رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 21 سبتمبر، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: قبول الصّدقة عن الكَسْب الطيِّب وتربيتها

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، إِلَّا أَخَذَهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصَهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ، أَوْ أَعْظَمَ». في الباب حديثان: الحديث الأول :رواه مسلم في الزكاة (2/702) وبوب عليه النووي، بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الزكاة (1410) باب: الصدقة من كسْبٍ طيب، لقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة: (276-277).

     والباب الذي قبله عنده، هو باب: لا يقبل الله صدقةً من غُلول، ولا يَقبل إلا منْ كسْبٍ طيّب، لقوله: {قولٌ مَعْروفٌ ومغْفرةٌ خيرٌ مِن صدقةٍ يتبعها أذى واللهُ غنيٌ حليمٌ} (البقرة: 263)، والحديث قد رواه مسلم بلفظ آخر عنه: عنِ النَّبيِّ -[- قال: «مَا تصدَّقَ أحدٌ بصَدقةٍ من طيِّبٍ -ولا يقبلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ- إلَّا أخذها الرَّحمنُ بيمينِهِ، وإنْ كانتْ تَمرةً، فتربُو في كفِّ الرِّحمنِ، حَتَّى تكونَ أعظمَ منَ الجبلِ، كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّهُ أوْ فصيلهُ».

قوله: «لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ»

بتمرة: فيه أنَّ الصَّدقة مُسْتحبّة ومطلوبة، ولو كانت شَيئاً قليلاً، لأتها تَعظمُ عند الله -تعالى-، كما في الحديث الآخر: «اتقوا النّار ولو بشقّ تمرة».

قوله: «مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ»

     أي: من طريق حلال ومباح، كبيع وشراء وإيجاره، أو وظيفة مباحة، وليس بسبب طريق محرّم كالغش، والتدليس في البيع والشراء، أو الربا، أو الرشوة، أو القمار، أو نحو ذلك منَ المكاسب المحرّمة، فمثل هذا ليس من الكسب الطيب، والله تبارك و-تعالى- لا يقبله، وفي البُخاريُّ في بعضِ طرقِهِ: «مَنْ تصدَّقَ بِعَدلِ تمرةٍ مِنْ كسبٍ طيِّبٍ» والعَدْل: بفتح العين، أي: بمثل وقيمة، وبكسر العين، أي: الحِمْل، فيُخبِرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مَن تَصدَّقَ بقِيمةِ تَمرةٍ مِن كَسْبٍ طيِّبٍ حَلالٍ- ولا يقبَلُ اللهُ إلَّا الكسْبَ الحلالَ- فإنَّ اللهَ -سُبحانَه وتعالى- يَتقبَّلُها بيَمينِه كَرامةً لها، وكِلْتَا يَدَيْه -تعالى- يَمِينٌ مُبارَكةٌ، ثمَّ يُنَمِّيها ويُضاعِفُ أجرَها، لِتَثقُلَ في ميزانِ صاحبِها، كما يُربِّي المرءُ مُهْرَه الصَّغيرَ مِن الخَيْلِ الَّذي يَحتاجُ للرِّعايةِ والتَّربيَةِ، حتَّى تَكونَ تلك الصَّدقةُ اليسيرة مِثلَ الجبَلِ، حَجْمًا وثِقَلًا يومَ القِيامةِ في ميزانه.

وقوله: «فُلوه» بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، وهو المُهْر لأنه يُفلى، أي: يُفْطم، وقيل: هو كلّ فطيمٍ من ذات حافر، والجمع أفلاء، كعدو وأعداء، وقلوصه: القَلوص الناقة الفتيّة.

الصَّدقةَ لا تُقبَلُ إلَّا إذا كانت طيِّبةً

     وفي الحديثِ: أنَّ الصَّدقةَ لا تُقبَلُ عندَ اللهِ -تعالى- إلَّا إذا كانت طيِّبةً، بأنْ تَكونَ خالصةً لله، ومِن كسْبٍ حلالٍ. فالطيب لا يُناسبه إلا الطيب، ولا يرضى إلا به، فلله الكلم الطيب، الذي لا يصعد غيره إليه، كما قال -سبحانه-: {يمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} البقرة: 276.

     وهكذا الطيّب من الناس لا يسكن إلا إلى مثله، ولا يطمئن قلبه إلا به، وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها، وهي الأعمال التي اتفق على حُسنها الشرع والعقل والفطرة، وله أيضًا من الأخلاق أطيبها وأزكاها، ولا يختار من المطاعم إلا أطيبها، ولا يختار منَ المناكح إلا أطيبها وأزْكاها، وكذلك لا يَختار مِنَ الأصْحاب إلا الطيبين منهم، ومن الرائحة أطيبها وأزكاها. فروحُه طيبة وبدنه طيب وخُلقه طيب، وعمله طيب، وكلامه طيب، ومُدخله طيب ومُخرجه طيب.

لا يُقبل العمل إلا بأكل الحلال

     قال الحافظ ابن رجب: في هذا الحديث إشَارة إلى أنّه لا يُقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وإنَّ أكل الحرام يُفسد العمل، ويُمنع قَبوله، قال - صلى الله عليه وسلم -: «الأكثرون هم الأسْفلُون يوم القيامة، إلا مَنْ قال بالمال هكذا وهكذا، وكسَبَه من طيِّب» رواه ابن ماجة وإسناده صحيح، فالطِّيب عُنوان سعادة العبد، والخُبْث عنوان شقاوته.

الصدقة ادِّخار عند الله

     والصدقة هي ادِّخار عند الله، وقد سماها قرضاً، كما قال -سبحانه-: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} البقرة: 245، وسماها تجارةً معه سبحانه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الصف: 10 -12).

قوله: «فإنَّ الله يقبلها بيمينه»

     فيه إثباتُ صِفة اليد لله -تعالى-، وإثبات صِفة اليمين، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، وقد دلَّ على هذا نصوص من الكتاب والسنة، وقد قال الله: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الزمر:67، وذلك على ما يليق بجلال الله وعظمته، كما أنّ أيضاً ذكر اليمين يعني معنى خاصاً، وهو القوة وأيضاً: الاعتناء بهذا الشيء. قال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضى يُتلقَّى باليمين، ويُؤخذ بها، استعمل في مثل هذا؟ واستعير للقبول لقول القائل: «تلقاها عرابة باليمين» أي: هو مُؤهل للمجد والشرف، وليس المراد بها الجارحة؟!

     قال الحافظ ابن حجر: هذه التأويلات ليس لها وجْه، والصواب: إجراءُ الحديث على ظاهره، وليس في ذلك بحمدِ الله محذور عند أهل السنة والجماعة، لأنَّ عقيدتهم الإيمان بما جاء في الكتاب والسُّنة الصحيحة، منْ أسماء الله سبحانه وصفاته، وإثبات ذلك لله على وجْه الكمال، مع تنزيهه -تعالى- عنْ مشابهة المخلوقات، وهذا هو الحقّ الذي لا يجوز العُدول عنه.

وقال الترمذي في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهاً ولا نقول كيف؟ هكذا روي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك وغيرهم، وأنكرت الجهمية هذه الروايات. انتهى.

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا

ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ: ﺍﻗﺘﺒﺎﺱ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة:276)، ﻓﺎﻟﻤﺮﺍﺩ ﺑﺎﻟﺮﺑﺎ ﺟﻤﻴﻊ الأﻣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻤﺤﺮﻣﺎﺕ، ﻭﺍﻟﺼﺪﻗﺎﺕ ﺗﻘﻴﺪ بالأﻣﻮﺍﻝ الحلال، وﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﻓﻀﻞ الله وﺭﺣﻤﺘﻪ ﻭﺳﻌﺔ ﻛﺮﻣﻪ.

الحثّ على أكل الحلال

     وفي الحديث: الحثّ على أكل الحلال الطيب، وأثر ذلك في قبول الطاعات، وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وقد كثرت الآيات في ذلك، فمنها: قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة: 168)، فأمر الله -تعالى- بالأكل من الحلال، وأتبع ذلك بالنَّهي عن اتباع خُطوات الشيطان، لأنّ الشيطان أحْرص ما يكون على أنْ يأكل الإنسان اللقمة الحرام، لأنَّ هذا مما يُضيع عليه أعماله، وقد قال بعض أهل العلم: إنَّ الشَّيطان يقول: خَصلة منْ ابن آدم أُريدها، ثم أُخلِي بينه وبين ما يريد من العبادة، أجعل كَسْبَه من غير حلٍّ، إنْ تزوَّج تزوَّج مِنْ حرام، وإنْ أفطرَ أفطر على حرام، وإنْ حجّ حجَّ من حرام.

     وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة: 172)، وقال -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} المائدة: 4، وقال -تعالى-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف: 157.

فالأكل من الحلال يُنوّر القلب ويُصْلحه، فتزكو بذلك الجوارح، وتُدْرَأ المفاسد، وتكثر المصالح، وعكس ذلك، فإنَّ أكل الحرام والمشتبه به يُصدئ القلب ويُظلمه، ويُقَسِّيه، وهو من موانع قبول الدعاء.

  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك