رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 16 مارس، 2021 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: كراهية المسألة للناس

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنْ عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَال: «لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، ولَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ». الحديث رواه مسلم في الزكاة (720) وبوب علي النووي بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الزكاة (1474) باب: مَن سأل الناس تكثراً، بلفظ: «ما يزالُ الرجلُ يسألُ الناسَ حتى يأتي يوم القيامة..»، قال ابن حجر: باب: مَن سأل الناس تكثراً، أي: فهو مذموم.

قوله: «لا تزالُ المسألة بأحدكم» المسألة أي: سؤال الناس الصَّدقات والنفقات، ليَجمع الكثير من أمْوالهم من غير احتياج.

حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ ولَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ

     قوله: «حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ ولَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»، وفي رواية النسائي: «حتى يأتي يومَ القيامة» أي: لا يزال يسأل الناس، ويداوم على ذلك، ويتعرّض لهم بوجهه، حتى يلقى الله -تعالى- وليس في وجْهه مُزْعَة لحم، والمُزعة يعني: القِطعة، أي: أنَّه يلقى الله -تعالى- وقد تَساقط لحمُ وجهه، من كثرة سؤاله، نسأل الله السلامة والعافية، قال الخطابي: يحتمل أنْ يكون المراد أنَّه يأتي ساقطاً لا قدر له ولا جاه، أو يُعذب في وجهه حتى يسقط لحمه لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنّه يبعث ووجهه عَظْمٌ كلّه، فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به. انتهى. قال الحافظ: والأول صَرفٌ للحديث عن ظاهره.

مَنْ سألَ الناسَ أموالَهم تكثرًا

     وأيضًا: صحَّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سألَ الناسَ أموالَهم تكثرًا، فإنَّما يَسْألُ جَمرًا؛ فليَسْتقل أو ليستكثر». رواه مسلم، وفي هذا الحديث أيضاً: بيانُ الوعيد لمَن سَأل الناس أمْوالهم بغير ضرورة، يعني: مَنْ سألَ الناسَ أموالهم ليكثر بها ماله، فإنَّما يَسْأل جمرًا يُعذّب به، فليستقلّ أو ليَسْتكثر، فإنْ اسْتكثر زادَ الجَمرُ عليه، وإنْ اسْتقلَّ قلَّ الجمرُ عليه، وإنْ تركَ ذلك؛ سَلِمَ مِنَ الجَمر؛ ففي هذا دليلٌ على أنَّ سؤالَ الناس بغير حاجة؛ مِنْ كبائر الذنوب، وقال المناوي: «فإنْ احتاجَ ولم يقدر على كسْبٍ لائق، جازَ بشرط أنْ لا يُذلَّ نفسه، ولا يُلح، ولا يُؤذي المَسْؤول؛ فإنْ فقد شرط منها حَرُم اتفاقًا». اهـ. من فيض القدير.

مَن أصابته فاقة وضرورة

     ويدخل في هذا الحديث: مَن أصابته فاقة، وضرورة وحلَّت له المسألة، بأنْ تَحمّل حَمَالة أو نحو ذلك، فأدرك حاجته وكفايته، أو أنه مريضٌ يحتاج للدواء أو لعملية جراحيّة، وقد انتهى من ذلك كلِّه، لكنه لم يقف عند هذا الحد، بل استمرَّ بالطلب والسؤال، فمن الناس من إذا اعتاد على السؤال، وبقي يطلب الناس ويواجههم بذلك، بعد أن كان في البداية يتحرَّج ويستحي، ولكنه بعد مدة يستمرئ هذه المسألة، ويرى أنّ هذه مكاسب تأتيه منْ غير تعبٍ ولا كدّ، فيستمر في هذا الطريق، وقد تكون هذه النازلة التي نزلت به قبل سنوات وانتهت، وقُضيت تلك الديون أو المطالبات، ولكنه يستمر على هذا الأمر، وبعضهم لا يزال يُخرج هذا الصكَّ بالدَّين حيناً بعد حين، ويسأل الناس متنقلا به من مسجدٍ إلى مسجد وفي كل فرض، ولربما ما حصله في صلاة الجمعة، ما قد يكفيه لشَهره، لكن يبقى هذا الإنسان في كل فرض وفي مسجد يسأل متنقلاً من منطقة إلى أخرى، وتكون هذه مهنته ووظيفته، فإن هذا أمرٌ مُحرَّم، ومالٌ حرام.

الاحتيال لأخذ أموال الناس

وأسوأ من ذلك: مَنْ يَحتال على أخذ الأموال من المسلمين، كأنْ يتظاهر أنَّه عابرٌ سبيل ومنقطع في سفره، وأنه يريد ما يتبلغ به، ونحو ذلك، وهو كاذب.

     وأسوأ من ذلك كلّه: مَنْ يسأل الناس لأعمال خيرية، وأنها في سبيل الله، أو في بناء مساجد، وهو كاذبٌ، وربما بقى هذا المسجد أكثر من خمس عشرة سنة، وهو مازال يسأل الناس له؛ كذباً عليهم وتحايلا، فهذا أسوأ ما يكون؛ لأنه يأكل أموالَ الناس باسم الدِّين والعبادة والصّلاح، وجاء في الحديث أيضًا: تأتي المسألة مع وجُود الكفاف نُكتة في وجه السائل يوم القيامة، وذلك أنَّ المسألة إنما هي كدحٌ يَكدح الإنسان به وجهه، لأنه لم يصنه- نسأل الله العافية- بهذا السؤال، وهذا يدل على أن أصل المسألة محرم، يعني: الذي يسأل الناس أموالهم، فعله هذا مُحرم، إلا للضرورة، وقد جاء بيان ذلك في الحالات الثلاث التي سيأتي ذكرها في الحديث.

     وصحَّ في الحديث: أنّ مَنْ يَملك خمسين درهماً فهو غنيٌ، لا يجوز له سؤال الناس: فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَأل الناس، وله ما يُغنيه، جاء يوم القيامة ومسألتُه خُموس أو خُدوش، أو كدوح، قيل: يا رسول الله، وما يُغْنيه؟ قال: «خمسون درهماً، أو قيمتها مِنَ الذهب». أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، والدرهم النبوي يساوي:جرامين من الفضة و(975) من الألف من الجرام، أي: بالتقريب يساوي ثلاثة جرامات من الفضة.

من طلب حاجة دون وجه حق

     ففي هذا الحَديثِ: «مَن سأَل النَّاسَ» أي: طلَب حاجتَه فيهم دُونَ وجهِ حَقٍّ ولم يُعِفَّ نفْسَه، «وله ما يُغْنيه»، أي: وعِندَه ما يَكْفيه عن سؤالِ النَّاسِ، «جاء يومَ القيامَةِ ومَسأَلتُه»، أي: وأثَرُ تِلك المسألةِ، «في وجْهِه خُموشٌ، أو خُدوشٌ، أو كُدوحٌ»، والثَّلاثةُ متقاربةٌ في المعنى، والمرادُ: كالجُرحِ في وَجهِه، وقيل: ذَهابُ الكَرامةِ والحياءِ منه، وقيل: هي أماراتٌ يُعرَفُ بها يومَ القيامةِ أنَّه ممَّن كان يَسأَلُ النَّاسَ في الدُّنيا، والألفاظُ الثلاثة تَدُلُّ على حَجمِ مُساءَلتِه للنَّاسِ مِن القِلَّةِ والكثرةِ، فالخَمْشُ أشَدُّ في مَعناه مِن الخَدْشِ، والخدشُ أبلَغُ أثَرًا مِن الكَدْحِ.

     «قيل: يا رسولَ اللهِ، وما يُغْنيه؟» أي: سُئِلَ ما حَدُّ كِفايَتِه الَّتي إذا سأل النَّاسَ وهو عِندَه وقَع عليه الجزاءُ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمسون دِرهمًا أو قيمتُها مِن الذَّهبِ» أي: هذا حَدُّ كِفايَتِه، والقَدْرُ مِن المالِ الَّذي يَمتنِعُ به عن السُّؤالِ، ويُؤخذ مِنْ هذا الوعيد وهذا التَّرهيب: تحريم الإلْحاح في السؤال، وتحريم السؤال لمن أغناه الله -تعالى- بالكفاف، وتحريم السؤال لمن يسأل استزادة وتكثراً.

ذمّ السُّؤال والسائلين

     وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذمّ السُّؤال والسائلين: «ولا فَتَح عبدٌ بابَ مَسألة؛ إلا فَتَح اللهُ عليه بابَ فقر». رواه الترمذي، وصححه الألباني، وعن ثوبان - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يتكفَّل لي أنْ لا يَسأل الناس شيئًا؛ فأتكفَّل له بالجنة؟» فقلت: أنا، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا. رواه أبو داود، وصححه الألباني.

     وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المَسألةَ كدٌ يكدُّ بها الرجل وجْهه؛ إلا أنْ يَسأل الرجل سُلطاناً، أو في أمر لا بدَّ منه». رواه الترمذي، ومعنى: «كدٌّ يكدُّ بها الرجل وجْهه» هو الخدش. ومعنى: يسأل السلطانَ: أي مما له فيه حقٌ من بيت المال، أو نحو هذا. «أو في أمر لابدَّ منه» أي: للضرورة، قال أبو حامد الغزالي في الإحياء: السؤالُ حرامٌ في الأصل، وإنما يُباح بضرورةٍ، أو حاجةٍ مُهمة قريبة منَ الضرورة، فإنْ كان عنها بدٌ فهو حرام. انتهى.

ما يؤخذ من هذه الأحاديث

- ربَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه على العِفَّةِ عمّا في أيدي الناس، وعِزَّةِ النَّفسِ، ومن ذلك: أنَّه نَهَى عن سُؤالِ النَّاسِ والْتِماسِ الحاجَةِ مِنهم، إلَّا عِندَ الاضطِرارِ والحاجةِ الشَّديدةِ، وهذا مِن التَّربيةِ النَّبويَّةِ للمُسلِمين على التَّكفُّفِ والتَّعفُّفِ، وعدَمِ سُؤالِ النَّاسِ، أو الطَّمعِ في أموالِهم، فإنَّ اللهَ يُحِبُّ مِن العَبدِ أن يَسأَله ويتوجّه إليه، وهو سُبحانَه عِندَه خزائنُ السَّمواتِ والأرضِ، وهو الغنيّ الحميد.

- المالُ مِن فِتَنِ الحياةِ الدُّنيا، كما قال -تعالى-: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران: 14). فيَنبغي لِلمُؤمِنِ أنْ يَصُونَ نفْسَه عن الحِرصِ على المال والشٌّح به، وأنْ يَحترِزَ مِن التطلَّعَ إلى ما في أيْدي الناسِ، وألا يَجترِئَ على سُؤالِهم بغَيرِ حاجةٍ، فيَبَوءَ بخِزْيِ الدُّنيا، وعذاب الآخرةِ.

- وفي الأحاديثُ: يبَيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الإنسانَ الذي يَسأَلُ الناسَ عن غَيرِ فَقْرٍ وفاقةٍ، وإنَّما يَسأَلُ تَكثُّرًا، ويُذِلُّ نفْسَه، ويَمتهِنُ كَرامتَه الَّتي أوجَبَ اللهُ عليه صِيانتَها- يَغضَبُ اللهُ عليه يوم القيامة، فيُذِلُّه ويُهِينُه كما أذَلَّ نفْسَه في الدُّنيا، ويَفضَحُه على رُؤوسِ الأشهادِ، فيَسلَخُ له وَجْهَه كلَّه، حتَّى يَأتيَ أمامَ النَّاسِ وليس في وَجْهِه قِطعةُ لحمٍ؛ جَزاءً وِفاقًا لِما فَعَله في الدُّنيا مِن إراقةِ ماءِ وَجْهِه. ففيه ترهيب ووعيد شديد له، نسأل الله أنْ يرزقنا العَفاف والقناعة والغِنَى، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمَّن سواه، وبطاعته عن معصيته.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك