رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 17 يونيو، 2021 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: كراهية الحِرْص على الدنيا


عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ، وتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، والْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ». الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/727) باب: كراهة الحرص على الدنيا، ورواه البخاري في الرقاق (642) ولفظه: «يَكْبَرُ ابنُ آدَمَ، ويَكْبَرُ معهُ اثْنَانِ: حُبُّ المَالِ، وطُولُ العُمُرِ»، ورواه أيضاً (6420): عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: «لا يَزالُ قلبُ الكبيرِ شاباً في اثنتين: في حبّ الدُّنيا، وطُول الأمل».

قوله: «يَكبَر ابنُ آدم» أي: يَطعُن في السِّنِّ، «ويَكبُر» أي: ويَعظُم معه اثنان: «حبُّ المال، وطول العمر» أي: الحرصُ على المال وجمعه، وكراهيَة الموت، وقوله: «لا يَزالُ قلبُ الكبيرِ شاباً» يعني وإنْ كبُر في السنّ، فقلبه يظل كالشابّ في هاتين الخصلتين.

الحكمةُ في التَّخصيص بهذين الأمرين

     الحكمةُ في التَّخصيص بهذين الأمرين أنَّ أحَبَّ الأشياء إلى ابن آدمَ نفسُه وحياتها؛ فهو راغبٌ في بقائها؛ فأحَبَّ لذلك طولَ العمر، ويكره الموت، وكذلك أحَبَّ الأشياء له المال؛ لأنَّه من أعظمِ الأسباب في دوام الاستمتاع بالحياة، وتحصيل ملذّاتها، والتي يَنشأ عنها غالبًا طول العُمر، فكلَّما أحَسَّ بقُرب نفادِ ذلك، اشتدَّ حبُّه له، ورغبته في دوامِه وزيادته، وقد جُبلت النُّفوس على حبِّ المال واقتنائه، كما قال -تعالى-: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20). وروى البخاري ومسلم: من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كان لابنِ آدمَ واديان منْ مال؛ لابتَغى ثالثاً، ولا يَملأ جوفَ ابن آدم إلا التُّراب».

     ويزيد ذلك مع عدم الإيمان بالله -تعالى-، كما قال -تعالى-: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 96)، يقول الله -تعالى-: يا محمد، لتجدن أشد الناس حرصاً على الحياة في الدنيا، وأشدّهم كراهة للموت: اليهود والذين أشركوا.

نعمة المال

     ونعمة المال من نعم الله العظيمة على عباده، فلا عجب أنْ يطمع بها الناس، كما قال -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46)، وقال -تعالى- ممتنَّاً على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بهذه النِّعمة: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (الضحى: 8)، وقال -تعالى-: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران: 14)، قال عمر - رضي الله عنه -: «اللهُم إنَّا لا نَسْتطيعُ إلا أنْ نَفرحَ بما زيَّنته لنا، اللَّهمَّ إني أسْألك أنْ أنفقه في حقِّه». رواه البخاري في الرقاق.

     ومعلوم أنَّ المال إمّا أنْ يُستخدم في الخَير أو في الشر، فهو اختبار وابتلاء، قال -تعالى-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن: 15)، وهو من الفتن العظيمة التي يُبتلى بها المؤمن وغيره، والقليل من الناس منْ يَصبر عندها، وهو مِنْ أعظم فتن هذه الأمّة، كما روى الإمام أحمد في مسنده: من حديث عياض بن حمار - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وإنَّ فتنةَ أمَّتي الْمالُ». (29/215)، وقال الإمام أحمد: ابتلينا بالضَّراء فصبرنا، وابْتلينا بالسَّراء فلمْ نَصْبر.

تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من فتنة المال

     وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمتَّه من فتنة المال، فعن عمرو بن عوف - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم-  قال لأصحابه: «فأبْشروا وأمِّلوا ما يسُرُّكم، فوالله لا الفقر أخْشَى عليكم، ولكنْ أخْشَى عليكم أنْ تُبْسط عليكم الدنيا؛ كما بسطت على مَنْ كان قبلكم، فتَنافسُوها كما تنافسوها، وتُهْلككم كما أهلكتهم». رواه البخاري (4015) ومسلم (2961).

أحوال الناس اليوم

     والذي يتأمل في أحوال الناس في هذه الأيام، وانكبابهم على كسب هذا المال بأي وسيلة كانت، سواء كان مساهمات في شركات مشبوهة، أم معاملات فيها مخالفات شرعية كالربا، والغش، أم أكل أموال الناس بالباطل وغيرها، يعلم وقوع هذه الفتنة، ويتذكَّر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «ليأتينَّ على الناسِ زمانٌ لا يُبَالي المَرء بما أخذ المال: أمن حلالٍ أمْ منْ حَرام». رواه البخاري في صحيحه (2083).

     والعبد يُسأل عن ماله يوم القيامة، مِنْ أين اكتسبه؟ وماذا عمل فيه؟ فروى الترمذي في سننه: من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَزُول قدَما عَبدٍ يوم القيامة؛ حتى يُسْأل عن عُمْره فيم أفْنَاه، وعنْ علمه فيم فعل، وعن ماله منْ أينَ اكتَسبه، وفيمَ أنْفقه، وعنْ جَسمه فيم أبلاه». رواه الترمذي (2416).

المال عرض زائل

     وقد أخبر -عزّ وجل- أنَّ المال عرض زائل، ومتاع مفارَق، قال -تعالى-: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20،) ومن حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله». رواه البخاري (651)، ومسلم (2960). وروى البخاري ومسلم: من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قمتُ على بابِ الجنة فكان عامّة مَنْ دخلها المساكين، وأصحاب الجَد محبوسون»، أي: أنَّ الأغْنياءِ مَوْقوفونَ ومَحْبوسونَ يومَ القِيامةِ، حتى يُحاسَبوا على حُظوظِهم مِن الدُّنيا.

     فهذا المال إنْ لم يستخدمه صاحبه في طاعة الله، وينفقه في سبيله، كان وبالاً وحسرة عليه، قال -تعالى-: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: 55)، وقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (الأنفال: 36).

المال ليس دليلاً على محبة الله له

     وبعض الناس يغلط، ويظن أن من رُزِق مالاً كثيراً، فإنه دليل على محبة الله له! والأمر ليس كذلك، فإن الدنيا يعطيها الله مَن يحبُّ ومَن لا يحب، وقد ذكر الله هذا عن الإنسان، وأخبر أن الأمـر ليس كما ظن، قال -تعالى-: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: 55-56)، وقال -تعالى-: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (الفجر: 15-17).

اثنتان يَكرههما ابن آدم

     وفي حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اثنتان يَكرههما ابن آدم: الموت، والموت خيرٌ للمُؤمن مِنَ الفتنة، ويَكره قلَّة المال، وقلّة المال أقلّ للحساب». رواه الإمام أحمد (23625)، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمس مئة عام». رواه أحمد (8521).

القناعة وعيش الكفاف

     وقد مرَّ معنا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد أمته إلى القناعة، وعيش الكفاف، كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح مَنْ أسْلم، ورُزق كفافاً وقنَّعه الله بما آتاه». رواه مسلم (1054)، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس الغِنى عن كثرة العَرَض؛ ولكن الغنى غنى النفس»، ومعنى الحديث: الغنى المحمود هو غنى النفس وشبعها، وقلَّة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأنّ من كان طالباً للزيادة، لم يستغنِ بما عنده، فليس بغني.

قال الشاعر:

النفـسُ تَجزعُ أنْ تكـون فقــيرة

                                          والفقــر خيرٌ مِنْ غنى يُطْغيها

وغِنى النفوس هو الكفاف فإنْ أبتْ

                                          فجميع ما في الأرضِ لا يَكفيها

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك