رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 16 مارس، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: في الحثّ على النَّفَقة

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: قَال اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: «يَا ابْنَ آدَمَ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»، وقَال: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى، (وقال ابنُ نُمَيْرٍ: مَلْآنُ) سَحَّاءُ، لا يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»، الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/690-691) باب : الحثّ على النَّفَقة، وتبشير المنفق بالخلف، وفي الراوية الأخرى لمسلم قال: «يدُ اللهِ مَلأى، لا يغيضها نفقة، سحَّاء اللَّيل والنَّهار، أرأيتُم ما أَنفَق منذ خَلَق السَّماوات والأرض، فإنَّه لم يَغِضْ ما بيدِه، وكان عرشُه على المَاء، وبِيدِهِ الميزان يَخفض ويرفع». مسلم (993)، وقد رواه البخاري (4684)، فالحديث متفق عليه.

 

     قوله : عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال : قَال اللَّهُ -تَبَارَكَ وتَعَالى-: «أي: هو من الأحاديث القدسية، والحديث القدسي هو الحديث الذي يُسنده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله -عزّ وجل-، والقدسي نسبة للقدس، ومعناه التكريم والتعظيم والتَّنزيه، ومن مُناسبة وصف هذا النوع من الأحْاديث بهذا الوْصف، أنّ الأحاديث القدسية تدور معانيها في الغالب على تقديس الله وتمجيده، وتنزيهه عما لا يليق به من النقائص، وقليلاً ما تتعرض للأحكام التكليفية.

     ويرد الحديث القدسي بصيغ عديدة، كأنْ يقول الراوي مثلاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه، أو أنْ يقول الراوي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله -تعالى-، أو يقول الله -تعالى.

     ومما يجدر التنبيه عليه: أنَّ وصف الحديث بكونه قدسياً، لا يعني بالضرورة ثبوته، فقد يكون الحديث صحيحاً، وقد يكون ضعيفاً أو موضوعاً، إذْ إنَّ الصحة والضعف المدار فيه على السند، وقواعد القبول والرد التي ذكرها المحدثون في هذا الباب، أمَّا هذا الوصف، فيتعلق بنسبة الكلام إلى الله -تبارك وتعالى.

     واختلف أهل العلم في الحديث القدسي: هل هو من كلام الله -تعالى- بلفظه ومعناه؟ أم أنّ معانيه من عند الله وألفاظه من الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ فذهب بعضهم إلى أنَّ ألفاظه ومعانيه من الله -تعالى-، أوحى بها إلى رسوله -عليه الصلاة والسلام لكن من غير طريق جبريل عليه السلام-، إما بإلهام، أو قذف في الروع، أو حال المنام، إلا أنه لم يُرِد به التَّحدي والإعجاز، وليست له خصائص القرآن، وذهب آخرون إلى القول الثاني: وهو أن الحديث القدسي كلام الله بمعناه فقط، وأما اللفظ، فللرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا القول هو الصحيح الراجح.

فهناك فروق عدة بين القرآن الكريم والحديث القدسي، ومن أهم هذه الفروق :

1- أن القرآن الكريم كلام الله، أوْحى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه، وتحدى به العرب، بل الإنس والجن، أنْ يأتوا بمثله، وأما الحديث القدسي فلم يقع به التَّحدي والإعجاز.

2- القرآن الكريم جميعه منقولٌ بالتواتر، فهو قَطْعي الثبوت، وأما الأحاديث القُدسية، فمعظمها أخبار آحاد، فهي ظنية الثبوت، ولذلك فإن فيها الصحيح والحسن والضعيف.

3- القرآن الكريم كلام الله بلفظه ومعناه، ليس في ذلك اختلاف، وأما الحديث القدسي، فمعناه من عند الله، ولفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم، على الصحيح من أقوال أهل العلم.

4- القرآن الكريم مُتعبّدٌ بتلاوته، وهو الذي تتعيّن القراءة به في الصلاة، ومَنْ قرأه كان له بكلّ حرفٍ حَسَنة، والحسنة بعشر أمثالها، وأما الحديث القدسي فغير متعبدٍ بتلاوته، ولا يُجْزئ في الصلاة، ولا يشمله الثواب الوارد في قراءة القرآن.

     ومجموع الأحاديث القدسية المروية - بغض النظر عن صحتها - يقارب الألف، وقد أفردها العلماء بالتصنيف، ومنهم الشيخ المناوي -رحمه الله- في كتابه المسمى (الإتحافات السَّنية في الأحاديث القدسية)(مطبوع)، وعلي بن بلبان المقدسي في كتابه (المقاصد السنية الأحاديث الإلهية) (حقق)، وهناك كتبٌ معاصرة، منها كتاب (الجامع في الأحاديث القدسية) للشيخ عبد السلام بن محمد علوش، وكتاب (الصحيح المسند من الأحاديث القدسية) للشيخ مصطفى العدوي.

- قوله: «قال اللهَ -تَبَارَكَ وتَعَالَى-: «يَا ابْنَ آدَمَ أَنفِقْ أُنفِقْ عليكَ». أي: إذا أنفقتَ شَيئا، أنْفقَ الله عليك، وأعطاك مِنْ عنده خَلَفا وبدلاً، وهذا خلاف ما يظنه كثيرٌ من الناس، من أنه إذا أنفق نقصَ ماله، وأنّها تجلب له الفقر، فهذا غير صحيح، فإنّ المؤمن إذا أنفق في الوجوه الصحيحة من الواجبات والمُستحبات، فإنَّ ذلك يكون سبباً لرزق يسوقه الله إليه كما وعد هنا، وفي رواية: «أنفِقْ يا ابن آدم يُنفَقْ عليك» يُنفَق، مبني للمجهول، أي: الله -عز وجل- يُنفق عليك، ويُعوّضك أيها الإنسان عنها.

- وقوله: «أنْفق يُنْفق عليك»، هو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «اللهم أعْطِ مُنفقاً خَلَفاً، واللهم أعْط مُمْسكاً تلفا»، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُحْصِي فيُحْصِي الله عليكِ، ولا تُوكِي فيُوكِي الله عليكِ»، بمعنى لا يعد عدّاً دقيقاً، كم ذَهب من المال؟ وكم خرج؟ وكم بقي من المال؟

 يقول صلى الله عليه وسلم : «ثلاثٌ أقْسم عليهن: ما نقصَ مالٌ من صدقة...». رواه أحمد والترمذي.

    فهذه أربعة أحاديث تبين أنّ الإنفاق هو سبب لتكثير الرزق ونمائه، والبركة فيه، وسعة عطاء الله للعبد، وتردُّ على من ظنّ أن الصدقة منقصة للمال، جالبة للفقر، وتبين أنّ الشح والبخل هو سبب حرمان البركة، وتضييق الرزق.

- وقد وعد الله -سبحانه- في كتابه بالإخْلاف على من أنفق -والله لا يخلف الميعاد- قال -تعالى-: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}(سبأ: 39)، أي: مهما أنفقتم من شيءٍ فيما أمركم به وأباحه لكم، فإنه يخلفه عليكم في الدنيا بالبدَل، وفي الآخرة بحُسْن الجزاء والثواب، فأكّد هذا الوعد بثلاثة مؤكدات، تدل على مزيد العناية بتحقيقه، ثم أتبع ذلك بقوله: {وهو خير الرازقين}، لبيان أنّ ما يُخْلِفه على العبد أفضل مما ينفقه.

- ومما يدل أيضاً: على أنَّ الصدقة بوابة للرزق، ومِنْ أسباب سعته واستمراره وزيادته، قوله -تعالى-: {لئن شكرتم لأزيدنكم}(إبراهيم: 7)، والصدقة علامة ودلالة على الشكر.

     فضلا عن أن الواقع والتجربة المشاهدة والمحسوسة، تثبت أن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة، وأنّ رزق العبد يأتيه بقَدْر عطيته ونفقته، فمن أَكثر الإنفاق، أُكثر الله له، ومَنْ أقل أُقِل له، ومَنْ أمسك أُمسِك عليه، وهو أمرٌ مجرب محسوس، فالأمر يرتبط بإيمان العبد ويقينه بما عند الله، قال الحسن البصري -رحمه الله-: «منْ أيقن بالخُلْف، جادَ بالعطية».

- وقال: «يَمينُ اللهِ مَلأى»، أو قال: «مَلْآنُ»، أيْ: شديدة الامتِلاء بالخَير والبركة، «لا تَغِيضُها نفقة»، أي: لا تَنقُصُها، «سَحَّاءُ اللَّيلِ والنَّهارِ» سحَّاء أي: كثيرةُ العطاءِ.

وفيه: إثباتُ صِفةِ اليَدِ للهِ -سبحانه- على ما يَليقُ بكمالِه وجلالِه، كما وصف الله نفسه بذلك في كتابه الكريم.

- وفي الرواية الأخرى لمسلم: قال صلى الله عليه وسلم : «أرأيتُم ما أَنفَق منذ خَلَق السَّماوات والأرض؟! فإنَّه لم يَغِضْ ما بيدِه، وكان عرشُه على الماء، وبِيدِهِ الميزان يَخفض ويرفع»، أي: هل تعلمون أنَّ الذي أنفَقَه منذُ خَلَق السَّماء والأرض؟ «فإنَّه لم يَغِضْ، أي: لم يَنقُصْ ما في يَدِه ويمينه.

     قال الطيبي: يجوز أنّ يكون «أرأيتم» استئنافًا فيه معنى الترقي، كأنه لما قيل: ملأى، أوهم جواز النقصان، فأزيل بقوله: «لا يُغِيضها نفقة»، وقد يمتلئ الشيء ولا يفيض، فقيل: «سحَّاء» إشارة إلى الفيض، وقرنه بما يدل على الاستمرار من ذكر الليل والنهار، ثم أتبعه بما يدل على أن ذلك ظاهر، غير خافٍ على ذي بصر وبصيرة، بعد أنْ اشتمل من ذكر الليل والنهار، بقوله: «أرأيتم» على تطاول المدّة، لأنه خطاب عامّ، والهمزة فيه للتقرير، قال: وهذا الكلام إذا أخذتَه بجملته من غير نظرٍ إلى مفرداته، أبان زيادة المعنى، وكمال السعة والنهاية في الجُود والبسط في العطاء.

- وقوله: «وكان عَرْشُه على الماءِ»، كما قال -تعالى- في كتابه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(هود: 7)، فعرشُ الله -عزّ وجل- كان على الماء قبل خَلق السماوات والأرض، ولا يزال العرش على الماء كما كان، كما في رواية للصحيحين: «وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» فهو على ما كان عليه.

- قوله: «وبيدِه المِيزانُ، يَخْفِض» مَن يَشاءُ، «ويَرفَع» مَن يَشاء، وأئمَّةُ السُّنَّةِ على وُجوبِ الإيمانِ بهذا الحديثِ وأشباهِه من غَيرِ تأويلٍ، بل يُمرُّونَه على ظاهرِه كما جاءَ، ولا يُقال: كيف؟

- والحديث: من الأحاديث العظيمة التي تحث على الصدقة، والبذل، والإنفاق في سبيل الله، وأنها من أعظم أسباب البركة في الرزق ومضاعفته، وإخلاف الله على العبد ما أنفقه في سبيله.

     والحَضُّ على الإنفاقِ يكون فِي الواجباتِ، كالنفقةِ على الأهلِ والولد، وصِلةِ الرَّحمِ، ويَدخُل فيه أيضًا صَدقةُ التطوُّعِ، والوعدُ بإخلافِ اللهِ -تعالى- على المُنفِقِ.

- وقد جاءت النصوص الكثيرة التي تبين فضائل الصدقة والإنفاق في سبيل الله، وتحث المسلم على البذل والعطاء، ابتغاء الأجر الجزيل من الله -سبحانه-، فقد جعل الله الإنفاق على السائل والمحروم مِنْ أخصّ صفات عباد الله المحسنين، فقال عنهم: {إنهم كانوا قبلَ ذلك مُحْسنين كانوا قَليلاً مِنَ الليلِ ما يَهْجَعون وبالأسْحَار هم يَسْتغفرون وفي أمْوالهم حقٌ للسَّائل والمَحْروم}(الذاريات: 16-19).

     وضاعف العطية للمنفقين بأعظم مما أنفقوا أضعافاً كثيرة في الدنيا والآخرة، فقال -سبحانه-: {مَنْ ذَا الذي يُقْرض الله قَرْضاً حَسناً فيُضَاعفه له أضْعافاً كثيرة}(البقرة: 245).والصدقة من أبواب الخير العظيمة، ومن أنواع الجهاد المتعدّدة، بل إنّ الجهاد بالمال، مُقَدمٌ على الجهاد بالنفس في الآيات التي ورد فيها ذكر الجهاد، إلا في موضع واحد.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «جَاهدِوا المُشْركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» رواه أبو داود.

     وأحب الأعمال إلى الله، الإنفاق في وجوه الخير، كما جاء في الحديث «سرورٌ تدخله على مُؤمن، أو تَكْشف عنه كَرباً، أو تَقْضي عنه ديناً، أو تَطْرد عنه جُوعاً...». رواه البيهقي، وحسنه الألباني.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك