رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 8 سبتمبر، 2020 0 تعليق

شرح كتاب الزكاة من صحيح مسلم – باب: فضل إخفاء الصدقة


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».

الشرح:

الحديث رواه مسلم في الزكاة (2/715) باب: فضل إخفاء الصدقة.

ورواه البخاري في الزكاة (1423) باب: الصدقة باليمين، ومواضع غيرها. فالحديث متفق عليه.

- قوله: «سبعة» هذا العدد لا مفهوم له، فقد وردت روايات أخرى، تُبيّن أنّ هناك مَنْ يظلهم الله في ظله، غير هؤلاء المذكورين في هذا الحديث.

- قوله: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» إضافة الظِّل إلى الله تعالى إضافة تشريف, وكُلّ ظِلّ فهو مِلْكُهُ. وقِيل: الْمُرَاد بِظِلِّهِ: كَرَامَته وَحِمَايَته، كما يُقَال: فُلانٌ في ظِلّ الْمَلِكِ. وقِيل: المُرَاد ظِلّ عَرْشه وهو أرجح، كما في رواية أخرى: «في ظل عرشه».

«يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» المراد: يوم القيامة.

     وهذا مما يمن الله به على عباده المؤمنين، في ذلك اليوم العظيم، الذي يكون الناس فيه في كربٍ وشدّة، وتدنو الشَّمس من الخلائق على قدر ميل، ويَعْرق الناس كلٌ على حسب عمله، إلا بعض المؤمنين الذين يختصّهم الله فيُظلهم تحت ظله، ويقيهم من الشمس والعرق.

     فعن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «تَدْنُو الشَّمْسُ مِنْ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَجُزَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْخَاصِرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ عُنُقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُه ُ...». رواه الإمام أحمد (16798).

الإمام العادل

     قَوْله: «الإِمَام الْعَادِل» الإمام المُرَاد بِه: صاحِب الْوِلَايَة العُظْمَى, وَيَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ مَنْ وَلِيَ شيئًا مِنْ أُمُور الْمُسْلِمِين ومصالحهم َفعَدَلَ فِيه، من الولاة والقضاة والوزراء وغيرهم. والعدل: ضد الجَور، والعادل مَنْ حكم بالحق. أو العَادِل: الَّذِي يَتَّبِعُ أَمْر اللَّه تعالى بِوَضْعِ كُلّ شَيْء فِي مَوْضِعه، مِنْ غَيْر إِفْرَاط ولا تَفْرِيط. وَقَدَّمَ الإمام العادل فِي الذِّكْرِ، لِعُمُومِ النَّفْع به للناس.

شاب نشأ بعبادة الله

- قوله: «وَشَابّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ» وَفي حدِيث سلمانَ: «أَفْنَى شَبَابه ونَشَاطه في عِبَادَة اللَّه» خَصَّ الشَّابّ لِكَوْنِه مَظِنَّة غَلَبَة الهوى والشَّهْوَة عليه والطيش، ولِمَا فيه مِنْ قُوَّة الْبَاعِث على ذلك; فمُلَازَمَة العِبَادَة مع ذلك، أَشَدُّ وَأَدَلّ على غلَبَة التَّقْوَى، وقوة الإيمان، لوجود الصوارف عنها، ولذا كان أرفع درجة من ملازمة غيره لها.

- قَوْله: «ورجلٌ قلبُه مُعَلَّق فِي الْمَسَاجِد» وظَاهِره أَنَّهُ مِنْ التَّعْلِيق، كَأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالشَّيْءِ المُعَلَّق فِي المَسْجِد- كَالقِنْدِيلِ مَثَلا- إِشَارَةً إِلى طُول الْمُلازَمَة بِقَلْبِهِ وإِنْ كانَ جَسَده خارِجًا عنه، ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكُون مِنْ الْعَلَاقَة وهيَ شِدَّة الحُبّ.

الحب في الله

- قوله: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ» تَحَابَّا بِتَشْدِيدِ البَاء، أَيْ: اِشْتَرَكَا في المَحَبَّة، في الله تعالى، لا لأجلٍ أمرٍ دُنيوي ولا غيره، وأَحَبَّ كُلٌّ مِنْهُما الآخَرُ حَقِيقَةً لا ظاهرًا فَقَطْ. وقوله: «اِجْتَمَعَا عليه، وتَفَرَّقَا عليه» المُرَاد أَنَّهُما دَامَا على المَحَبَّة الدِّينِيَّة، ولَمْ يَقْطَعَاهَا لعَارِضٍ دُنْيَوِيٍّ، سَوَاء اِجْتَمَعَا حَقِيقَةً أَمْ لا، حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمَوْت.

إني أخاف الله

- قَوْله: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ» دعته، أي: طلبته، المُرَاد بِالمَنْصِبِ: الأَصْل أَوْ الشَّرَف, ويُطْلَقُ على المَال أَيْضًا, فقَدْ وَصَفَهَا بِأَكْمَلِ الأَوْصَاف الَّتِي جَرَتْ العَادَة بالرَّغْبَة فيها لِمَنْ اجتمعت لها من النساء، فالمَنْصِب يَسْتَلْزِم الجَاه، والْمَال مَعَ الجَمَال داعٍ قوي للرجال، وقَلَّ مَنْ يَجْتَمِع ذَلك فِيها مِنْ النِّسَاء. وقوله «دَعَتْهُ» الظَّاهِر أَنَّها دَعَتْهُ إِلَى الفَاحِشَة.

قَوْله: «فَقَالَ إِنِّي أَخَاف اللَّه» الظَّاهِر أَنَّهُ يَقُول ذَلِكَ بِلِسَانِهِ، إِمَّا لِيَزْجُرَهَا عَنْ الْفَاحِشَة، أَوْ لِيَعْتَذِرَ إِلَيها. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَقُولَهُ بِقَلْبِهِ.

وهذا كما قال الله -تعالى- عن نبي الله يوسف -عليه السلام-: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23).

فقوله -تعالى-: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} وهي امرأة العزيز، طلبت منه أنْ يواقعها، وأَصْل المُراودة الإرادة والطَّلب برفق ولين. {وغلقت الأبواب} غلق يقال للكثير، ولا يقال: غلق الباب يقال: إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها.

     {وقالت هيت لك} أي: هلم وأقبل وتعال; قال -تعالى- عن موقف يوسف -عليه السلام-: {قال معاذ الله} أي: أعوذ بالله وأسْتجير به مما دعوتني إليه; وهو مصدر، أي: أعوذ بالله أنْ أفعل هذ الفعل القبيح، الذي يُسْخطُ الله -تعالى-: (إنه ربي) يعني: زوجها، هو سيدي أكرمني فلا أخونه; قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي. وقال الزجاج: أي: إنَّ الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكبُ ما حرَّمه. {إنه لا يفلح الظالمون} لا يفلح من تعاطى الظلم ووقع فيه، وتعدّى حدود الله.

الإخلاص في الصدقة

- قَوْله: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ» الصدقة: ما يُخرجه الإنسان من ماله على وجه القُرْبة، سواء كان فرضاً كالزكاة المَفْروضة، أم تطوعاً، ثم غلب استعمال الصَّدقة على صدقة التطوع.

والمعْنى المَقْصُود هُوَ إِخْفَاء الصَّدَقَة، والمُبَالَغَة فِي إِخْفَاء الصَّدَقَة، بِحَيْثُ إنَّ يده الشِمَال مع قُرْبِها مِنْ يَمِينه وتَلازُمِهِما، لَوْ تَصَوَّرَ أَنَّها تَعْلَم لَمَا عَلِمَتْ مَا فَعَلَتْ الْيَمِين، لِشِدَّةِ إِخْفَائِهَا, وهذا مِنْ مَجَاز التَّشْبِيه.

والصدقة فاضلة سِراً كانت أو علانية، يقول -تعالى-: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} (البقرة: 271).

وإظهار الصَّدقة أو إخفاؤها فضلها يختلف باختلاف الأحوال، فإنْ كان في إظهارها مصلحة فهو أفْضَل، وإلا فإخفاؤها أفضل فرضاً ونفلاً.

ففاضت عيناه

- قَوْله: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» أَيْ: ذكر الله بِقَلْبِهِ، أَوْ بِلِسَانِهِ. «خَالِيًا» مِنْ الخلُوّة، أي: وحيداً، لأَنَّهُ يَكُون حِينَئِذٍ أَبْعَدَ مِنْ الرِّيَاء، أو المُرَاد: خَالِيًا مِنْ الالْتِفَات لغير اللَّه -تعالى.

- قَوْله: «فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» أَيْ: فَاضَتْ الدُّمُوع مِنْ عَيْنَيْهِ, وأُسْنِدَ الْفَيْضُ إِلى الْعَيْن مُبَالَغَةً كَأَنَّها هيَ الَّتِي فَاضَتْ. وفي الحديث عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله». رواه الترمذي وحسّنه، وصحّحه الألباني.

     وفي رواية أنس بن مالك - رضي الله عنه - عند أبي يعلى: «عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ أَبَدًا: عَيْنٌ بَاتَتْ تَكْلأُ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ الله، وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله». والبكاء من خشية الله -تعالى- أصدق وأقوى مترجم عن القلوب الوجلة الخائفة، والعين التي تذرف الدمع من خشية الله لن تمسها النار، لأن العين تتبع القلب، فإذا رقّ القلب دمعت العين، وإذا قسَى القلب قَحَطت العين، قال الإمام ابن القيّم في «بدائع الفوائد»: «ومتى أقْحَطت العينُ من البكاء منْ خشية الله -تعالى-، فاعلم أنّ قحطها منْ قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي».

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله مِنَ القلبِ الذي لا يَخْشع، فيقول: «اللهم إني أعُوذُ بك مِنْ عِلمٍ لا يَنْفع، ومنْ قلبٍ لا يَخْشَع، ومنْ نفسٍ لا تَشْبع، ومنْ دعوةٍ لا يُسْتجاب لها». رواه مسلم.

     ومدح الله -تعالى- البكَّائين منْ خشيته، منْ أنبيائه وأوليائه الصالحين، فقال في محكم التنزيل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (مريم: 58)، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية، فسجد، وقال: هذا السُّجود، فأين البُكي؟ يريد البكاء. و«البكي» جمع باك.

النساء شقائق الرجال

     تنبيه: ذِكْر الرِّجَال فِي هذا الحَدِيث لا مَفْهُومَ له، بلْ يَشْتَرِك النِّسَاء مَعَهُم فِيما ذُكِرَ، إِلا بِالإِمَامِ الْعَادِل وهي الإِمَامَة العُظْمَى، فلا مدخل للنساء فيها، فالولاية العظمى والقضاء خاصّة بالرجال، فالمرأة لا تلي للمُسْلمين ولاية عامة، ولا تكون قاضية، لكن يمكن أنْ يكون عليها العدل فيما تصح به ولايتها، كمديرة المدرسة، ونحوها.

     وكذلك تَخْرُج خَصْلَة مُلازَمَة الْمَسْجِد، لأَنَّ صَلاة الْمَرْأَة في بَيْتِهَا أَفْضَل مِنْ صلاتها في الْمَسْجِد, ومَا عَدَا ذلِكَ فَالمُشَارَكَة حَاصِلَةٌ لَهُنَّ, حَتَّى الرَّجُل الَّذِي دَعَتْهُ الْمَرْأَة، فَإِنَّهُ يُتَصَوَّر فِي اِمْرَأَة دَعَاهَا مَلِكٌ جَمِيل مَثَلا فَامْتَنَعَتْ خَوْفًا مِنْ اللَّه -تَعَالَى- مَعَ حَاجَتهَا. فتح الباري (2/144).

- وهناك آخرون يظلّهم الله في ظلّه- غير السبعة المذكورين في الحديث السابق- جاء ذكرهم في أحاديث أخرى، نظمهم ابن حجر -رحمه الله تعالى- في فتح الباري (620)، وهم: «إِظْلال الْغَازِي, وعَوْن الْمُجَاهِد, وإِنْظَار الْمُعْسِر وَالْوَضِيعَة عَنْهُ وَتَخْفِيف حِمْلِهِ، وإِرْفَادَ ذِي غُرْم، وَعَوْن الْمَكَاتِب, وتَحْسِين الْخُلُق، والمَشْي إلى المساجد، والتَّاجِر الصَّدُوق، وَآخِذ حَقّ، والبَاذِل، والكَافِل».

فضل الله واسع

وقد ذُكر هذا الفضل في أحاديث أخرى لغير هؤلاء السبعة، مثل: الغازي في سبيل الله، والذي ينظر المعسر، ومعين الغارم، وكثير الخطى إلى المساجد، وغيرهم، مما جعل أهل العلم يقولون: إن العدد المذكور لا مفهوم له، فلا يراد به الحَصْر.

وقد تتبع الحافظ ابن حجر رحمه الله تلك الخصال، وأفردها في كتاب سماه: «معرفة الخِصَال المُوصلة إلى الظلال». نسأل الله أن يظلنا تحت ظله، يوم لا ظل إلا ظله.

ما يستفاد من الحديث

ومما يؤخذ من الحديث من الأحْكام والتوجيهات:

1- في الحديث ترغيب ببعض الأعمال الصالحة التي ينال صاحبها جزاء خاصاً يوم القيامة، لتميزه بهذا العمل، فقد ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء السبعة الذين تميز كل منهم بميزة خاصة، حثّاً لأمته على الاتصاف بها.

2-عظّم الشرعُ أمرَ العدل، سواء كان في الولاية العظمى، أو فيما دونها من الولايات، حتى في أمور الإنسان الأسرية، كالعدل بين الزوجات، والعدل بين الأولاد، وغير ذلك، قال -تعالى-: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} (النحل: 90).

وقال -تعالى-: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (الشورى: 15).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم».

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المُقْسطين عند الله، على منابرَ منْ نُورٍ عن يمين الرحمن -عزَّ وجل-، وكلتَا يَديه يمين، الذين يَعْدلُون في حُكْمهم وأهْليهم وما ولوا». رواه مسلم. وذكر الإمام العادل في أول الخصال لعظم أمر الإمامة والعدل فيها.

3- مرحلة الشَّباب منْ أهم مراحل العمر، تقوى فيها العزيمة، وتمتلئ بالحيوية والنشاط، ولهذا اتقى الله، وسلك صراطه المستقيم في شبابه، وغالب هواه ونزواته، استحق تلك الدرجة العالية المذكورة في الحديث، وما يعين الشباب على تحقيق هذه الخصلة:

أ- طلب العلم الشرعي والاشتغال به.

ب- استغلال فرصة الشباب بحفظ كتاب الله -تعالى-، أو ما تيسر منه.

ج- تعويد النفس على استغلال الوقت بما ينفع من قول وعمل، ديني ودنيوي.

د- مصاحبة الصالحين المستقيمين على منهج الله -تعالى.

4- المساجد بيوت الله -عز وجل-، ومكان أداء الصلوات المفروضة، وأنواع من العبادات المستحبة، وميدان العلم والتعلم، والمذاكرة والمناصحة، وكلها أعمال جليلة، يستحق الملازم لها ذلك الثواب العظيم. فضلا عن أنَّ المُتَعلّق بالمسجد بعيدٌ عن رؤية المنكرات، وقريب من الله -سبحانه وتعالى-، فيصفو قلبه، وتنجلي همومه وأكداره، ويعيش في روضة من رياض الجنة، فتكفر سيئاته، وتكثر حسناته.

5- العلاقات بين الناس قائمة على أسُس متعددة، منْ مَصَالح مادية، وشراكة مالية، وقرابة أُسَرية، وتجانس بلدي أو قبلي ونحوها، والإسلام يشجع المسلمين على بناء العلاقات على أساس المَحبّة في الله تعالى، والقاسم المشترك فيها طاعة الله -سبحانه-، ووردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة في هذا الأمر، كقول الله -تعالى-: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10)، وقوله -تعالى-: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 67). ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أوْثَقُ عُرَى الإيمان: الحبُّ في الله، والبُغْض في الله». رواه أحمد (18524).

وروى البخاري (13)، ومسلم (45)، والنسائي (5017)- واللفظ له- عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، مِنْ الْخَيْرِ».

6- للنفس البشرية رغباتٌ وشهوات، وجه الإسلام لإشباعها بمنهج ثابت معلوم، والشيطان حريص على أنْ يميل الإنسان مع شهواته فيخسر دنياه وأخراه.

     ومما يميل إليه الرجل المرأة، فإنْ اتصفت بصفات الجمال والمنصب والحسب والشرف، كان أكثر ميلاً لها، فإذا ما كانت الدعوة موجهة منها، مع الأمن من عقوبة الناس، كانت نفس الرجل أكثر ميلاً، وهنا يظهر داعي الإيمان عند المؤمن الصادق، فيقول: إني أخاف الله، فإذا قالها بلسان وصدقها عمله، نال جزاءه العظيم المذكور في الحديث، وهكذا يريد الإسلام بأن يكون الرجال والنساء أعفاء شرفاء، بعيدين عن الفواحش والآثام والمحرمات، يراقبون الله سراً وعلانية. قال الشاعر:

وإذا خَلوتَ بريبةٍ في ظُلمة

والنَّفسُ داعيةٌ إلى العِصْيان

فاسْتحي منْ نَظَر الإلهِ وقُلْ لها

إنَّ الذي خَلَق الظلامَ يَرَاني

7- الصدقة عملٌ صالحٌ عظيم، وفضلها عميم، وثمارها يانعة، في الدنيا والآخرة، ولا تحصى النصوص في بيان فضلها وثوابها، ومضاعفة الأجر لصاحبها، وقربه من الجنة ورضا الله، وحجبه عن النار، يقول الله -تعالى-: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 261).

8- ومما أفاده الحديث: فضل الإخْلاص في العبادة لله -جل وعلا-، فإن الأمر الجامع بين الأعمال المذكورة في الحديث: إخلاصها لله -سبحانه وتعالى-، وتجرَّدها عن المقاصد الأخرى. فليحرص المؤمن على أنْ يكون له عملٌ خفيٌ، لا يعلم به أحد من الناس، ليكون أبعد عن الرياء، وليتعود الإخلاص.

9- ومن الأمور الجامعة بين هذه الصفات أيضاً: الصبر وهو حبس النفس والتَّحمل، ولا شك أن طاعة الله تعالى، وتنفيذ أوامره تحتاج إلى صبر ومصابرة، لأن فيها معارضة للشيطان والنفس والهوى، فإذا جاهدهم وانتصر عليهم استحق الجزاء الأوفى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك