رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 28 ديسمبر، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: في المتصدِّق والبخيل

 


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ، مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، إِذَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ ، حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ، وَإِذَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِصَدَقَةٍ؛ تَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ، وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ، وَانْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا». قَال: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: « فَيَجْهَدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا؛ فَلَا يَسْتَطِيعُ».، الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/708) باب : مثل المنفق والبخيل، ورواه البخاري في الزكاة (1443) وغيره  ولفظه: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ؛ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلا يُنْفِقُ إِلا سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا، إِلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا ولا تَتَّسِعُ».

     قوله: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ» المثل والمثال هو الشَّبَه والشَّبيه، والمثل يُضْرب لتقريب المعنى للأذهان، وقوله: «مَثَلُ رَجُلَيْنِ عليهما جُنَّتان» مثنى مفرده جُنَّة، وهي في الأصل: الدِّرع، سُميت بها؛ لأنها تَجِنُّ صاحبها، أي: تحميه من الطَّعن ونحوه وتُحصِّنه، وفي لفظ البخاري: «جُبَّتان» مثنى، مفرده: جُبَّة، وهي ثوب معروف، وقوله: «تَراقِيهمَا» جمع تَرْقُوة، وهي العظم الذي بين ثُغْرة النَّحر والعَاتِق.

قوله: «سَبَغَت»

     وقوله: «سَبَغَت» أي امتدَّت وغَطّت. «تُخفِيَ بنانه» تَستر أَصَابِعه، والبنان: الإِصبَع. و»تَعْفُو أَثَره»أي: تَستُرُ أثَره، قال الخطَّابِيّ وغيره: هذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- لِلبَخِيلِ والْمُتَصَدِّقِ، فشَبَّهَهُمَا بِرَجُلَيْنِ أَرَادَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا أَنْ يَلْبَسَ دِرْعًا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْ سِلَاحِ عَدُّوِهِ، فصَبَّها على رأْسِهِ لِيَلْبَسهَا، والدُّرُوعِ أَوَّل ما تَقَعُ عَلَى الصَّدْرِ والثَّدْيَيْنِ، إِلى أَنْ يُدْخِلَ الْإِنْسَان يَدَيْهِ في كُمَّيْها، فجَعَلَ الْمُنْفِقَ كَمَنْ لَبِسَ دِرْعًا سابِغَة فاسْتَرْسَلَتْ علَيْه حَتَّى سَتَرَتْ جمِيعَ بَدَنِهِ، وجُعِلَ البَخِيل كَمَثَلِ رَجُلٍ غُلَّتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، كُلَّمَا أَرَادَ لُبْسهَا اِجْتَمَعَتْ في عُنُقِهِ؛ فَلَزِمَتْ تَرْقُوَته، والْمُرَاد أَنَّ الْجَوَادَ إِذا هَمَّ بِالصَّدَقَةِ؛ اِنْفَسَحَ لَها صَدْرُهُ، وَطَابَتْ نَفْسه فَتَوَسَّعَتْ فِي الْإِنْفَاقِ، والْبَخِيل إِذَا حَدَّثَ نَفْسه بِالصَّدَقَةِ؛ شَحَّتْ نَفْسه فَضَاقَ صَدْرُهُ، وانْقَبَضَتْ يَدَاهُ.

اللَّهُ يَسْتُرُ الْمُنْفِقَ في الدُّنْيَا والْآخِرَةِ

     وقال المُهَلَّب: المُرَادُ أَنَّ اللَّهَ يَسْتُرُ الْمُنْفِقَ في الدُّنْيَا والْآخِرَةِ، بخِلَافِ البَخِيلِ فإِنَّهُ يَفْضَحُهُ، وقِيل: هُو تَمْثِيلٌ لِنَمَاءِ المَالِ بِالصَّدَقَةِ، والبُخْلِ بِضِدِّهِ. وقِيل: تَمْثِيلٌ لِكَثْرَةِ الجُودِ والْبُخْلِ، وأَنَّ الْمُعْطِيَ إِذَا أَعْطَى اِنْبَسَطَتْ يَدَاهُ بِالْعَطَاءِ، وَتَعَوَّدَ ذَلِك، وإِذَا أَمْسَكَ صارَ ذَلِك عادَة. وقال الطِّيبِيّ: قَيَّدَ المُشَبَّهَ بِهِ بِالحَدِيدِ، إِعْلَامًا بِأَنَّ الْقَبْضَ والشِّدَّةَ مِنْ جِبِلَّة الْإِنْسَان، وأَوْقَعَ الْمُتَصَدِّق مَوْقِع السَّخِيِّ؛ لِكَوْنِهِ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبَخِيلِ، إِشْعَارًا بِأَنَّ السَّخَاءَ هُوَ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِع، ونَدَبَ إِلَيْهِ مِن الْإِنْفَاقِ، لا مَا يَتَعَانَاهُ الْمُسْرِفُونَ. (الفتح 3/306).

مثلٌ للجَواد والبخيل

     فهذا المثل ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- للجَواد والبخيل، حيثُ شبَّههما برجلين أرادَ كلٌّ منهما أنْ يلبسَ دِرعًا يتحصَّن بها؛ والدرع عندما يُلبس يمر أولاً على موضع الصدر، إلى أن يُدخلَ لابسُها يديه في كمّيه، ويرسل بقيتها إلى أسفل بدنه، فيستمر نزولا، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- المُنفق مَثلُ مَنْ لبس درعًا سابغة، فاسْترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وجعل البخيل مثل رجلٍ يداه مَربوطتان دون صدره، فإذا أراد لبس الدّرع حالت يداه بينها وبين أنْ تمرَّ إلى الأسْفل على البدن، واجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، فكانت ثقلاً وشرًّا عليه، منْ غير وقايةٍ له، وتحصين لبدنه.

حال الكريم والبخيل

     فالمقصود من ذلك، أنّ الكريم إذا همَّ بالنفقة، انْشَرح صدرُه واتَّسع، وطاوعته يداه، وامتدت بالعطاء؛ لذا فإنّ صدقته ونفقته تكفِّر ذنوبه وتمحوها، وعليه فإنَّ المنفق يستره الله بنفقته، ويستر عوراته في الدنيا والآخرة، وأما البخيل فإنَّ صدره يضيق وتنقبض يده عن الإنفاق، كمن لبس جُبّة إلى ثدييه، فيبقى مكشوفًا ظاهر العورة، مفتضحًا في الدارين، حيث لا تطاوعه نفسه على البذل، فيبقى غير مكفر عنه الآثام، ومُعرضًا للآفات والعذاب.

أسباب مَحْق المال وهلاكه

     فحرصُ البخيل على المال، وعدم الرغبة في إنفاقه، أحد أسباب مَحْقه وهلاكه؛ إذْ يزداد حرص البخيل على المال، حتى يصل إلى درجة الشُّح المُهلك، الذي يحمله على القتل، واسْتحلال المحرّمات، حيث إن في الامتناع عن الإنفاق هجرانًا وتقاطعًا، وطريقاً إلى التشاجر والخصام والعداوة، وسفك الدماء، واستباحة المحرمات من الفروج والأعراض والأموال وغيرها، وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على ذلك؛ حيث قال: «اتقوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، واسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ». رواه مسلم، بينما الصدقة وإنفاق المال في وجوه الخير، تزيد المال وتُكثره وتُباركه، يقول –سبحانه-: {يَمْحَقُ اللَهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276).

     وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، منها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما منْ يومٍ يُصبح العباد فيه إلا مَلَكان يَنْزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعْطِ مُنفقًا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعْطِ مُمسكًا تلفا». (رواه البخاري). فالبخيل يُمْحق ماله، ويصاب بالكوارث فيه، أو يكون سبباً لعنائه وشقائه، ولو لم يكن في الصدقة إلا فائدة انشراح الصدر وحدها، لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها، والمبادرة إليها، وقد قال –تعالى-: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (التغابن: 16).

البخيل محبوس عن الإحسان

     قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «ولما كان البخيل محبوسًا عن الإحسان، ممنوعاً عن البر والخير، كان جزاؤه منْ جنس عمله، فهو ضيِّق الصَّدر ممنوع من الانْشراح، ضيقُ العَطَن (أصل العطن: مبرك الإبل والمقصود: كناية عن البخل) ، صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا يكاد تُقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب، فهو كرجل عليه جُبة من حديد، قد جُمعت يداه إلى عنقه؛ بحيثُ لا يتمكن منْ إخراجها ولا حركتها، وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبة، لزمت كلّ حلقهة من حلقها موضعها، وهكذا البخيل كلما أراد أنْ يتصدق، منعه بخله فبقي قلبه في سجنه كما هو .

     والمتصدّق كلما تصدّق بصدقةٍ، انْشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلما تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح، وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها، لكان العبد حقيقا بالاستكثار منها والمبادرة إليها، وقد قال –تعالى-:{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر: 9).

من فوائد الحديث

أن الصَّدقة سبب مباشر منْ أسباب السعة، والفرح والسرور، ورضا النفس والطمأنينة، فكما يفرح الآخرون بنفقته، يمنحه الله –تعالى- الفرح، وكذا بدعاء الذين لا يفتؤون يدعون له بالخير.

البخل من أسباب الضيق والقلق

     ومنها: أن البخل سببٌ مباشر من أسباب الضيق والقلق، ويظهر ذلك في تعامل البخيل مع أهله وولده، إذ يضيِّق عليهم فيختلفون معه، وتحدث المشكلات فيحصل له الضيق والضجر، بل إن البخيل يعاني مع نفسه؛ إذ يحرم نفسه متع الدنيا، ولا يوسع على نفسه، بدافع المحافظة على المال، فيعيش حياة شقية ضيقة، فيكون بخله سبب ضيقه وشقائه، وأحق الناس بالتوسعة والنفقة هم: الأهل والأولاد؛ حيث بيّن الحديث أن الدرع أقرب ما تكون إلى الجسد، وأقرب الناس للشخص، هم: أهله وذووه.

الجزاء من جنس العمل

     ومنها: أن الجزاء من جنس العمل؛ إذْ إن البخيل تضيق عليه جُبته جزاء بخله، والمتصدق تتسع عليه جبته جزاء إنفاقه، وما أجمل هذا التشبيه وأصدقه في البخيل وما يعاني منه!؛ حيث إنه ضيِّق الصدر، محروم من الانشراح، قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا تكاد تُقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب، وأما درع المتصدق فإنه يكون واسِعاً مريحاً؛ إذْ الصدقة فيها توسعة على الآخرين، بينما كان درع البخيل ضيَّقًا؛ لأنه ضيَّق على نفسه وعلى الآخرين ببخله، وامتناعه عن الإحسان والبر والخير، قال الإمام الماوردي -رحمه الله-: «قد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة -وإن كان ذريعة إلى كل مذمة- أربعة أخلاق ناهيك بها ذمًّا، وهي: الحرص، والشره، وسوء الظن، ومنع الحقوق؛ وإذ آل البخيل إلى ما وصفنا من هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة، لم يبق معه خير موجود ولا صلاح مأمول».

مشروعية لبس الدرع في الحرب

وفيه: مشروعية لبس الدرع في الحرب، وأن لبسها لا ينافي التوكل على الله، وقد ثبت ذلك من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك