رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 16 فبراير، 2015 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (124)- باب: التَّغليظ في تَرْكِ الجُمعة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وبعد:

 فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

 429.عن الْحَكَمِ بنِ مِينَاءَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ علَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عن وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ، أَو لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ».

الشرح:

قال المنذري: باب: التغليظ في ترك الجمعة.

والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (2/598) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري.

قولهما: «سَمِعَا رسولَ اللَّه  صلى الله عليه وسلم  يقولُ علَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ» فيه: استحباب اتخاذ المنبر. قال النووي: وهو سُنةٌ مُجمع عليها.

قوله: «لينتهين أقوام عن وَدْعهم» وَدْعهم: بفتح الواو وسكون الدال المهملة وكسر العين المهملة، أي: تركهم الجُمعات.

     قوله: «أَو لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ» الختم: هو الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه؛ كتماً له وتغطية؛ لئلا يُتوصل إليه، ولا يطلع عليه، شُبّهت القلوب بسبب إعراضها عن الحق، واستكبارها عن قبوله، وعدم نفوذ الحق إليها: بالأشياء التي استوثق عليها بالختم، فلا ينفذ إلى باطنها شيءٌ، وهذه عقوبة له على عدم الامتثال لأمر الله تعالى.

وأخرج الطبراني: من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- الحديث بلفظ: «مَنْ تركَ ثلاث جُمعاتٍ، من غير عذرٍ، كُتبَ من المنافقين».

وفي الحديث الآخر: عن أَبي الجعْدِ الضَّمْرِيِّ: أَنَّ رسول اللَّه  صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِها، طَبَعَ اللَّهُ على قَلْبِهِ».

رواه أبو داود (1052) والترمذي (500) والنسائي (1369) وابن ماجة (1126).

     وقوله «تهاوناً» قال الطيبي: أي إهانة، وقال الشيخ عبد الحق في (اللمعات): الظاهر أنّ المراد بالتهاون التكاسل، وعدم الجِد في أدائه؛ لا الإهانة والاستخفاف، فإنه كفرٌ، والمراد بيان كونه معصية عظيمة، قوله «طبع الله على قلبه» أي: ختم على قلبه، بمنع إيصال الخير إليه، وقيل: كتبه منافقا ً. كذا في المرقاة. انتهى.

قال ابن الجوزي رحمه الله: «أَصلُ الطَّبْعِ: الوَسَخُ والدَّرَنُ، ويحتمل أَنْ يُراد به: الخَتْمُ عَلَى القَلْبِ، حتَّى لاَ يَفْهَمَ الصَّوابَ» غريب الحديث (2 / 26، 27).

والمعني الثاني هو الأظهر عند عامة الشرَّاح.

قال السيوطي: قال الباجي: معنى الطبع على القلب: أن يُجعل بمنزلة المختوم عليه، لا يصل إليه شيء من الخير». كذا في (تنوير الحوالك شرح موطأ مالك) (1 / 102).

ومثله «الرين» في قوله تعالى: {كلا بل رانَ على قُلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: 14).

وفي الترمذي (3334): عن أبي هريرة عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ العبدَ إذا أخطأ خطيئةً، نُكتتْ في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب، صُقل قلبه، فإنْ عاد زِيدَ فيها، حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله في كتابه: {كلا بل رانَ على قُلوبهم ما كانوا يكسبون}». قال: هذا حديث حسن صحيح، وحسَّنه الألباني.

والريْن: هو الطبع.

قال المفسرون: هو الذَّنب على الذنب، حتى يسوّدَ القلب.

وقيل الرين: الغشاوة، وهو كالصدأ على الشيء الصقيل.

وعن مجاهد قال: كانوا يرون الرين، هو الطبع (فتح الباري) (8 / 696).

قوله «تهاوناً بها» المراد بالتهاون: الترك عن غير عذر.

قوله «ثم ليكونن من الغافلين» بعد ختمه تعالى على قلوبهم، فيغفلون عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال، وعن ترك ما يضرهم منها.

وهذا الحديث: من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها.

قال الصنعاني: «وفيه إخبارٌ بأنّ تركها: من أعظم أسباب الخذلان بالكلية» سبل السلام (2/ 45).

     وحرمانه إتيان الجمعة بالطبع على قلبه، من باب تيسيره للعسرى، فمن بخل بطاعة ربه، وتأخر عنها، صار ذلك الكسل والتأخر عن الطاعة، عادةً ملازمة له، فيشق عليه إتيانها، ويسهل عليه تركها، وهي طريق موصلة للعسرى، نسأل الله السلامة.

     قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله: {فسنيسره للعسرى} (الليل: 10)، قال: «أي: لطريق الشر، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام: 11)، والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أنّ الله -عزوجل- يُجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومَن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مُقدّر» انتهى. حسن التحرير (4/517).

     والطبع على القلب يدل على عظم الذنب، وأنه من الكبائر، فمن وجبت عليه صلاة الجمعة وتركها متعمدًا من غير عذر فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وقد عصى الله ورسوله، فيجب عليه المبادرة بالتوبة النصوح من هذا العمل السيئ، وعدم العودة لمثله.

     ومن الأحاديث الصحيحة في الباب: في الوعيد الشديد لمن ترك الجمعة من غير عذر شرعي، والتغليظ في تركها: ما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: «لقد هممتُ أن آمر رجلاً يُصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» رواه الإمام مسلم والإمام أحمد.

     أما من ترك الجمعة مستحلاًّ لذلك؛ فقد كفر بما أنزل على محمد  صلى الله عليه وسلم ؛ لتكذيبه بالآيات، والأحاديث الصريحة الواردة في وجوب صلاة الجمعة، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى كفر من ترك الجمعة أو غيرها من الصلوات الخمس، ولو تكاسلاً وتهاونًا، وإنْ لم يجحد وجوبها؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : «بين الرجلِ وبينَ الكفر والشرك: ترك الصلاة» أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه.

وقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمنْ تركها فقد كفر» أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.

- فائدة: الطبع على القلوب يكون على قلوب الكفار، وكذلك على قلوب المسلمين العاصين، فأما الطبع على قلوب الكفار: فهو طبعٌ على القلب كله، وأما الطبع على قلوب المسلمين العاصين: فيكون طبعاً جزئيّاً، بحسب معصيته، وفي كل الأحوال الطبع على القلب ليس ابتداء من الرب تعالى، بل هو عقوبة منه تعالى، لأولئك المطبوع على قلوبهم، أولئك بما كفروا، والآخرون بما عصوا، كما قال تعالى في حق الكفار: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} (النساء: 155).

أما الطبع الوارد في الشرع في حق عصاة المسلمين، فيكون بسبب كثرة الذنوب والمعاصي، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ الذي سبق «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ...».

     وقال ابن القيم رحمه الله: «الذنوب إذا تكاثرت: طُبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما قال بعض السلف في قوله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}، قال: هو الذنب بعد الذنب، وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمي القلب، حتى قال: وأصل هذا: أن القلب يصدأ من المعصية، فاذا زادت، غلب الصدأ حتى يصير راناً، ثم يغلب حتى يصير طبْعاً، وقفلاً، وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة: انتكس، فصار أعلاه أسفله، فحينئذ يتولاه عدوه، ويسوقه حيث أراد. (الجواب الكافي) (ص 139).

 - ومن أسباب الطبع على القلب: التعرض لفتن الشهوات، والشبهات.

     فعن حُذيْفة قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ على الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ، عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَودَاءُ، وأَيُّ قَلبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: على أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ والْأَرْضُ، والْآخَرُ أَسودُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا ما أُشْرِبَ من هَوَاهُ». رواه مسلم (144).

وقوله مرباداً: الذي في لون رُبدة، وهي بين السواد والغبرة.

كالكوز مجخياً: كالإناء المائل عن الاستقامة والاعتدال.

     قال النووي -رحمه الله-: قال القاضي -رحمه الله-: شبَّه القلب الذي لا يعي خيراً: بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه. وقال (صاحب التحرير) – وهو محمد بن إسماعيل الأصبهاني -: معنى الحديث: أن الرجل إذا تبع هواه، وارتكب المعاصي دخل قلبَه بكل معصية يتعاطاها ظلمةٌ، وإذا صار كذلك افتُتن، وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز، فإذا انكب انصب ما فيه، ولم يدخله شيء بعد ذلك.(شرح مسلم) (2 / 173).

     وقال ابن القيم رحمه الله: والفتن التي تُعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات، وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد. (إغاثة اللهفان) (1 / 12).

- أما أسباب النجاة من ذلك البلاء، وفك قفل القلوب، وفتحها لأسباب الهدى:

- أولا: التوبة والاستغفار: فقد مر معنا في حديث أبي هريرة: «فإِذا هو نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وتَابَ، صقِلَ قَلْبُهُ» فهذا أول ما يعمل العبد إذا أراد لنفسه النجاة: أنْ يعلم الذنب الذي أُتي من قبله، والباب الذي دخل عليه البلاء منه، ثم يطهر نفسه من رجس ذلك الذنب، ويغلق على نفسه باب ذلك البلاء.

- ثانيا: صمود القلب أمام ما يطرقه من فتن الشبهات والشهوات، وثباته في مواقف الفتن: هو من أعظم أسباب هدايته، وحفظ صحته وسلامته، وأما تعرضه للفتن، واستجابته لها: فهو من أعظم أسباب ضلاله وفساد حاله.

- ثالثا: أن يلازم الافتقار إلى من بيده مقاليد كل شيء، أن يزيل عنه ما أصابه، وأن يفتح قلبه للهدى والنور.

     وللإمام ابن القيم -رحمه الله- كلام جامع عظيم في هذا الأمر الجلل، قال رحمه الله: «ومما ينبغي أن يعلم: أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان؛ بأن يفَك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفلَ، ذلك الختمَ والطابع والقفل، ويهديه بعد ضلاله، ويعلمه بعد جهله، ويرشده بعد غيه، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر: لم يمتنع أن يمحوها ويكتب عليه السعادة والإيمان. وقرا قارئ عند عمر بن الخطاب: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(محمد: 24)، وعنده شاب فقال: «اللهم عليها أقفالها، ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك»، فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا. وكان عمر يقول في دعائه: «اللهم إنْ كنتَ كتبتني شقياً، فامحني واكتبني سعيدا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت».

والمقصود: أنه مع الطبع والختم والقفل، لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم والطابع وفتح ذلك القفل؛ يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء.

     وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه، وإنْ كان فك الختم وفتح القفل غير مقدور له؛ كما أن شرب الدواء مقدور له، وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور، فإذا استحكم به المرض وصار صفة لازمة له، لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء، وإن كان غير مقدور له، ولكن لما ألف العلة وساكنها، ولم يحب زوالها ولا آثر ضدها عليها، مع معرفته بما بينها وبين ضدها من التفاوت: فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية...

فإذا عرف الهدى فلم يحبه ولم يرض به، وآثر عليه الضلال مع تكرار تعريفه منفعة هذا وخيره، ومضرة هذا وشره: فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية.

     فلو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه، وأنه إن لم يهده الله فهو ضال، وسأل الله أن يُقبِل بقلبه، وأن يقيه شر نفسه وفَّقَه وهداه، بل لو علم الله منه كراهيةً لما هو عليه من الضلال، وأنه مرض قاتل، إن لم يشفه منه أهلكه لكانت كراهته وبغضه إياه، مع كونه مبتلي به، من أسباب الشفاء والهداية؛ ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له ورضاه به، وكراهته الهدى والحق.

     فلو أن المطبوع على قلبه، المختوم عليه، كره ذلك ورغب إلى الله في فك ذلك عنه، وفعل مقدوره لكان هداه أقرب شيء إليه، ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك، وسؤال الرب فكه وفتح قلبه». انتهى.

«شفاء العليل»، لابن القيم (192-193).

والله أعلم. 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك