رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 18 يناير، 2015 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 120 ) باب: في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وبعد:

 فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

424.عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضي الله عنه : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : «كانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}(الجمعة :11).

 الشرح: قال المنذري : باب : في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }(الجمعة :11).

والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (2/590) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري .

ورواه البخاري في الجمعة (936) باب: إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة، فصلاة الإمام ومَنْ بقيَ جائزة.

      قوله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَخطبُ قائما» سبق في باب الجلسة بين الخطبتين، بيان أنَّ السُنة النبوية أنْ يخطب الإمام قائماً، وفيه حديث جابر -رضي الله عنه-: «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً..».

     وذكرنا أيضاً حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه في إنكاره على عبد الرحمن ابن أم الحكم حين خَطب قاعدًا، فقال كعب رضي الله عنه: انظروا إلى هذا الخبيث! يخطب قاعِدًا، وقال الله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }(الجمعة : 11). رواه مسلم .

 قوله: «فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِ»، وفي رواية البخاري: «إذ أقبلت عيرٌ تحمل طعاما»، العير: بكسر العين، هي الإبل التي تحمل التجارة، طعاما كانت أو غيره، وهي مؤنثةٌ لا واحدَ لها من لفظها.

وفي الرواية الأخرى له «فقدِمتْ سُويقة، سويقة: تصغير سُوق، وسميت سوقا؛ لأنّ البضائع تُساق إليها.

قوله: «فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا»، ظاهره أن الانفضاض وقع حال الخطبة، وظاهر قوله في الرواية الأخرى: «ونحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم » أن الانفضاض وقع بعد دخولهم في الصلاة .

قوله: «فانفتل الناس إليها» وفي الرواية الأخرى: «فانفض الناس إليها»، وهو موافق للفظ القرآن.

     وفي رواية للبخاري: «فالتفتوا إليها»، والمراد بالانْفتَال والالتفات: الانصراف، يدل على ذلك رواية: «فانفض» وفيه ردٌ على من حمل الالتفات على ظاهره، وقال: لا يفهم منه الانصراف عن الصلاة وقطعها، وإنما يفهم منه التفاتهم بوجوههم أو بقلوبهم.

وأيضا: لو كان الالتفات على ظاهره، لما وقع الإنكار الشديد عليهم؛ لأنه لا ينافي الاستماع للخطبة، قاله الحافظ.

قوله: «حتى لم يبق معه إلا إثنا عشر رجلا ، فأنزل الله: {وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً}».

في رواية لمسلم: «فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما».

وفي أخرى قال جابر: «وأنا فيهم»، وفيها منقبة لهم رضي الله عنهم .

 وقوله: «إلا اثنا عشر رجلا»، قال الكرماني: ليس هذا الاستثناء مفرغاً فيجب رفعه، بل هو من ضمير «لم يبق العائد إلى الناس»؛ فيجوز فيه الرفع والنصب. قال: وثبت الرفع في بعض الروايات.

قوله: «فأنزلت هذه الآية»، ظاهر في أنها نزلت بسبب قدوم العير المذكورة. والمراد باللهو على هذا، ما ينشأ من رؤية القادمين وما معهم.

     ووقع عند الشافعي: من طريق جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، وكان لهم سوقٌ كانت بنو سليم يجلبون إليه الخيل والإبل والسمن، فقدموا فخرج إليهم الناس وتركوه قائما، وكان لهم لهو يضربونه فنزلت»، ووصله أبو عوانة في صحيحه ، قاله الحافظ .

قوله: انفضوا إليها قيل: النكتة في عود الضمير إلى التجارة دون اللهو، أنّ اللهو لم يكن مقصوداً، وإنما كان تبعاً للتجارة.

وقيل: حذف ضمير أحدهما لدلالة الآخر عليه، وقال الزجاج: أعيد الضمير إلى المعنى، أي: انفضوا إلى الرؤية.

وقد استشكل الأصيلي حديث الباب فقال: إن الله تعالى قد وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {لا تُلهيهم تِجارةٌ ولا بيْعٌ عنْ ذِكرِ اللهِ}، ثم أجاب باحتمال: أنْ يكون هذا الحديث قبل نزول الآية.

     قال الحافظ: وهذا الذي يتعين المصير إليه، مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك؛ فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة، وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه، فوصفوا بعد ذلك بما في آية النور.

 وقد أثار بعض أعداء الإسلام شبهة، حول انفضاض بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم خلال خطبة الجمعة.

     قال الكاشاني والقمي والطبرسي وغيرهم من الشيعة: نزلت فى أكثر الصحابة الذين انفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى العير التي جاءت من الشام، وتركوه وحده في خطبة الجمعة، وتوجهوا إلى اللهو، واشتغلوا بالتجارة، وذلك دليل على عدم الديانة .

 والرد على هذه الشبهة من وجوه:

 1- لابد أولاً من العلم: أن أبا بكر وعمر وجابر وغيرهم، كانوا من بين الصحابة الذين لم ينفضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم , فلماذا يطعنون عليهم، وينفون عنهم العدالة، وهم خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم؟

 2- سبق أن انفضاضهم كان في وقت الخطبة وليس في الصلاة، كما ورد في حديث الباب عند مسلم: «أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كان يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ..»، كما رجحه ابن حجر الصلاة, وهو اللائق بالصحابة, وعلى تقدير كون الانفضاض كان في الصلاة كما في رواية البخاري, فيحمل على أن ذلك وقع قبل النهي ، وقبل النهي عن الفعل الكثير في الصلاة .

وجاء في عمدة القاري: أن رواية «ونحن نصلي...» أي: ننتظر الصلاة، من باب تسمية الشيء بما يُقاربه, والمراد بالصلاة هنا: انتظارها في حال الخُطبة, وهو ما رجحه النووي ليوافق رواية مسلم.

 3- أن الحادثة وقعت في بدء زمن الهجرة, ولم يكن الصحابة حينئذ واقفين على جملة الآداب والأحكام الشرعية, بل الأحكام الشرعية لم تتكامل بعد، ولذلك لم يتوعدهم الله تعالى في الآية الكريمة بعذابٍ, ولم يُعاتبهم صلى الله عليه وسلم على ما فعلوا, وقد انتهوا عن ذلك بعد نزول الآية.

4- وأخرج أبو يعلى (3/468) الحديث بالإسناد نفسه، وفيه التصريح بمن ثبت من الصحابة رضي الله عنهم أيضا، وأنهم سبب دفع العقوبة عن الباقي:

     فعن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقدمت عيرٌ إلى المدينة، فابتدرها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده، لو تتَابعتم حتى لم يَبق منكم أحدُ، لسَالَ بكم الوادي نارًا»، ونزلت هذه الآية: {وإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}، وقال: كان في الاثني عشر الذين ثَبَتُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر، وعمر -رضي الله عنهما-.

 5 – أن ذلك كان في زمن كان فيه جوعٌ وقحط، فقد أخرج ابن جرير في تفسيره : عن الحسن قال : إن أهل المدينة أصابهم جوعٌ وغلاء سعر، فقدمت عيرٌ والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فسمعوا بها، فخرجوا والنبي صلى الله عليه وسلم قائم، كما قال الله عز وجل .

 والحديث استدل به من قال: إنّ العدد المشترط للجمعة اثنا عشر رجلا!

وقد اختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أقوال:

فقال الحسن: تنعقد الجمعة باثنين. وقال الليث وأبو يوسف: تنعقد بثلاثة . وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة بأربعة. وقال ربيعة : باثني عشر رجلا .

وقال الشافعي: بأربعين رجلا.

ومال أحمد وإسحاق إلى هذا القول.

وقال مالك: إذا كانت قرية فيها سوقٌ ومسجد، فعليهم الجمعة .

      قال كاتبه: وكونها لا تقام إلا في المدن والقرى، تدل عليه سُنة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة من بعده بالاستقراء، فلم تُقم الجُمعة في عهده صلى الله عليه وسلم ، ولا عهد الخلفاء الراشدين في القبائل في الصحراء ونحوها، وعليه أكثر أهل العلم .

وهو ما يدل عليه أيضا: حديث ابن عباس، قال: إن أول جمعة جُمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقرية من قرى البحرين يقال لها: جواثى.

 وحجة الإمام الشافعي وأحمد في الأربعين: حديث جابر رضي الله عنه الذي خرجه الدارقطني (164) والبيهقي (3/177)، ولفظه: «مضت السُنة أنّ في كل أربعين فما فوق ، جمعة وأضحى وفطر».

وهو حديث ضعيف جدا، فيه: عبدالعزيز القرشي، منكر الحديث، انظر الإرواء (603).

     وكذا حديث: كعب بن مالك قال: «أول من جَمّع بنا أسعدُ بن زرارة في هزم النبيت, فى نقيعٍ يقال له: نقيع الخضمات, قلت : كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا».  أخرجه أبو داود (1069) والدارقطني (164- 165) والحاكم (1/281) والبيهقي (3/176ـ 177)

قال الحافظ في «التلخيص» (ص 133) وهذا إسناد حسن، ووافقه الألباني في الإرواء (600) .

وقال الإمام أحمد في مسائل ابنه عبد الله (108): «قد جمع بهم أسعد بن زرارة, وكانت أول جمعة جمعت في الإسلام, وكانوا أربعين رجلا».

لكن هذا لا يدل على اشتراط العدد في الجمعة.

وقول الليث وأبو يوسف: أنها تنعقد بثلاثة، هو الصحيح الذي تدل عليه الأدلة، واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله .

     أما تفسير الآيات : فيعاتب الله تبارك وتعالى ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فيقول تعالى: {وإذا رأوا تجارةً أو لهوا انفضوا إليها} أي: إلى التجارة؛ لأنها مطلوبهم دون اللهو (وتركوك قائما) أي : في الخطبة (قل ما عند الله) من الثواب (خير) للذين آمنوا {من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}،  يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {قل لهم يا محمد}، الذي عند الله من الثواب، لمن جلس مستمعاً خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموعظته يوم الجمعة، إلى أن يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، خيرٌ له من اللهو ومن التجارة التي ينفضون إليها {والله خير الرازقين}. والله خير رازق، فإليه فارغبوا في طلب أرزاقكم، وإياه فاسألوا أن يوسع عليكم من فضله دون غيره.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك