رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 10 سبتمبر، 2012 0 تعليق

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 12 ) باب: النهي عن بناء المساجد على القبور


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 وبعد:

 فهذه تتمة الكلام عن أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

256 – عن عائشةَ أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن: ذكرتا كنيسةً رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجلُ الصالحُ فماتَ، بَنوا على قَبره مسجداً، وَصَوّروا فيه تلك الصُّور، أولئك شِرارُ الخلقِ عند الله عزّ وجل يومَ القيامة».

الشرح: قال المنذري: باب: النهي عن بناء المساجد على القبور.

والحديث أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (1/375 -376) في الباب السابق.

       قوله: «أن أم حبيبة» هي أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي، مشهورة بكنيتها مات سنة اثنتين أو أربع، وقيل: تسع وأربعين، وقيل: وخمسين، روى لها الجماعة.

قوله: «وأم سلمة» هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية المخزومية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، ماتت سنة اثنتين وستين، روى لها الجماعة.

قوله «ذكرتا كنيسة» هي معبد النصارى.

       قوله: «رأينها بالحبشة» رأتاها مع من معها من المهاجرات إليها، وذلك لما كانتا بالحبشة، زمن هجرة من هاجر من الصحابة إليها، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإشارته.

قوله: «فيها تصاوير» أي: فيها صور وتماثيل للأنبياء والصالحين.

       قوله: «إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجلُ الصالحُ فمات، بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصُّور» الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير في الكنيسة.

       قال القرطبي: وإنما صوّر أوائلهم الصور ليتأسوا بها، ويتذكروا أعمالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قومٌ جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك؛ سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك. انتهى.

       قوله «أولئك شرارُ الخلقِ عند الله عزّ وجل يومَ القيامة» وهذا القول منه صلى الله عليه وسلم يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور، وقد لعن صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك، كما مر معنا في الحديث السابق.

       قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.

       قال: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور، هي التي أوقعت كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإنّ النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك، فإنّ الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد بصلاحه، أقربُ إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر.

       قال: ولهذا تجد أهل الشرك يتضرّعون عندها ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادةً لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السَّحَر؟! ومنهم من يسجد لها؟! وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء، ما لا يرجونه في المساجد؟! فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإنْ لم يَقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يَقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت شروق الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يَقصد فيها المشركون الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وإنْ لم يقصد ما قصده المشركون؛ سداً للذريعة.

       قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله؛ فإنّ المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة عند القبور منهيٌ عنها، وأنه صلى الله عليه وسلم لعنَ من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه.

       قال: وقد صرّح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة، التي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم؛ إحسانا للظن بالعلماء، وألا يظن بهم أن يُجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله من لعن فاعله والنهي عنه. انتهى (فتح المجيد: باب ما جاء من التغليظ فيمن عَبَد الله عند قبر رجلٍ صالح، فكيف إذا عبده؟!).

       وقال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا، لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

       والعجب بعد ذلك من كثير ممن يدعي العلم بالقرآن والسنة النبوية، ثم لا ينكر هذا المنكر العظيم، بل ربما يحسّنه للناس؟! ويُفتي لهم بمشروعيته؟! وقد رأينا بعضهم يقيم الدروس العلمية في التفسير وغيره عند القبور والأضرحة؟؟ من غير أن ينكر هذا المنكر العظيم، ولا يحذر منه عوام المسلمين؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون من غربة الإسلام وأهله!!

وبناء المساجد على القبور، أمرٌ محرم يجب على ولاة الأمور السعي في إزالته وهدمه.

       قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ويجب هدم القباب التي على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وأما إذا كان القبر طارئا على المسجد، فيجب إخراج القبر من المسجد، ولا يجب هدم المسجد.

باب: جُعلتْ لي الأرضُ مسجداً وطهورا

257 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فُضلّت على الأنبياء بستٍ: أُعطيتُ جَوامعَ الكَلم، ونُصرتُ بالرُّعب، وأُحلتْ لي الغنائم، وجُعلتْ لي الأرضُ طَهوراً ومسجدا، وأُرسلتُ إلى الخَلقِ كافةً، وخُتم بي النبيون».

الشرح:  قال المنذري: باب: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا.

والحديث أخرجه مسلم في أول كتاب المساجد (1/371).

وأخرجه البخاري في التيمم وفي الجهاد (2977) وفي (7013) وفي الاعتصام (7273)

       قوله: «فُضلّت على الأنبياء بستٍ» وفي الرواية الأخرى «بعثت بجوامع الكلم». وجوامع الكلم هي القرآن العظيم، الذي يحوي المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، وكذلك يقع في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم باللفظ الموجز، القليل اللفظ الكثير المعنى، قال الحافظ: والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ واتساع المعاني.

       وقوله: «ونُصرتُ بالرُّعب»، وفي رواية: «مسيرة شهر» قال الحافظ ابن حجر: وظهر لي أن الحكمة في الاقتصار على الشهر، أنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار التي حوله أكثر من ذلك، كالشام والعراق واليمن ومصر، ليس بين المدينة النبوية للواحدة منها إلا شهر فما دونه.

       قال: وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب، بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو. (الفتح 6/128).

       قوله: «وأُحلتْ لي الغنائم» وفي رواية «ولم تحل لأحد قبلي» كما قال الله تعالى: {فكُلوا مما غَنمتم حَلالاً طيباً} (الأنفال: 69)، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة الإسلامية، حيث أحل لها الغنائم وجعلها لهم حلالا، وكانت على الأمم السابقة حراما؛ ولهذا قال في ختام الآية {إنّ الله غفورٌ رحيم}. وكانت الغنائم من قبلنا تُجمع ثم تأتي نارٌ من السماء فتأكلها، كما جاء مبينا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في حديث يوشع بن نون عليه السلام.

قوله «وجُعلتْ لي الأرضُ طَهوراً ومسجدا», وهذا موضع الشاهد من الحديث في الباب؛ فإن التيمم هو من خصائص هذه الأمة المسلمة وحدها دون بقية الأمم، وهو من نعمة الله عليها، ورحمته لها، وتيسيره لها أمور دينها، فلم يجعل عليها حرجا ولا ضيقا ولا عسرا، كما قال الله تعالى: {فلم تَجدوا ماءً فتيّمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يُريد الله ليَجعل عليكم منْ حَرجٍ ولكن يُريد ليطهركم وليُتمّ نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (المائدة: 6)، وهو مما يستوجب شكر الله عز وجل وحمده ومحبته.

وقد جاء في الرواية الأخرى: «وجعلت تربتها لنا طهورا».

       وقد احتج بالرواية الأولى مالك وأبوحنيفة رحمهما الله وغيرهما ممن يرى جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض.

       واحتج بالرواية الثانية الشافعي وأحمد رحمهما الله وغيرهما ممن لا يرى جواز التيمم إلا بالتراب خاصة، وحملوا الرواية المطلقة وهي: «جعلت الأرض» على المقيدة وهي «تربتها» فلا يصح التيمم إلا بالتراب.

وفي الرواية الأخرى: «وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء».

       كما يجوز التيمم عند عدم القدرة على الوصول للماء؛ لكونه في أرض بعيدة، أو في بئر عميقة ولا يستطيع الوصول إليه، أو لا يجد ثمنه.

كما يجوز التيمم إذا لم يقدر على استعمال الماء بسبب المرض.

       وقوله «مسجدا»، معناه: أن من كان قبلنا من الأمم، إنما أبيح لهم الصلاة في مواضع مخصوصة، كالبِيَع والكنائس والصوامع.

       قال القاضي عياض: وقيل: إن من كان قبلنا كانوا لا يصلون إلا فيما تيقنوا طهارته من الأرض، وخصصنا نحن بجواز الصلاة في جميع الأرض، إلا ما تيقنا نجاسته. انتهى.

       قوله «وأُرسلتُ إلى الخَلقِ كافةً» كما قال تعالى: {قلْ يأيها الناسُ إني رسولُ الله إليكم جميعا} (الأعراف:8)، وقال سبحانه: {وما أَرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً} وقال سبحانه {وما أَرسلناك إلا رحمةً للعالمين} وغيرها من الآيات الكريمة الدالة على عموم رسالته للناس كافة.

       وفي الرواية الأخرى: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود»، قيل الأحمر: البيض من العجم، والأسود: العرب لغلبة السمرة عليهم، وقيل: الأسود: السودان، وبالأحمر من عداهم من العرب وغيرهم، وقيل: الأحمر: الإنس، والأسود الجن، قال النووي: والجميع صحيح، فقد بعث إلى جميعهم.

       وقوله: «وخُتم بي النبيون» فهو خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، كما قال الله تعالى {ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكنْ رسولَ الله وخاتم النبيين} (الأحزاب: 40).

       وإذا كان هو خاتم الأنبياء، فهو خاتم الرسل من باب أولى؛ لأن النبوة أعم من الرسالة، فإذا انتفت، انتفت الرسالة من باب أولى لأنها أخص، فكل نبي رسول، وليس العكس (انظر شرحنا على الطحاوية).

والله تعالى أعلم .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك