «لا مانع من استحبابه - أي الدعاء للسلطان- فيها كما يُدْعى لعموم المسلمين، فإنّ في صلاحه صلاحُ العالَم...اهـ. (3/22).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاختيارات (148): «إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه إذا دعا».

وقال العلامة ابن القيم: «وكان يشير بإصبعه السبابة في خطبته، عند ذكر الله تعالى ودعائه» (1/428) زاد المعاد.

- والدعاء لأئمة المسلمين وولاتهم، في الخطب يوم الجمعة وغيرها، هو من عمل السلف رحمهم الله، واشتهر بين المسلمين، ولم ينكره إلا أهل البدع، فمما جاء في كتب العقائد:

قول الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإنْ جارُوا، ولا نَدْعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضةً، ما لم يأمروا بمعصية». ثم قال: «وندْعُو لهم بالصّلاحِ والمُعافاة».

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: لو كانت لي دعوةٌ مستجابة، ما جعلتها إِلا في السُلطان، فقيل له: يا أبا علي، فَسِّر لنا هذا. فقال إذا جَعلتُها في نفسي لم تَعْدُني، وإِذا جعلتها في السلطان صَلَح، فصَلَح بصلاحه العبادُ والبلاد.

والدعاء لولي الأمر، في الخُطبة يوم الجمعة وغيرها، له فوائد كثيرة عظيمة، نُجملها فيما يأتي:

- الفائدة الأولى: أنّ المسلم حين يَدعو لولي أمره، فإنه يتعبّد لله -عز وجل- بهذا الدعاء؛ ذلك لأنّ سمعه وطاعته لولي الأمر إنما كان بسبب أمر الله تعالى له، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى يقول لعباده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء 59)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «على المرءِ المسلم السمعُ والطاعة، فيما أحبَّ وكره، إلا أنْ يُؤمر بمعصية» متفق عليه.

فالمسلم يسمع ويطيع لولي أمره، تعبداً لله عز وجل، وطاعة له وامتثالاً.

ولاشك أنّ هذا الامتثال لأوامر الله تعالى، من أعظم الأدلة على عبودية الإنسان لربه، وخضوعه له، وإيمانه به رباً وإلهاً وشارعاً.

- الفائدة الثانية: أنّ في الدعاء لولي الأمر إبراءً للذمة؛ إذْ الدُعاء من النصيحة، والنصيحة لأئمة المسلمين واجبة على كل مسلم، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «إني لأدعو له - أي السلطان - بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار، والتأييد، وأرى ذلك واجباً عليّ». السُنة للخَلال (ص 38).

- الفائدة الثالثة: أنّ الدعاء لولي الأمر، من علامات أهل السُنة والجماعة، فالذي يدعو لولي الأمر، متصفٌ بصفات أهل السنة. كما قال الإمام أبو محمد البربهاري رحمه الله: «وإذا رأيتَ الرجل يدعو على السلطان، فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيتَ الرجل يدعو للسلطان بالصلاح، فاعلم أنه صاحب سُنة إن شاء الله».

- الفائدة الرابعة: أنّ الدُعاء لولي الأمر، نفعه عائد إلى الرعية أنفسهم، فإن ولي الأمر إذا صلح، صلحت الرعية، واستقامت أحوالها، وطاب عيشها.

- الفائدة الخامسة: أن ولي الأمر إذا بلغه أنّ الرعية تدعو له، سُرَّ بذلك غاية السرور، ودعاه ذلك إلى محبتهم، والألفة بهم، والاجتماع معهم , والبحث عما فيه سعادتهم وراحتهم، وقضاء حوائجهم.

- الفائدة السادسة: أن في ذلك ترويضاً للرعية، وتربية لهم على الطاعة والانقياد، فإنّ منْ شرع الله وطاعته: طاعة ولاة الأمور، من الأمراء والعلماء، والوالدين والأزواج ونحوهم.

وإذا تربّت الأمة على ذلك، أصبحت تصرفاتها وفق إرادة الشارع، وتغلبت كلمة الشرع على العقل والقلب، والعاطفة والهوى، وعلى كل التصرفات، وتهذبت غرائزها وطباعها.

والتغلب على الهوى والنفس، فيه الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة. 

- الفائدة السابعة: أنّ بالدعاء لأولي الأمر، والطاعة لهم،  تتلاحم الأمة وتتماسك، وتقوى الصلة بينهم جميعاً، ويشيع الأمن والاستقرار في ربوع البلاد، وتتحقق وحدة الأمة وقوتها.

- الفائدة الثامنة: أنّ طاعة ولي الأمر والدعاء له، سببٌ للنصر على الأعداء؛ إذْ به تجتمع الكلمة، وتتلاحم الصفوف، وتحصل القوة، وهذه هي أهم مقومات النصر، ولذلك كان من أهم أسباب انتصارات المسلمين في المعارك الكثيرة: هي الطاعة لولي الأمر.

وفي قصة غزوة أُحد، دليلٌ واضح على ذلك، فالمسلمون انتصروا في أول الأمر حينما كانوا مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم انهزموا حينما خالفوا أمره، فنزل الرماة من الجبل، لمشاركة الناس في جمع الغنائم، دون إذن من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فحصل ما حصل.

ومما سبق: يتضح بطلان ما عليه الخوارج، قديما وحديثاً، من كراهية الدعاء للسلطان على المنابر يوم الجمعة، بل بعضهم يدعون عليه!

وهذا من جهلهم بنصوص الوحي، وعمل السلف، ومخالفتهم لأئمة المسلمين سلفاً وخلفاً.

والله تعالى أعلم،،،

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك