رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 6 يوليو، 2021 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: ما يَخْرجُ مِنْ زَهْرة الدُّنيا


عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رضي الله عنه - قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَ النَّاسَ فقال: «لَا وَاللَّهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا». فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةً، ثُمَّ قَال: «كَيْفَ قُلْتَ؟» قَال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، أَوَ خَيْرٌ هُوَ؟ إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ، يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الخَضِرِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا؛ اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ، ثَلَطَتْ أَوْ بَالَتْ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ، فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ، فَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ ولَا يَشْبَعُ»، الحديث أخرجه مسلم في الزكاة (2/727) باب: تَخوّف ما يَخْرج من زهرة الدنيا.

     قوله: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَ النَّاسَ «ظاهر هذا أنه ليس في يوم جمعة، وكان مِنْ عادة النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه إذا أراد أن يُحذِّرُ أصحابَه شيئا، أو يُذكرهم شيئا مهما، أنْ يَصعد المنبر، فهو أبلغ في إيصال الصَّوت، وأقرب لشدّ الانتباه.

واللهِ ما الفقر أخْشَى عليكم

     قوله:» لَا وَاللَّهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا» يَقول الصَّحابيُّ أبو سَعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قامَ ذاتَ يَومٍ على المِنبَرِ في مَسجِدِه، والنَّاسُ حَولَه - صلى الله عليه وسلم -، فبَيَّنَ لهم أنَّه لا يخاف عليهم الفقر والحاجة، كما صرّح به في رواية الصحيحين: عن عمرو بن عوف - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «واللهِ ما الفقر أخْشَى عليكم، ولكنِّي أخْشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا، كما بُسِطَتْ على مَنْ كانَ قبلكم، فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، وتُهْلككم كما أهْلكتهم»، فكان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يَتخَوَّفُ على أُمَّتِه زهرة الدنيا، أي: حُسْنِ الدُّنيا وجَمالِها، وبَهجَتَها الفانيةَ، مِن مالٍ وتجارة، وما يُفتَحُ عليهمْ مِن بَرَكاتِ الأرضِ وخَيراتِها، وأنْ تكونَ هذه الخَيراتُ سَبَبَ الفِتنةِ، والبُعدِ عنْ دينِ اللهِ -تعالى- ومَنهَجِه، وشَبَّه - صلى الله عليه وسلم - الدُّنيا بالزَّهرةِ؛ لأنَّها سَريعةُ الذُّبولِ، فعمرها قصير، وكذا الدُّنيا سَريعةُ التَّغيُّرِ والأُفُولِ.

زهرة الحياة الدنيا

     وقد ورد هذا التشبيه في القرآن الكريم، كما في قوله -تعالى-: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131)، أي: لا تَمْدد عينيك مُعْجباً، ولا تكرِّر النظر مُسْتحسناً، لأحْوال الدنيا والمُمتَّعين بها، مِنَ المآكل والمشارب اللَّذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المُزخرفة، والنِّساء المجمَّلة، فإنَّ ذلك كلَّه زهرة الحياة الدنيا، تَبْتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجاباً بأبصار المُعْرضين، ويتمتّع بها القوم الظَّالمون، ثم تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، وتقتل مُحبِّيها وعشَّاقها، فيَنْدمُون حيثُ لا تنفع النَّدامة، ويَعلمون ما هم عليه إذا قَدِموا يومَ القيامة، وإنَّما جعلها الله فتنةً واختباراً، ليَعلم مَنْ يقف عندها ويغترُّ بها، مَنْ هو أحسنُ عملاً، كما قال -تعالى-: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} (الكهف: 7-8).

     {وَرِزْقُ رَبِّكَ} العاجل، مِنَ العِلْم والإيمان، وحقائق الأعْمال الصَّالحة، والآجل مِنَ النَّعيم المُقيم، والعيش السَّليم، في جوار الربِّ الرحيم {خيرٌ} ممَّا متعنا به أزواجاً مما يُشابهه في ذاته وصفاته {وَأَبْقَى} لكونه لا يَنْقطع، فالجنَّة أُكُلها دائمٌ وظلُّها، كما قال -تعالى-: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: 16-17)، وفي هذه الآية، إشارة إلى أنَّ العبد إذا رأى مِنْ نفسه طُموحاً إلى زينة الدُّنيا، وإقبالاً عليها، أنْ يَذكر ما أمَامها مِنْ رزقِ ربِّه، وأنْ يُوازن بين هذا وهذا. انظر تفسير السعدي.

أيأتي الخَير بالشر؟

     قوله: «فقال رجل: يا رسولَ الله: أيأتي الخَير بالشر؟» هو اسْتفهام إنكارٍ واسْتبعاد، هلْ يكونُ ما يُفتَحُ على المُسلِمِ مِن بَرَكاتِ الأرضِ يكون شرا عليه ؟ فهذا الشيء خير، فكيف يترتب عليه شرٌّ؟ فهذا الرجل يقول: إنَّما يحصل ذلك الخير لنا؛ منْ جهةٍ مباحة، كغنيمةٍ وفيءٍ ورزق وغيرها، وذلك خير، فهل يأتي هذا الخير بالشَّر والفتنة فتَصيرَ النِّعمةُ عُقوبةً؟ كأنَّ الرَّجُلَ استَشكَلَ أنْ يَأتِيَ الشَّرُّ مِن داخِلِ الخَيرِ، أو بسَبَبِه.

      قوله: «فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةً، ثُمَّ قَال: «كَيْفَ قُلْتَ؟» ربَّما كان - صلى الله عليه وسلم - يُوحَى إليه، أو ينتظر أنْ يُوحَي إليه للجواب عن سؤاله. وقوله: «إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» أي: إنَّ الخيرَ الحقيقي لا يأتي إلا بخير، أي: لا يترتب عليه إلا خير.

قوله: «أوَ خيرٌ هو؟»

     ثم قال: «أوَ خيرٌ هو؟» معناه: أنَّ هذا الذي يحصل لكم مِنْ زهرة الدنيا ليس بخير مُطلقاً، وإنّما هو فتنة أحياناً، وتقديره: الخيرُ لا يأتي إلا بخير، ولكن ليست هذه الزهرة بخير على كلِّ حال، لما تُؤدي إليه مِنَ الفِتنة والغفلة والمُنَافسة، والاشْتغال بها عن كمال الإقْبال على الآخرة، ثم ضَرَب - صلى الله عليه وسلم - لذلك مثلاً، فقال: «إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ؛ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ؛ إِلَّا آكِلَةَ الخَضِر..» قوله: «أوَ خيرٌ هو» فهو بفتح الواو، و«الحَبط» بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة: التُّخمة.

     وقوله: «أو يُلم» معناه: أو يُقارب القتل. قوله: «إلا آكلة الخَضر» هو بكسر الهمزة من «إلا» وتشديد اللام على الاستثناء، هذا هو المشهور، الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة وغيرهم، قال القاضي: ورواه بعضهم «ألا» بفتح الهمزة وتخفيف اللام، على الاستفتاح.

     و»آكلة الخضر» بهمزة ممدودة، «والخَضِر» بفتح الخاء وكسر الضاد، هكذا رواه الجمهور، قال القاضي: وضبطه بعضهم «الخُضَر» بضم الخاء وفتح الضاد. وقوله: «ثلطت» هو بفتح الثاء المثلثة، أي: ألقت الثَّلط، وهو الرَّجيع الرقيق، وأكثر ما يقال للإبل والبقر والفيلة. قوله: «اجترت» أي: مضغت جرَّتها. وهو ما يُخرجه البعير من بطنه، ليمضغه ثم يبلعه.

فوائد الحديث

- شاءَ اللهُ -تعالى- وقَضَى بحِكمَتِه البالِغةِ أنْ يَجعَلَ الدُّنيا دارَ ابتِلاءٍ واختِبارٍ؛ فمِن النَّاسِ مَن يَغتَرُّ بزِينَتِها، ويَتَنافَسُ عليها، ومِنهم مَن يَعلَمُ حَقيقَتَها، فيَنزَوي عنها، ويَزهَدُ فيها، ويَرغَبُ في الآخِرةِ وما عِندَ اللهِ، فيَجعَلُ الدُّنيا وما فيها مِن مُتَعٍ زائِلةٍ وَسيلةً تُوَصِّلُه إلى نَعيمِ الآخِرةِ الباقي.

- إنَّ الخَيرَ الحَقيقيَّ المَحضَ، كالإسلامِ والطاعة كُلُّه خَيرٌ، ولا يَأتي إلَّا بالخَيرِ، ولكنَّ هُناكَ أنواعًا مِنَ الخَيرِ قد تَأتي بالشَّرِّ، مِثلَ المالِ؛ فإنَّه خَيرٌ، ولكِنَّه قد يأتي بالشَّرِّ إذا اكتَسَبَه مِن مُحَرَّمٍ، أو أساءَ في إنفاقِه، أو اشتغل به عن الآخرة. وهذا الجوابُ مِنَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إشارةٌ إلى أنَّ مَتاعَ الدُّنيا وبَرَكاتِ الأرضِ، ليسَتْ خَيرًا حَقيقيًّا خالِصًا؛ لِمَا فيها مِنَ الفِتنةِ، والاشتغالِ عن الإقبالِ على اللهِ -تعالى-، في أغلَبِ الأحوالِ.

- في الحديث ضَرَبَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأمثال الحسيَّة، لتقريب المعاني للأفهام، فبَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذا المالَ مَحبوبٌ ومَرغوبٌ فيه، تَرغَبُ فيه النَّفْسُ، وتَحرِصُ عليه بطَبيعَتِها، كما تُحِبُّ الفاكِهةَ أوِ النَّباتاتِ الخَضراءَ النَّضِرةَ، الشَّهْيَّةَ المَنظَرِ، الحُلوةَ المَذاقِ، فمَن يَضُرُّه مَتاعُ الدُّنيا، جَعَلَه كالدَّابَّةِ والماشيةُ التي تَأكُلُ ما يَنبُتُ بفصل الرَّبيعِ، المَشهورُ بالإنباتِ والزُّروعِ، فتَأكُلُ حتَّى يُصيبَها الحَبَطُ، وهو انتِفاخُ البَطْنِ مِن كَثرةِ الأكلِ، وهو داءٌ يُؤدِّي إلى المَوتِ، أو يُلِمُّ، أي: يُقرِّبُ مِنَ المَوتِ، وهذا مِثالُ الخَيرِ غَيرِ الخالِصِ الذي يَنقَلِبُ شَرًّا على صاحِبِه، إذا أساءَ التَّعامُلَ معه.

- بيَّنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ النَّاجيَ مِن هذه الدَّوابِّ هو آكِلةُ الخَضِرِ فَقَطْ، أيِ: الدَّابَّةُ التي تَأكُلُ الخَضِرَ فَقَطْ، والخَضِرُ: هو اسمٌ لِمَا اخضَرَّ مِنَ الكَلَأِ الذي لم يَصفَرَّ؛ فإنَّ الماشيةَ تَرتَعُ منه شَيئًا فشَيئًا، حتَّى يَمتَلئَ خَصْرُها، أيْ: مَعِدَتُها، ثم بعْدَ أنْ تَأكُلَ مِن هذا الخَيرِ وتَهنَأَ به، استَقبَلتِ الشَّمسَ مُنتَفِعةً بدِفئِها، وجاءتْ وذَهَبتْ، ثمَّ ثَلَطَتْ وبالَتْ، أي: ألْقَتْ بَعْرَها رَقيقًا، فيَخرُجُ رَجيعُها عَفْوًا مِن غَيرِ مَشقَّةٍ، فيَبقى نَفْعُ ما أكَلَتْ، ويَخرُجُ فُضولُها، ولا تَتأذَّى بها.

     وهكذا مَن أُعْطِيَ المال فأخْرَجَ منه زَكاته، على المِسكينِ واليَتيمِ وابنِ السَّبيلِ، فهو نِعْمَ الصَّاحِبُ الذي يَشهَدُ له يَومَ القيامةِ، وأمَّا مَن أخَذَه بغَيرِ حَقِّه فإنَّ اللهَ يَنزِعُ منه البَرَكةَ، ويَسلُبُ صاحِبَه القَناعةَ، فيُصبِحُ فَقيرَ النَّفْسِ دائِمًا، ولو أُعطِيَ كُنوزَ الأرضِ، وكان كالذي يَأكُلُ ولا يَشبَعُ، فهو كالمَلهوفِ الذي لا يَشبَعُ مِنَ الطَّعامِ مهْما أكَلَ منه؛ لأنَّه كلَّما نالَ منه شَيئًا ازدادَتْ رَغبَتُه، واستقَلَّ ما عِندَه، ونَظَرَ إلى ما فَوقَه، فيَظَلُّ مُتعَطِّشًا إليه، شَرِهًا في طَلَبِه ما بَقيَ حَيًّا، ويَأتي هذا المالُ شاهِدًا عليه يَومَ القيامةِ بحِرْصِه، وإسرافِه، وإنفاقِه فيما لا يُرضِي اللهَ عزَّ وجلَّ.

- وفيه: أنَّ لِلعالِمِ أنْ يُحذِّرَ مَن يُجالِسُه مِن فِتنةِ المالِ وغَيرِه، ويُنَبِّهَه إلى مَواضِعِ الخَوفِ مِنَ الافتِتانِ به.

- وفيه: الحَضُّ على الاقتِصادِ في المالِ، والحَثُّ على الصَّدَقةِ وتَركِ الإمساكِ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك