رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 2 فبراير، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: قبول النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم – الهديّة وردّ الصَّدقة

 

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ، سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ أَكَلَ مِنْهَا، وَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ، لَمْ يَأْكُلْ مِنْها، الحديث أخرجه مسلم في الزكاة (2/756) وبوّب عليه النووي بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الهبة (2576) ولفظه: “كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا أُتِيَ بطعامٍ سألَ عنه: أهَديّةٌ أم صَدَقة؟ فإنْ قيل: صدقة، قال لأصْحابه: كُلُوا ولم يأكل، وإنْ قيل: هديّة، ضربَ بيده - صلى الله عليه وسلم - فأكلَ مَعهم».

     قوله: «َأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ، سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ، أَكَلَ مِنْهَا» أي: كان - صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية، القليل منها والكثير، وكان يقول: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، ولَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ أو كراع لَقَبِلْت». رواه البخاري، والكراع: ساق الغنم والبقر العاري من اللحم، وكان يُثيب على الهدية بأكثر منها، وكان أيضاً يبتدئ أصْحابه بالهدية.

حضٌ على المُهاداة والصلة

     قال ابن بطال: حضٌ منه لأمته على المُهاداة والصلة، والتأليف والتَحاب، وإنما أخْبر أنه لا يحقِّر شيئاً مما يُهْدى إليه، أو يُدْعى إليه، لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المُهدَى، وإنما أشار بالكُراع إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية.انتهى

وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلُ الهَدية، ولا يأكلُ الصدقة». رواه أبو داود وصححه الألباني، قال الحافظ ابن حجر: «والأحاديث في ذلك شهيرة».

كان - صلى الله عليه وسلم - لا يأكلُ الصَّدقة

     ويقول ابنُ عبد البر: “رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأكلُ الصَّدقة، وكان يأكل الهَدِية، لِمَا في الهديَّة مِنْ تآلف القلوب، والدعاء إلى المحبة والأُلْفة، وجائز عليها الثواب، فترتفع المِنَّة، ولا يجوز ذلك في الصدقة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ويثيب عليها خيراً منها، فترتفع المنة».

أحكام لا تتعدّاه - صلى الله عليه وسلم -

     قوله: “وَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ، لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا” لأنَّ الصَّدقة مُحرّمة عليه - صلى الله عليه وسلم -، قال النووي: فيه: استعمال الوَرَع والفَحْص، عن أصْل المآكل والمشارب، فمما اختصُّ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أحكام لا تتعدّاه إلى أمته، كونه لا تحلّ له الصدقة، ولا لآله، فهذه من جمله خصائصه.

خصائص ومقامات

     قال العلماء: وقد اختصّ الله سبحانه نبينا - صلى الله عليه وسلم - بخصائص ومقامات في الدنيا والآخرة، ليست لسائر الناس، فمن خصائصه في الآخرة: أنه صاحب الشفاعة، والوسيلة والفضيلة، وهي أعلى درجةٍ في الجنة، وهو أول من تنشقُّ عنه الأرض يوم القيامة، وأول مَنْ يَدخل الجنة، وأنه أكثر الناس تبعاً يوم القيامة، وأُعطي نهر الكوثر.

عُموم رسالته - صلى الله عليه وسلم

     ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا: عُموم رسالته، وأنه أُُوتي جوامع الكلم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «فُضِلتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطيت جَوامعَ الكلم، ونُصرت بالرُّعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجدا، وأُرْسلت إلى الخَلْق كافة، وخُتم بي النبيون». رواه مسلم.

حكمة تحريم الصدقة على النبي - صلى الله عليه وسلم

وقد ذكر أهلُ العلم: بعض الحِكم التي لأجلها حُرِّمت الصّدقة على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، منها:

شَرَفُ النبوة

شَرَفُ النبوة، وارتفاع مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على سائر الخَلْق، فحرّم الله -عز وجل- عليه وعلى آله الصدقة، حفظاً لمكانته من أنْ يَرْتفعَ عليه مَنْ هُو أدنى منه، بصدقةٍ أو زكاة.

إغلاق باب الطعن

     ومنها: أن الله -تعالى- قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} الشورى:23، وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ص:86، فلو أنّ الله -عز وجل- أحلَّ له ولآله الصّدقات، لأوْشك المُشركون أنْ يَطْعنوا عليه، فأَغْلقَ الله -تعالى- باب طعنهم من هذه الناحية، بتَحْريم الصَّدقات عليه وعلى آله، وإلى هذا المعنى أشار الحافظ ابن حجر والشوكاني.

الصّدقة تختلفُ عن الهدية

    ومنها: أنّ الزكاة والصّدقة تختلفُ عن الهدية، فالزكاة تُخْرج لتطْهير مالِ الغني، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها}التوبة: 103، أما الهَدِية فتُخْرج لكسبِ ودّ الناس وحُبّهم. والزكاة فريضة على كلِّ مسلمٍ غني، قد يدفعها المسلمُ بغيرِ طيب نفسٍ، ولكن بغرضِ أداء الواجب، أو خوف السلطان، أما الهدية: فهي ليست واجبة على العبد، فالأصْل أنه يُخْرجها عن طيبِ نفس.

مسألة (1)

اختلف العلماء: هل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يشاركون النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرمة أكل الصدقة؟ أم أنه اختصّ به دونهم؟

     ذهب الحسن البصري إلى أن الأنبياء تشاركه في ذلك، وذهب سفيان بن عيينة إلى اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بذلك دونهم، قال ابن الملقن: «اختلف علماء السلف: هل شاركه في ذلك الأنبياء، أم اختصَّ به دونهم؟ فقال بالأول: الحسن البصري، وبالثاني: سفيان بن عيينة».

مسألة (2)

هل يُتَّبَع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حُرمة أخذ الصدقة وأكلها؟

     والجواب: مَنْ لم يكنْ منْ آل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فله أنْ يقبل الصَّدقة، ورجّح النووي استحبابَ قبولها، وليس الناس مُتَعَبَدِّين باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدمِ أخذِ الصَّدقة، فلا يصحّ التأسّي به في ذلك، لأنه - صلى الله عليه وسلم -، لَمّا امتنع عن أكل الصدقة، قرّبَها إلى أصحابه فأكلوا منها، كما هو نصّ الحديث: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتِيَ بطعام سأل عنه: أهديّة أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل: هديّة ضرب بيده - صلى الله عليه وسلم - فأكل معهم». رواه البخاري.

الأكل مما تُصُدِّق به

     وقد أكَل النبي - صلى الله عليه وسلم - مما تُصُدِّق به على هريرة -رضي الله عنها-، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- السابق، قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبُرْمَة على النار، فَقُرِّب إليه خبزٌ وأدم مِن أدم البيت، فقال: «ألم أرَ البُرْمَة فيها لحم؟» قالوا: بلى، ولكِنْ ذلكَ لحْمٌ تُصُدِّقَ به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، قال: «هو عليها صدقة، ولنا هدية». رواه البخاري، وأما الترفّع عن أخذ الصدقات، والتعفُّف عنه، فهذا مطلوب، إلاّ أنْ يكونَ الإنسان فقيراً محتاجاً.

جواز عدمِ قبول الصدقة

وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على جواز عدمِ قبول الصدقة في بعض الأحوال، بامتناع حكيم بن حزام - رضي الله عنه - عن قبول حقّه من بيت المال، فلو أن شخصاً رفض قبول الصدقة، خوفاً من المِنَّة، أو لأنه يرى أنه ليس من المستحقين لها، فلا حرجَ عليه في عدم قبولها، لأنَّ قبولها ليس واجباً في الأصل. قال النووي في (المجموع): «إذا عُرِضَ عليه مالٌ مِنْ حلال، على وجهٍ يجوز أخذه، ولم يكن منه مسألة ولا تطلّع إليه، جازَ أخذه بلا كراهة، ولا يَجب»، وعلى هذا فعدم قبول الصدقة والزكاة، ليس مما يجب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه؛ إذ إنّ حُرمة أخذ الصدقة وأكلها، من الأحكام التي اختصّ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمته.

قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدايا

ومن الأحاديث في قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدايا من أصحابه، وإشراكهم فيها، وتجنبه للصدقات، ما رواه البخاري في صحيحه: أنَّ أبَا هُرَيْرَة كان يقولُ: أللَّهِ الذي لا إلَهَ إلَّا هو، إنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بكَبِدِي على الأرْضِ مِنَ الجُوعِ، وإنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ على بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، ولقد قَعَدْتُ يَوْمًا علَى طَرِيقِهِمُ الذي يَخْرُجُونَ منه، فَمَرَّ أبو بَكْرٍ، فسأَلْتُهُ عن آيَةٍ مِن كتابِ اللَّهِ، ما سأَلْتُهُ إلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ ولَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بي عُمَرُ، فَسَأَلْتُهُ عن آيَةٍ مِن كتابِ اللَّهِ، ما سَأَلْتُهُ إلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بي أبو القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وعَرَفَ ما في نَفْسِي وما في وجْهِي، ثُمَّ قال: يا أبا هِرٍّ قُلتُ: لَبَّيْكَ يا رسول اللَّهِ، قال: الحَقْ ومضَى فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ، فأذِنَ لِي، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا في قَدَحٍ، فقال: مِن أيْنَ هذا اللَّبَنُ؟ قالوا: أهْدَاهُ لك فُلَانٌ أوْ فُلَانَةُ، قالَ: أبَا هِرٍّ قلتُ: لَبَّيْكَ يا رسولَ اللَّهِ، قال: الحَقْ إلى أهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لي قالَ: وأَهْلُ الصُّفَّةِ أضْيَافُ الإسْلَامِ، لا يَأْوُونَ إلى أهْلٍ ولَا مَالٍ ولا على أحَدٍ، إذا أتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بها إليهِم ، ولَمْ يَتَنَاوَلْ منها شيئًا، وإذَا أتَتْهُ هَدِيَّةٌ أرْسَلَ إليهِم وأَصابَ منها، وأَشْرَكَهم فِيها، فساءَنِي ذلك، فقُلتُ: وما هذا اللَّبَنُ في أهْلِ الصُّفَّةِ، كُنْتُ أحَقُّ أنَا أنْ أُصِيبَ مِن هذا اللَّبَنِ شَرْبَةً أتَقَوَّى بهَا، فَإِذَا جَاءَ أمَرَنِي، فَكُنْتُ أنَا أُعْطِيهِمْ، وما عسَى أنْ يَبْلُغَنِي مِن هذا اللَّبَنِ، ولَمْ يَكُنْ مِن طَاعَةِ اللَّهِ وطَاعَةِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -َ بُدٌّ، فأتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهم فأقْبَلُوا، فاسْتَأْذَنُوا فأذِنَ لهمْ، وأَخَذُوا مَجَالِسَهم مِنَ البَيْتِ، قال: يا أبَا هِرٍّ قُلتُ: لَبَّيْكَ يا رسولَ اللَّهِ، قال: خُذْ فأعْطِهِم، قال: فأخَذْتُ القَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ فَيَشْرَبُ حتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، حتَّى انْتَهَيْتُ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم -َ وقدْ رَوِيَ القَوْمُ كُلُّهُمْ، فأخَذَ القَدَحَ فَوَضَعَهُ علَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إليَّ فَتَبَسَّمَ، فَقال: أبَا هِرٍّ قُلتُ: لَبَّيْكَ يا رسولَ اللَّه، قال: بَقِيتُ أنَا وأَنْتَ قُلتُ: صَدَقْتَ يا رسولَ اللَّه، قال: اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقالَ: اشْرَبْ فَشَرِبْتُ، فَما زَالَ يقولُ: اشْرَبْ حتَّى قُلتُ: لا والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، ما أجِدُ له مَسْلَكًا، قال: فأرِنِي فأعْطَيْتُهُ القَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وسَمَّى، وشَرِبَ الفَضْلَةَ.

فوائد الحديث

وفي الحديث من الفوائد منها:

كرم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإيثاره على نفسه وأهله وخادمه.

وفيه: ما كان بعض الصحابة عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضيق الحال.

وفضل أبي هريرة - رضي الله - وتعففه عن التصريح بالسؤال، واكتفاؤه بالإشارة إلى ذلك.

وتقديمه طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - على حظ نفسه مع شدة احتياجه.

وفضل أهل الصفة - رضي الله عنهم .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك